الأسباب التي تجعل تونس تستحق دعما أقوى من الاتحاد الأوروبي

مارس 2022
مقال من قبل فرانسيس غيلاس /باسم صنيج / مؤسسة روزا لوكسمبورغ

جاء رد الفعل الغربي إزاء إقالة قيس سعيد للحكومة التونسية وتعليق أعمال البرلمان يوم 25 جويلية 2021 بمثابة الإدانة الفورية. وأعرب “المجتمع الدولي” – الذي يُراد به الحكومات الغربية والمراكز البحثية والمنظمات غير الحكومية – عن “قلقه” بل وإدانته الصريحة لما اعتبره عودةً إلى أيام “الدكتاتورية” السالفة، كما ذهب البعض إلى استخدام كلمة “انقلاب”. في المقابل، ساد الصمت في كثير من أنحاء العالم، في حين لم يكن الأمر على تلك الشاكلة بين جيران تونس المباشرين وفي أنحاء الشرق الأوسط حيث عم شعور بالارتياح.

 

أخذ الرئيس التونسي المبادرة في وقت تتزايد فيه الاضطرابات في تونس، بينما مثل شريط الفيديو الذي تداولته الأخبار المسائية لطبيب ينهار أسىً ويبكي غضبا وهو بصدد البحث عن أكسجين لمرضاه صدمةً للأمة. ولم يلبث التونسيون أن تدفقوا إلى الشوارع ليلتها، لشكر رئيسهم لأنه، كما رأوه، أنقذ مؤسسات البلاد من الانفتال. وفي يوم 21 جويلية، كلّف الرئيس الجيش بالإشراف الكامل على حملة التلقيح في سياق لم يكن فيه رئيس الحكومة على علاقة طيبة مع وزير الصحة منذ خريف عام 2020. ما أدى إلى إبطاء حملة التلقيح وإضعاف معهد باستور بتونس وغيره من الهيئات الصحّية التي كانت تجاهد لشراء اللقاحات في مختلف أنحاء العالم، وأسفر ذلك عن وفيات بالآلاف كان من الممكن تفاديها. وبدلا من ذلك، انخرط الوزراء والنواب في خلافات لا نهاية لها، كثيرا ما انتهت بمشاجرات في البرلمان. وعرّى سوء إدارة جائحة كوفيد-19 الحالة الهشة للديمقراطية في تونس.

 

منذ ثورة عام 2011، تعرضت تونس لضربة تلو الأخرى من توظيف مكثف لأشخاص غير مؤهلين في الوظيفة العمومية المتضخمة أساسا وفي الشركات التابعة للدولة؛ ورفض إصلاح ما هو في جوهره دولةٌ ما قبل عصر الصناعة تهيمن عليها الطوائف المهنية؛ إضافة إلى الهجمات الإرهابية القادمة من ليبيا والجائحة. فكانت النتيجة أن انهار الاستثمار العمومي في البنية التحتية والصحة والتعليم، وتعاظم الشعور بالمرارة بين صفوف التونسيين الذين خاطروا بحياتهم لمواجهة بن علي. حيث لم يتم التطرق إلى أسباب الربيع العربي في أعقابه. وأدى التفاوت المتزايد بين الجهات – وهو أحد العوامل الرئيسية وراء الثورة – وتفاقم الفساد وتدهور مستويات المعيشة، إلى اقتناع السواد الأعظم من التونسيين بأن الديمقراطية، في نسختها التونسية على الأقل، لم تكن سوى مضيعة للوقت.

 

لفك هذا الوضع، سيخالف هذا المقال النزعة المهيمنة دوليا بين الخبراء في الشأن التونسي من خلال فضح الطبيعة الكوربوراتية العميقة للإدارة الاقتصادية للبلاد. كما سيكشف كيف فشل الاتحاد الأوروبي في تقديم دعم مالي قوي لها، ما أرغمها على توقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي لم تكن مصممة لتتوافق مع احتياجات اقتصاد البلاد ولم تكن لدى الحكومات المتعاقبة أي نية لتطبيقها. وأنكرت ردة الفعل الغربية إزاء تحرّك قيس سعيد الأسباب الهيكلية العميقة التي أدت إلى هذه الاجراءات. وكمحاولة لإعادة تأطير السردية، سوف نخلص في النهاية إلى أن الاتحاد الأوروبي لابد أن يتعهد برأس مال سياسي واقتصادي أكبر لتونس. وفي غياب تفكير استراتيجي من هذا القبيل، سوف تتضرر مصداقية السياسة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي بشأن منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى حد خطير.

 

ردود فعل متناقضة بشأن مبادرة الرئيس

 

كان الشاغل الرئيسي في ردود فعل الغرب -المُضلَّلَة إلى حد كبير- إزاء أحداث 25 جويلية، يتلخص في “إنقاذ” “الديمقراطية” التونسية. “إن الديمقراطية في تونس على شفر الانهيار مع تحركات الرئيس لبسط سيطرته” مثلما كتبت النيويورك تايمز في 26 جويلية قبل أن تتبع الصحيفة في 4 أوت بـ”مشاكل في تونس” ولو أن العنوان بدا وكأنه يشير إلى “الديمقراطية” التونسية وليس إلى التونسيين أنفسهم الذين كانوا يمارسون شؤونهم اليومية بشكل اعتيادي. فهل كانت تجربة “الديمقراطية” التي دامت عشر سنوات تقترب من ختامها؟ في 27 جويلية، شجعت صحيفة فاينانشال تايمز “الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على استخدام نفوذهما لمعارضة انقلاب قيس سعيد”. ردود الفعل هذه توافقت مع التحليل المشترك المنتشر انتشارا واسعا بين معظم المراكز البحثية ووسائل الإعلام والسياسيين بأن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي تسير على طريق الديمقراطية في أعقاب الانتفاضات التي اجتاحت الأراضي العربية سنة 2011.

 

وكما يلاحظ جيسون باك أثناء تعليقه على الربيع العربي في ليبيا في كتابه الأخير (ليبيا والاضطراب العالمي الدائم، جامعة هيرست/أكسفورد، 2021)، أن صناع السياسات في الغرب، الذين كُلفوا بوضع برنامج لتسهيل المراحل الانتقالية في مرحلة ما بعد التحول في شمال أفريقيا، كانوا يركزون في المقام الأول على قولبة الآثار المنجرّة عن تغيير النظام السياسي بدلا من ضمان الكشف عن النظام الاقتصادي”. وهذا يعني في تونس ومصر وليبيا -لأسباب مختلفة بعض الشيء- أن الأسباب الهيكلية والاقتصادية الكامنة وراء الانتفاضات لم يتم التطرق إليها بشكل جوهري بتاتاً. وإذا طبّقنا هذا الإدراك على الوضع التونسي، يمكننا حينها استجلاء حقيقة ما كان يحدث مع تحرك سعيد في 25 جويلية.

 

يقترح روبرت باركس وطارق كحلاوي أن “دعم المواطنين لسعيد يمكن أن يُنظر إليه باعتباره مطالبة بترسيخ ثورة 2011 في إطار ديمقراطي يذهب مفهومُ “الديمقراطية” فيه إلى ما هو أبعد من انتخابات بسيطة، نحو معالجة المظالم الاجتماعية والاقتصادية المتجذرة”. (مشروع الشرق الأوسط للبحوث والمعلومات، مشاعر شعبوية أم طموحات ديمقراطية؟ أزمة الديمقراطية في تونس، 26 أكتوبر 2021). وعلى نفس هذا النحو،أساء الغرب قراءة السنوات الأولى في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي وسنوات ما بعد ليبيا القذافي، وبدا المراقبون الأوروبيون والأمريكيون غافلين عن تداعي سلطة الدولة وتدهور الأحوال المعيشية التي اتسمت بها روسيا وليبيا وتونس بدرجات متفاوتة.

 

كان رد فعل معظم التونسيين على مثل هذا الاطراء عبارة عن مزيج من الازدراء والإنكار. ففي ليلة 25 جويلية، احتشد كثيرون في شوارع كل مدينة وبلدة في تونس، بالضبط مثلما فعلوا أحد عشر عاما قبلها يوم فرار بن علي من البلاد. وشمل الاحترام الذي عبروا عنه تجاه رئيس ذي موقف أخلاقي قوي ضد طبقة سياسية فاسدة، كافة الطبقات والأجيال والجهات. واصطدمت قناعة المراقبين -الغربيين في معظمهم- بأن الدكتاتورية عائدة من جديد مع قناعة 12 مليون تونسي. ولا يزال هذا التأييد الشعبي للرئيس يحافظ على قوته على الرغم من الهواجس بشأن غياب خارطة طريق اقتصادية إلى حد الآن.

 

الغرب معروف عنه التفاجؤ

 

جرت ثلاث انتخابات برلمانية خلال السنوات الإحدى عشرة التالية لسقوط بن علي ولم يشب أيا منها محاولات التزوير، على الرغم مما شهدته معدلات الامتناع عن التصويت من ارتفاع خصوصا في صفوف الشباب. استحوذ حزب النهضة في عام 2011 على 38% من الأصوات وعلى نحو 49% من المقاعد في البرلمان، وتولى الحكم مع حزبين آخرين أصغر حجما اختفيا أثرهما منذ ذلك الوقت. كان البرلمان الأول (من 2011 إلى 2014) بمثابة مجلس تأسيسي وطني اتسم بمعارك مريرة حول سياسات الهوية. وفي الاقتراع الثاني بعد ثلاثة أعوام، تغلّب ائتلاف “نداء تونس” الجديد على حزب النهضة بحصوله على 86 مقعدا في مقابل 69 مقعدا للأخير. نقض حزب نداء تونس تعهده بعدم العمل مع حزب النهضة الذي أصبح الشريك الأصغر في الائتلاف الحاكم، مثيراً استياء العديدين من أنصار نداء تونس. ولم يلتزم أي من الحزبين الحاكمين التزاما جادا بتحرير السياسة ناهيك عن الإصلاح الاقتصادي العميق. وفي 2019، فاز حزب النهضة بأكبر عدد من المقاعد مقارنة بباقي الأحزاب بـ 59 مقعدا، ولكنه خسر أصواتاً في مواجهته للحزب الدستوري الحر الذي أطلقه مؤيدون سابقون لبن علي. وانجر عن ذلك تقلبات متزايدة داخل البرلمان على خلفية عدم استقرار الأغلبية، ما منح السلطة إلى رئيس البرلمان زعيم حزب النهضة.

 

قيس سعيد المنتخب رئيسا في عام 2019 هو رجل قليل الكلام ولم تكن لديه أي خبرة سياسية سابقة، ولكنه سرعان ما استأثر بشعارات الحركات الاجتماعية في عام 2018. واجه برلمانا مقسّما كان رئيسه، زعيم حزب النهضة، يستمتع باللعب بالخيوط وراء الكواليس لمدة عشر سنوات. وبالتالي، كان المسرح مهيأً للمواجهة بما أن الدستور الذي أقره استفتاء 2014 لا يحدد بوضوح صلاحيات كل من رئيس الدولة ورئيس البرلمان. وكانت النتيجة جمود الوضع، في ظل فشل الحكومات والرؤساء المتعاقبين في القيام بالإصلاحات الاقتصادية الملحة التي لطالما وعدوا صندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي، والحكومات الغربية بتنفيذها. وتُرك التحدي المتمثل في إصلاح السياسات الصناعية والتعليمية ومواجهة التفاوت الجهوي المتزايد بلا إجابة. وحيث رأى العديد من المراقبين الغربيين “الديمقراطية”، رأى معظم التونسيين “كليبتوقراطية”. وما زادهم يقينا في تصوراتهم، فشل النظام القضائي المفتقر للإصلاح في محاسبة المسؤولين عن مقتل السياسيين اليساريين محمد البراهمي وشكري بلعيد عام 2013 إذ نادرا ما انتهت التحقيقات في قضايا الفساد الكبرى في قاعة المحكمة.

 

ومع ذلك، سمحت صياغة دستور جديد وإجراء ثلاث انتخابات برلمانية ورئاسية بخلق سردية إجماعية أصّلت جذور السياسة الحديثة ضمن التقليد الدستوري الذي يسبق الاحتلال الاستعماري الفرنسي في عام 1881. عندما حاول رئيس البرلمان الولوج إلى مجلس نواب الشعب الموصدة بوابته في الساعات الأولى من يوم 26 جويلية بحجة أنه يريد “الدفاع عن الدستور”، أجاب الجندي الشاب الذي يحرس البوابة السياسي المسن إنه بصدد “الدفاع عن الوطن”. يلخص هذا التبادل بدقة المعضلة التي تواجهها تونس، فالجيش الاحترافي المصغر الذي كثيرا ما يكون ضباطه الكبار مدربين في الولايات المتحدة، ليس له أي مصالح اقتصادية في البلاد، على عكس نظرائه في الجزائر ومصر وليبيا المجاورة تحت حكم القذافي. إذ قدم الجيش دعمه للرئيس دون أن تبدر منه أي علامة على تغيير رأيه، كما يرى كبار قادته أن من واجبهم ضمان ديمومة الدولة وليس التمسك بدستور بعينه. في معظم الدول العربية يُخشى الجيش، أما في تونس فهو يحظى بالاحترام.

 

وكثيرا ما أكدت تونس، في نظر العديد من البلدان الأخرى وفي كل انتخابات أقامتها، على مكانتها كدولة ذات ديمقراطية فاعلة. في مقابلة أجراها مؤخرا مع مجلة “ليدرز” المتخصصة في الأعمال، أشار رئيس اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية UTICA، سمير ماجول إلى أنه على الرغم من تناسي التونسيين للاقتصاد على مدى السنوات الإحدى عشر الماضية، فإن الاقتصاد لم يَنسَهم وعاد الآن ليأخذ بثأره. ولربما نسي الزعماء المتعاقبون على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل UGTT هم أيضا الاقتصاد، بالتوازي مع كبح الأحزاب السياسية لجام الإصلاح الاقتصادي.

 

وكثيرا ما باغتت الاضطرابات الكبرى التي هزت السياسة التونسية الحديثة الغرب. فلقد فوجئت فرنسا والاتحاد الأوروبي بـ”الانقلاب الطبي” الذي دبّره بن علي للإطاحة بالحبيب بورقيبة في نوفمبر 1987، في حين تم تنبيه الولايات المتحدة وإيطاليا والجزائر بشكل مسبق. وفاجأ السقوط السريع لبن علي في عام 2011 فرنسا والاتحاد الأوروبي – وبدرجة أقل الولايات المتحدة. ومنذ تسعينات القرن العشرين، قدّم صندوق النقد الدولي IMF والبنك الدولي ومنتدى دافوس تونس كمعجزة اقتصادية يجب تقليدها، ولعل هذا يساعدنا في تفسير السبب الذي جعل هذه المنظمات تفشل في تقدير مدى عمق الدولة الكوربوراتية في حقيقة الأمر. فالإدارة الاقتصادية لتونس أقرب ما تكون إلى النظام الفرنسي القديم، وهو نظام تهيمن عليه الطوائف المهنية يذكرنا بأوروبا ما قبل الثورة الصناعية (*). وخلافا للمملكة المتحدة في القرن الثامن عشر ونخبها المنفتحة، تُعتبر النخب التونسية منغلقة على نفسها إلى حد ما. حيث يقع الاقتصاد أسيرا تحت سيطرة شبكة ضيقة من الأسر ذات النفوذ، تمتد من مدن الساحل الأغنى إلى المناطق النائية الأفقر. هذه المناطق الأكثر فقرا تبيع مياهها وقمحها وفسفاطها وقواها العاملة إلى المناطق الساحلية التي تحتكر بدورها السلطة السياسية وتعطي مواطنيها المعدمين غرباً وجنوباً نزرا قليلا. وتفاقم الشرخ الاجتماعي بين هذين الواقعيْن في تونس منذ عام 2011.

 

أكد تقرير للبنك الدولي بعنوان “الثورة غير المكتملة” الصادر في عام 2014 أن الديمقراطية التي لا تشهد نموا اقتصاديا لن تكون مستدامة على المدى الطويل، ولم تلق هذه الاستنتاجات آذانا صاغية. في نفس السنة، أقر البنك الدولي بأخطائه السابقة، في تقرير آخر صيغ بصراحة غير معتادة عنونه بـ”كل شيء في العائلة”، غير أن الزعماء السياسيين لم يتأخروا عن توظيف هذا التقرير ليقدموا طرحا مفاده أن مستوى المعيشة لا بد أن يرتفع بمجرد استئصال فساد أسرة بن علي. وبغض النظر عما إذا كانوا حقيقةً يؤمنون بهذا الشكل من أشكال التفكير الاقتصادي الإعجازي، فإن العديد من التونسيين العاديين صدّقوا ذلك بالفعل. وإذا أضفنا ذلك إلى النمو السريع الذي يشهده القطاع غير الرسمي الذي لا يدفع أية ضرائب، والنمو الهائل في كمية السلع المهربة من ليبيا المجاورة، والهجمات الإرهابية في عام 2015، وأخيرا تبعات جائحة كوفيد-19، يصبح من اليسير لنا أن نفهم أسباب تدهور الأداء الاقتصادي للبلاد.

 

علاوة على تلك الضربات الخارجية، تكبدت البلاد ضربات أخرى منها قيام الأحزاب السياسية والمنظمات كحزب النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل، بخلق عدد مهول من الوظائف العمومية كثير منها لا يوجد سوى على الورق. أدت هذا إلى تضخم فاتورة الأجور في الدولة وبالتالي محق قدرتها على الاستثمار في البنية الأساسية. وفقد التونسيون في ضوء ما يواجهونه في حياتهم اليومية اهتمامهم بما يرونه “ديمقراطية مؤسسية رسمية” تمثلت في انفتال سلطة الدولة، وتفشي الفساد، ونظامٍ قضائي لم يخضع للإصلاح، ومنظومة قانونية قمعية ترجع بعض القوانين فيها إلى عهد الاستعمار أو حتى قبله.

 

لماذا اعتُبرت تونس استثناءً

 

إلى حين انتخاب قيس سعيد في عام 2019، عزز التباين بين الأحداث في تونس والأحداث في دول عربية مثل مصر وليبيا والجزائر وسوريا التفاؤل في صفوف المراقبين من خارج البلاد. كانت الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الثورات في مختلف أنحاء الأراضي العربية كئيبة في حين بدا كأن تونس تفادت هذا الاتجاه، وسرعان ما رُوج لها على أنها “الاستثناء العربي”. وكان آخرون أقل تفاؤلا، خصوصا إذا ما استحضروا ما قاله رئيس وزراء الصين السابق تشوان لاي في عام 1972 عندما سُئل عن تأثير الثورة الفرنسية فأجاب أنه “السابق لأوانه أن نجزم به”. وعلى الرغم من اعتراف البنك الدولي بإساءته قراءة تونس (فرانسيس غيلاس “البنك الدولي يعترف بخنوع”، CIDOB OPINION 270 أكتوبر 2014)، يرى العديد من التونسيين في الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وغيره من الجهات الغربية المانحة للمساعدات، أطرافا متواطئة مع الحكومات التونسية التي أقرضوها المال في غض الطرف عن الفساد المستشري والتهرب الضريبي وهروب رؤوس الأموال، في الوقت الذي يلاحظ فيه التونسيون أيضا استمرار هجرة المتعلمين وأصحاب الشهائد والطبيعة المتجذرة للامتيازية.

 

الفوضى الدائمة في ليبيا

 

في نفس السنة التي قطعت فيها تونس مع ماضيها المضطرب في محاولة لإنشاء نظام جديد يتطرّق إلى أوجه القصور الهيكلية والاقتصادية والسياسية الجوهرية، شهدت ليبيا تحولا في مصيرها بفعل فرض حلف شمال الأطلسي NATO منطقة حظر للطيران بتحريض من فرنسا وغيرها من البلدان. خلق هذا تحديا أمنيا كبيرا في وجه تونس، فقد تضاعف إنفاقها العسكري إلى ما يقدر بنحو 1 مليار دولار سنويا منذ عام 2011. وتشير أرقام الميزانية الحالية إلى أن الإنفاق الأمني يشكل 19% من مجموع النفقات. وفي سياق أزمة مالية مكتملة الأركان، يتعين على الزعماء التونسيين أن يُفهموا شركاءهم في الاتحاد الأوروبي أهمية استقرار تونس على كل الأصعدة حيث يشكل أمنها أهمية قصوى ليس فقط للـ12 مليون تونسي وتونسية، بل وأيضا للأوروبيين.

 

يكون هذا الإدراك للترابط بين اقتصادات أوروبا والبيئات الأمنية وشمال أفريقيا أكثر وجاهة إذا ما طبقناه على ليبيا. يصف جيسون باك في كتابه سوء الإدارة الكارثية المشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للمرحلة الانتقالية ما بعد القذافي، ويستكشف كيف أدى فشل العمل الجماعي، وعدم الرغبة في الاستثمار في قدر كافٍ من رأس المال السياسي في ليبيا، والاقتتال اللامتناهي بين الحكومات الأوروبية، إلى نتيجة جد متدنية كان من الممكن تجنبها على أرض الميدان في ليبيا. ورغم أن حالة عدم اليقين في تونس حاليا ليست انعكاسا لحالة الفوضى المستمرة في ليبيا، ولكن كلاهما بدرجة أو بأخرى، نتاج فشل التنسيق العالمي.

 

وفي خضم هذا العجز عن التنسيق بشأن أهداف تطلعية أكبر مثل بناء الدول والنمو الاقتصادي، كانت بعض الدول على استعداد لقيادة سياسات جوهرية مثل مكافحة الإرهاب، فقد ساعدت الجزائر والولايات المتحدة تونس في مكافحة الجهادية أكثر من الاتحاد الأوروبي أو من أي دولة أوروبية. من سنة 2014 إلى 2017، جاء معظم مقاتلي داعش في ليبيا من تونس. إذ نجحت غارة جوية أمريكية على صبراتة شرقي طرابلس في استهداف المتهمين بتنظيم هجومين إرهابيين على متحف باردو ومنتجع شاطئي بسوسة في عام 2015. وساعد الدعم الأمريكي والجزائري في جعل المؤسسات الأمنية والجيش التونسي أكثر صلابة. تلك الخطوات ذهبت بالفعل في الاتجاه الصحيح، ولكن نظرا إلى عدم وجود متابعة منسقة، فإنها لم تعالج الأسباب الجذرية التي أنتجت الجهادية، أي الأماكن غير الخاضعة للحكم والإخفاقات الاقتصادية التي أدت إلى معدلات بطالة مستفحلة.

 

المِحَن الاقتصادية والمالية

 

جدير بنا أن نتذكر أن الأمور بدأت تسوء من الناحيتين المالية والاقتصادية في تونس منذ مطلع عام 2011. وبعد مرور أحد عشر عاما، يجد البلد نفسه في مواجهة أزمة مالية وأزمة ديون مكتملتيْ الركائز. إذ تحول نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي من 2,6% أيام سقوط بن علي إلى انخفاض بنسبة 2% في العام الماضي. وارتفعت البطالة إلى 15% قبل الجائحة، ويصل هذا الرقم إلى 40% بين التونسيين الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً في بلدات المناطق الداخلية الأكثر فقراً. ويقبع ثلث خريجي الجامعات عاطلين عن العمل، وفقاً لدراسة أجراها صندوق النقد الدولي في عام 2014. تمثلت استجابة الحكومات المتعاقبة في زيادة عدد الموظفين في القطاع العمومي: أضيفت 100.000 وظيفة في فترة العامين التالييْن لسقوط بن علي وحدها لتبلغ الحصيلة في الإجمال 550.000. وقد وصل هذا العدد إلى 620.000 اليوم أو حتى 820.000 إذا ما احتسبنا الشركات المملوكة للدولة. وزادت الأجور بـ 20% في سنة 2011 – 2012، تلتها زيادات أخرى لاحقا. ولذلك تعد نسبة موظفي القطاع العام من الناتج المحلي الإجمالي في تونس من بين أعلى النسب في العالم. إذ توظف شركة الخطوط التونسية مثلا عددا من الموظفين لكل طائرة أعلى من أي ناقلة وطنية أخرى في العالم.

 

ويشكل الدخل من السياحة، المباشر وغير المباشر، 15% من الناتج المحلي الإجمالي. تلقى هذا القطاع ضربات قوية جراء الهجمات الإرهابية في عام 2015، وتفاقم عجز الميزان التجاري وتراجعت قيمة الدينار، وانخفضت احتياطيات العملات الأجنبية من 7.3 بليون دولار في منتصف عام 2015 إلى 5.6 بليون دولار في عام 2018. كما يعزى ارتفاع المديونية الخارجية أيضا إلى طريقة هيكلة الديون حيث أن 70% من الدين التونسي بالعملات الأجنبية. كلما ازداد الدينار التونسي ضعفا، ازداد الدين. حلقة مفرغة لا مفر منها، فارتفاع معدلات التضخم يزيد الدينار ضعفا ويتداعى ذلك بدوره على مستويات الديون. فرض هذا الوضع بالضرورة ارتفاعا في نسب الفائدة منذ سنة 2015، وإذ يكافح البنك المركزي للحفاظ على احتياطي العملة الصعبة والتصدي للتضخم، فإنه يخنق أيضا النشاط الاقتصادي والاستثمار الخاص. وزادت نسب الفائدة منذ عام 2011 بأكثر من الضعف لتصل إلى 9%.

 

قادت جائحة كوفيد-19 إلى انهيار النشاط الاقتصادي، وأثر ذلك على الواردات بشكل كبير، فتحسن العجز التجاري وتعافى احتياطي العملة الصعبة إلى موفى عام 2020. غير أن هذا الارتياح لم يدم طويلا، حيث بيّن آخر تقرير للبنك المركزي أن الاحتياطي شهد انخفاضا جديدا في نهاية عام 2021، ولذلك أعرب البنك المركزي في وقت سابق من هذا العام عن نفاد صبره بشأن بطء وتيرة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إذ من شأن بطء التحرك أن يزيد من الضغط على البنك المركزي الذي لم يعد قادرا على تحمل ضغط ارتفاع نسب الفائدة وضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع الدين العام. وقد تعهد الرئيس من جهته بتسبيق الإصلاح المؤسسي على الإصلاح الاقتصادي، لكن موقفه هذا قد لا يكون مستداماً لفترة أطول.

 

لم يكن سلف سعيد، الباجي قايد السبسي، ميالاً إلى الإصلاح الاقتصادي على الرغم من وصول حزبه نداء تونس، إلى السلطة في عام 2014 بفضل ادّعائه القضاء على المتاعب الاقتصادية. فقد قوض رئيس وزرائه الذي طال أمده، يوسف الشاهد، الإصلاحات الاقتصادية التي زعم علناً أنه كان ينفذها. وفي عام 2017، وصف أحد موظفي البنك الدولي بتونس استقالة وزيرِ ماليةٍ مشهود له بالاحترام، فاضل عبد الكافي، على أنه “انقلاب اقتصادي” (فرانسيس غيلاس، “تونس، تقدم بطيء في عالم مضطرب”، Cidob NOTES 181، أكتوبر 2017). قام رئيس الحكومة آنذاك باحباط محاولة عبد الكافي لإقالة بعض كبار مسؤولي الديوانة في ميناء رادس المستفحل فيه الفساد في أحواز تونس العاصمة. واضطر الشاهد إلى التوقيع مع صندوق النقد الدولي على مرفق الصندوق الموسع (EFF) لمدة أربع سنوات بقيمة 2.9 بليون دولار أمريكي أمام تلاشي إمكانية النفاذ إلى أسواق رأس المال بشروط مواتية بعد عام 2011، وامتناع الحكومات التونسية المتعاقبة عن مكافحة التهرب الضريبي والنقل غير المشروع لرؤوس الأموال؛ وتقاعس الاتحاد الأوروبي عن تنفيذ أقواله. ولم تكن الكلمات الممجدة لفضائل الديمقراطية التي كررها الساسة الأوروبيين والمؤسسات البحثية ووسائل الإعلام، بديلاً عن المال.

 

أبدى بعض النواب في البرلمان تحفظات بشأن شروط مرفق الصندوق الموسع التي استهدفت ترشيد دور القطاع العام على قاعدة التخفيض في قيمة الدينار التونسي الذي تقلّص بمقدار الثلث منذ ذلك الحين. ويلاحظ باركس والكحلاوي أن هذه السياسة كان لها “الأثر غير المتوقع في إلحاق الضرر بالصناعة المحلية التي تقوم بتجميع القطع المستوردة وتحولها إلى منتجات نهائية للتصدير، مما أنهك العجز التجاري”. ويضيفان أن السياسة الرامية إلى خفض عجز الميزانية عن طريق تقليص الدعم وتجميد أجور القطاع العام وزيادة الأداءات على القيمة المضافة فيما يخص العديد من المواد الاستهلاكية الأساسية “اعتُبرت دعما غير مباشر للأثرياء” عبر الأخذ من الفقراء والطبقات المتوسطة. واشتد السخط لأن الحكومة لم تفعل شيئا لمنع التهرب الضريبي المتفشي بين صفوف الطبقات المهنية.

 

وجهت الحركات الاجتماعية التي انبثقت في عام 2018 ــ فاش نستنّو (“ماذا ننتظر”) و مانيش مسامح (“لن أسامح”) إشارات تحذيرية واضحة عن السخط الذي يشعر به العديد من التونسيين. كما كان لا بد أن يحرك انتخاب قيس سعيد رئيسا في أكتوبر 2019 أجراس الإنذار، ولو لمجرد أن فوز أستاذِ قانونٍ -ورجلٍ أخلاقيٍ جامد وقليل الكلمات- فوزا ساحقا في الاقتراع، قد أوصل رسالة تحدٍ صريحة للأحزاب القائمة. فهم الشباب التونسي أن انتفاضة 2011 قد قطعت بالفعل رأس النظام ولكنها لم تكن إيذاناً بثورة.

 

ويبقى السؤال اليوم: كيف سينفق الرئيس رأس المال السياسي الذي لا يزال يتمتع به؟ هل أقنع نفسه بأن دستورا جديدا هو المفتاح لتجنب كارثة جديدة؟ يبدو أنه في حاجة إلى نداء إيقاظ بشأن الاقتصاد والمالية. ولنتذكر عبارة جيمس كارفيل الشهيرة “إنه الاقتصاد، يا غبي” التي منحت بيل كلينتون فوزه بالرئاسة في عام 1992. ولربّما يكون سعيّد، على غير عِلم منا، منخرطاً في مفاوضات سرية مع صندوق النقد الدولي، خصوصا أن البنك المركزي وفريق الوزراء باتوا أكثر تزمتا في الكلام من أي وقت مضى في تاريخ تونس منذ استقلالها سنة 1956.

 

بدت السياسة التوافقية في تونس ناجحة إلى أن تولى سعيد جميع السلطات على عاتقه. كان الحفاظ على التوافق أمرا على غاية من الأهمية، وتمثل موضوع الساعة في أقصى عدد من الخيارات الدنيئة وأكبر عدد من الناخبين الراضين. وشكّل السِّلم الاجتماعي الاختبار الحاسم للحوكمة الديمقراطية، ولكن لا مناص من دواء أنجع قد لا يستسيغ التونسيون مذاقه المرير.

 

على الاتحاد الأوروبي أن يتّشح بالجرأة

 

قد يستخف قيس سعيد بمدى حاجته إلى التوصل إلى خارطة طريق اقتصادية عاجلاً وليس آجلاً، وقد لا يقدر حاجته إلى إيلاء ثقته للمزيد من كبار التونسيين الأكثر خبرة في الطبقة السياسية وقطاع الأعمال. حيث يولي الكثير منهم مصالح البلاد مكانة في قلوبهم بقدر تلك التي يوليها هو للدفاع عن سياساته. وهو يحتاج إلى مزيد التواصل مع شركاء تونس في الخارج الذين لا يزال كثيرون منهم في حيرة من أمرهم إزاء مستوى التأييد الذي يحظى به.

 

ولو كان الاتحاد الأوروبي قد فهم الطبيعة الحقيقية للحوكمة الكوربوراتية في تونس، ولو لم يكن على هذا القدر من الانصياع إلى تحليلات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الاقتصادية لدى تقييمه للبلاد، فلربما كانت استجابته في هذا الصدد أكثر ابتكارا. إجماع واشنطن مات. وهناك الآن حاجة إلى أن يتوصّل التونسيون ومن معهم إلى خطة تقطع شبكة العقد الغوردية التي تربط الدولة بالقطاع الخاص، وتنتشل تونس من غدير الإدارة الاقتصادية الشبيهة بـ النظام القديم (الفرنسي).

 

ولكن، يتعين القيام بذلك في سياق يتعافى العالم فيه من جائحة كوفيد-19 بينما تشهد مستويات الديون ارتفاعا كبيرا. فالتعافي في الأسواق الناشئة أضعف بكثير مما هو عليه في البلدان الأكثر ثراءً أين يكون الانتعاش الاقتصادي أقوى. تشكل ضغوط التضخم تحديا للسياسات النقدية في البلدان الأكثر ثراءً مع توقّع ارتفاع نسب الفائدة. أما في الاقتصادات الناشئة، فلا يمكن تحمل مستويات الديون، وقد حذر رئيس البنك الدولي بنفسه من “التخلف غير المنضبط عن سداد الديون”، بينما تدق وكالات التقييم نفس أجراس الإنذار. وفي مثل هذا المناخ العاصف، ليس بوسع تونس الانتظار ولا يملك قيس سعيد رفاهية التعامل بتراخٍ مع كبار المقرضين والشركاء التجاريين.

 

لا ينبغي أن يستهين الاتحاد الأوروبي بمزيج القومية واليأس الهادئ الذي يسود تونس اليوم. حيث استخف الاتحاد الأوروبي بالدور الجوهري الذي يلعبه الاقتصاد المزدهر والإصلاحات الاقتصادية في بناء الديمقراطية. المؤسسات التي تقلد كالببغاوات نظيرتها في الغرب لا يمكن أن تعوّض البرلمانات الجدّية، والأحزاب التي لا تعبّر بوضوح عن مصالح حقيقيةٍ أو عن فئاتٍ اجتماعيةٍ لا يمكن أن تقدم شيئا يُذكر في شكل نقاشٍ حقيقي، والحقائب الوزارية التي تتغير أسبوعا بعد أسبوع، كل ذلك لا يعدو أن يكون وصفة للكارثة. ربما آن الأوان لكي تقدم أوروبا لتونس شراكة في الأمن والهجرة تتحمل فيها نصف العبء المالي. إذ أن المزيد من الاضطرابات في تونس، مع فشل البلاد في الإصلاح وانزلاقها في فقر أعمق، لن يؤدي سوى إلى تعجيل الانكماش الاستراتيجي الذي يمكن ملاحظته بالفعل اليوم في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب العربي.

 

أدى تراجع الهيمنة الأميركية في مختلف أنحاء المنطقة إلى فشل الاتحاد الأوروبي وفرنسا – اللاعبيْن الأهم في شمال إفريقيا كما يُزعم – في تنسيق استجابتيْهما للأزمة المتشابكة من مالي إلى ليبيا. وعلى نطاق أوسع، فإن الانسحاب الانتقائي الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط يمثل العامل الأول الذي يساهم في إضعاف نفوذ أوروبا بسبب الانقسامات الداخلية التي لا حصر لها داخل الاتحاد الأوروبي وهوسه بصد الهجرة بدلاً من معالجة أسبابها الجذرية. كلف ذلك الاتحادَ الأوروبي قدراً كبيراً من نفوذه الدبلوماسي في ليبيا. أما في تونس، مهما كان وقوف الدولة ضعيفاً، قد تمثل استجابةٌ موحدةٌ وسخيةٌ البادرةَ الاستراتيجية الأذكى التي يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يطرحها، وهي البادرة التي من شأنها أن تتجنب سياسات أكثر إيلاماً وتكلفةً بعد بضع سنوات من الآن. ولا يمكن أن تنبثق هذه الاستجابة إلا عن فهم صحيح للظروف الهيكلية التي أدت في البدء إلى انتفاضات الربيع العربي، ثم أدت إلى إخفاقات العمليات الانتقالية في مرحلة ما بعد الدكتاتورية، وإلى عودة ظهور نفس الأعراض التي أججت الانتفاضات في المقام الأول.

 

* الشيطان يكمن في التفاصيل ولا يتجلى هذا بشكل أفضل مما يتجلى عليه في الطبيعة الكوربوراتية للإدارة الاقتصادية في تونس.

 

(أ) تتبوأ مجموعة مصغّرة من الأسر -التي عادة ما تكون لها مصالح في العديد من قطاعات الاقتصاد- مقعدا في مجالس إدارة العديد من البنوك أين تؤثر على سياسات القروض. ويصبح اتفاق هؤلاء السري جليا للعيان عندما يقررون تقديم فوائد على الودائع أقل مما هو متداول في السوق. وقد انتقد وزير المالية السابق ومؤسس بنك BIAT الخاص الرائد في البلاد، منصور معلّى، صراحةً “كرتلة” النظام المصرفي. ومن بين العواقب العديدة المترتبة على هذه الأخيرة الاستفحال الذي طرأ على القروض المقدمة إلى قطاعات اقتصادية معينة مثل السياحة، والتي من غير المرجح أن تُسترد؛ وإقصاء روّاد المشاريع الشبان من القروض الموجهة للمؤسسات الناشئة والشركات الصغيرة. تمول الدولة بطريقة غامضة عددا من الهيئات الوسيطة ذات صبغة خاصة على غرار وكالة النهوض بالصناعة والتجديد، والديوان التونسي للتجارة، وشركاتٍ الخاصة، والاتحاد العام التونسي للشغل UGTT المنظمة الشغيلة الأولى في البلاد، وحتى الأندية الرياضية، تمولها دون فرض مراجعة على الحسابات. وليس بحوزة البرلمان أي وسيلة للتحقق من كيفية استخدام هذه القروض. وحتى الوزراء الذين يأتون ويُدْبرون كثيرا ما يجهلون ما تفعله الإدارة التي يقبعون على رأسها صوريّاً. قد تفسر هذه المتاهة من التمويلات الغامضة لماذا لم تخصص تونس قط ائتمانا وفقاً لأي معايير عقلانية للسوق. كما يتناقض العدد الضخم من البنوك التونسية المفتقرة إلى رأس المال الكافي مع العدد القليل من البنوك الفعالة والتنافسية في المغرب.

 

(ب) اتبعت تونس منذ الاستقلال سياسة زراعية لا تخدم مصالح عامة السكان بل مصالح فئة خاصة. يتم تمويل المنشآت العمومية القوية مثل ديوان الحبوب والديوان الوطني للزيت والمجمع المهني المشترك للتمور، من خلال الضرائب المفروضة على الإنتاج والواردات والصادرات في القطاعات التي تمثلها. وتتولى الشركات الخاصة تنظيم قطاعاتها، ما يسمح لها بإبعاد المنافسين بالضبط كشأن الطوائف المهنية في القرون الوسطى. الرجل الذي يرأس الغرفة النقابية لصناعات الحليب التابعة لمنظمة الأعراف UTICA في تونس، يجلس أيضا في مجلس إدارة المجمع المهني المشترك للحوم الحمراء والألبان GIVLAIT. وتستحوذ هذه الشركة على 66% من سوق منتجات الحليب ومشتقاته. ويقدم المجمع المهني المشترك للتمور GIDattes مثالاً آخر على قطاعٍ يسعى فيه عدد قليل من أصحاب المشاريع الكبار إلى إبعاد المنافسة ووضع قواعد بما يناسب مصالحهم. ولمدة عقود، ظل سعر القمح الصلب المدفوع للمنتجين التونسيين أقل من الأسعار العالمية. حيث يتم إما تثبيط الإنتاج المحلي أو تنظيمه لصالح عدد قليل من المشغلين. وفي نفس الوقت، يتم دعم بعض المواد الأساسية، بينما تقع أفضل الأراضي الفلاحية في قبضة التعاضديات -أو بعبارة أخرى الدولة. وبالتالي، كانت النتيجة تدهور دخل صغار الفلاحين، وفشل تونس في زيادة صادراتها، فيما عدا زيت الزيتون الذي تم تحرير صادراته في التسعينات. كما ازداد الخلط في العقود الأخيرة بين الجهات التنظيمية والمنتجين الذين استثمروا في الأولى لمصلحتهم الخاصة. يفسر هذا الوضع كيف أن معظم الأسر في المناطق الداخلية الفلاحية شهدت تقلصا في دخلها، ويفسر كيف اتسعت الهوّة بين الساحل الأغنى والمناطق الأفقر غربيّ وجنوب البلاد.

 

(ج) تمتلك تونس واحدة من أعلى نسب الموظفين العموميين/سكان، في العالم. وقد خلقت الحكومات المتعاقبة المزيد من مواطن الشغل في الوظيفة العمومية مما أدى إلى شبه شلل الإدارة الاقتصادية. إن ما تحتاجه تونس فعلا هو القضاء على منظومة القواعد والتراخيص فيها، فالبلاد أكثر من مجرد دراسة حالة “الاستيلاء على الدولة” كما يريدنا البنك الدولي أن نعتقد. إنها حالة دولة تفترس الاقتصاد الحقيقي وتسطو على مستقبل البلد.

 

فرانسيس غيلاس باحث في سيدوب (مركز برشلونة الدولي للأعمال)، مراسل فاينانشال تايمز السابق لشمال أفريقيا (1981-1995) ومراسل الإذاعات العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية

باسم صنيج مستشار مالي، أستاذ بمعهد الدراسات السياسية بباريس، وعضو في معهد البحوث والدراسات المتوسطية الشرق الأوسطية

 

إن محتوى هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن مواقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ