الثورة السودانية في أزمة

أبريل 2024
مقال من قبل مُزن النيل

 

عام مر على اندلاع الاقتتال المسلح، والحركات الاجتماعية في البلاد بدأت تخسر معركة الرأي العام

 

 

أدت الحرب التي اندلعت في العاصمة السودانية الخرطوم يوم 15 أبريل 2023 إلى انقطاع مفاجئ لأكثر من 15 شهرا من الاحتجاجات المتواصلة ضد الانقلاب العسكري، وأفضت إلى شلل حركة مقاومة كانت في حالة ازدهار، ولكن أهم من ذلك كله، ألحقت المعاناة بملايين السودانيين.

شهدت جبهة المقاومة – وهي تحالف واسع من المجموعات الشعبية التي شاركت في الثورة في عام 2019 وواصلت نشاطها منذ ذلك الحين – تغييرات حادة خلال هذه السنة. حيث استطاعت الديناميات والأيديولوجيات الموجودة منذ السابق والتي استفحلت بسبب الحرب، ان تزيح سرديات المقاومة الثورية السلمية عن المجال العام، وأضحت  سرديات الحرب والعنف هي المهيمنة.

الواقع الحالي للسودان هو واقع يعاني فيه الشعب في ظل حرب بين االعسكريين، بينما المقاومة بصدد خسارة معركة النفوذ داخل المجتمع وحرب التموقع ضد الطبقة الحاكمة. إذا لم يغير الحراك المقاوم في السودان مساره عن قريب فقد تكون البلاد في طريقها مجددا نحو الديكتاتورية.

 

من انقلاب عسكري إلى حرب مفتوحة

 

في الأشهر المفضية إلى أبريل 2023، شهدت جبهة المقاومة السودانية تطورا متسارعا في نمو لجان المقاومة بالأحياء. بدأت هذه المنظمات الشعبية في التشكل أوائل عام 2019 على إثر دعوة أطلقها تجمع المهنيين السودانيين (وهي الجهة التي قادت الاحتجاجات ضد النظام في ذلك الوقت) من أجل تشكيل منظمات مقاومة على مستوى الأحياء، تهدف إلى وضع تكتيك من الاحتجاجات اللامركزية المتزامنة. منذ بداية الثورة في ديسمبر 2019، التزمت لجان المقاومة إلى جانب شبيهاتها من اللجان المكونة على مستوى أماكن العمل وغيرها من المجموعات المطلبية، التزمت بتعزيز أهداف الثورة – حرية، سلام وعدالة – فكونت بذلك جبهة المقاومة المنظمة في السودان.

في أعقاب تشكيل حكومة شراكة انتقالية تتكون من المجلس العسكري للنظام القديم وقوى الحرية والتغيير، قضت لجان المقاومة شهورا تختبر وتحدد موقفها في التركيبة السياسية الجديدة. كانت قوى الحرية والتغيير بمثابة ائتلاف من أحزاب المعارضة التقليدية، التي تمثل في معظمها رأس المال الزراعي والتجاري، فضلا عن الأحزاب الإصلاحية الحضرية. وفي حين أن المصالح البرجوازية لقوى الحرية والتغيير أدت بها إلى إرساء شراكة مع النظام القديم مقابل الحصول على مقعد على الطاولة، كان لا يزال يتعين عليها كسب مودة لجان المقاومة، متمسكة بأن التسوية مع المجلس العسكري هي “السبيل الواقعي” الوحيد لتحقيق أهداف الثورة.

على مدار سنوات، سارت لجان المقاومة على خيط رفيع ما بين إبداء الدعم لحكومة الشراكة – التي صورت دعايتها الرسمية الطرفين على أنهما في وئام وشيطنت كل نقد موجه للحكومة الانتقالية بذريعة أنه عمل تخريبي من فعل النظام المخلوع – وبين الدفع بأجندة الثورة لا سيما في ما له صلة بتحقيق العدالة الجنائية والاقتصادية. ومع ذلك، كان الواقع مناقضا للبروباغندا البراقة للنظام، حيث جاء كل إجراء وقرار وموقف اتخذه النظام الجديد ليمنح الأولوية للحفاظ على تلك الشراكة ويحمي النخب الاقتصادية والسياسية القديمة على حساب الدفع قُدما بأهداف الثورة، مما أثبت أن الهدفين لا يلتقيان.

مع تآكل الدعم الشعبي الذي كانت تحظى به قوى إعلان الحرية والتغيير والشق المدني من الحكومة بالنظر إلى ما اتخذته من مواقف وسياسات، لمح المجلس العسكري فرصة للاستحواذ على المزيد من السلطة، فنفذ انقلابا عبر مكوّنيْه الرئيسيين ألا وهما القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. غير أن الجيش والمليشيا “الخارجة من رحمه” (وهو مصطلح رائج يستخدم لوصف قوات الدعم السريع) فشلا في احتساب اثر المقاومة المنظمة. وبفضل جهود الأخيرة، لم تغذّ المعارضة الشعبية لحكومة الشراكة أي دعم للانقلاب، بل على العكس، أوقدت مقاومةً للطبقة الحاكمة القائمة برمتها، ورفضت الانقلاب العسكري، ودعت إلى حكومة مدنية بالكامل يتم إرساؤها من الأسفل إلى الأعلى.

في الوقت الذي كانت فيه لجان المقاومة تنظم مظاهرات متواصلة شلت حركة الحكومة الانقلابية، نظمت كذلك عملية مداولات شملت حوالي 8000 لجنة مقاومة بالأحياء في جميع أنحاء البلاد وأسفرت عن سلسلة من المواثيق السياسية وخرائط طريق. عملت الطبقة الحاكمة على تضييق الخناق حول حركة المقاومة دون أن تفلح، في حين استمرت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية في تجاهلها، وأفسحت المجال بدلا من ذلك لمختلف مكونات الطبقة الحاكمة ومشاحناتها. دعت منظمات دولية مثل الأمم المتحدة المقاومة السودانية إلى التحلي بالواقعية وقبول شراكة أخرى مع االمؤسسات العسكرية. كما حثت البعثة الأممية في البلاد اللجان على الجلوس جنبا إلى جنب مع العسكر على طاولة المفاوضات، بتأييد من الأمم المتحدة وضد إرادة الشعب.

تجلى نجاح جبهة المقاومة في تدعيم موقفها من خلال شعار “اللاءات الثلاث” الذي رفعته ضد المجلس العسكري: لا تفاوض ؛ لا شراكة ؛ لا شرعية. تردد الشعار خلال الاحتجاجات وحتى أحزاب قوى الحرية والتغيير وجدت نفسها مضطرة لإدراجه في ذيل بياناتها. واتخذت لجان المقاومة موقفا مفاده أن الانقلاب الحالي هو نتيجة لعمليات سابقة تم فيها شرعنة الاستيلاء فيها بشكل غير قانوني على السلطة. جادلت اللجان بأن إضفاء الشرعية على الانقلاب الأخير لن يفضي سوى لمزيد من العنف وربما حتى الحرب. غير أن المنظمات السياسية والإعلامية الدولية غضت الطرف عن هذه الحجة، ولم تلبث أن اندلعت حرب.

 

تناقضات متعاظمة

 

وسع الكيانان المتحاربان نفوذهما في السابق باستخدام العنف والمذابح والانقلابات، ولم يواجها أية عواقب سوى الحصول على المزيد من الشرعية، فكان من المنطقي بالنسبة إليهما محاولة الاستيلاء على السلطة بالكامل من خلال المزيد من العنف. وهكذا، نشبت الحرب بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، ومثلما كان الشأن أيضا في الحروب السابقة، تفاقمت معاناة الشعب السوداني وأحكمت الجهات المسلحة قبضتها السلطوية على الحياة المدنية وانتزاعها للثروات السودانية لمنفعتها الخاصة.

كما أعادت الحرب إلى السطح الأيديولوجيات الرجعية التي حققت المقاومة تقدما ضدها في السابق. واستُبدلت تدريجيا هتافات “صحة وتعليم مجاني، والعسكر للثكنات!” بالدعم الوطني للجيش في مواجهة “تمرد الميليشيات”.

حاولت لجان المقاومة تحقيق توازن مستحيل بين الدعوة إلى وضع حد للحرب ودعم جيش حكومة الانقلاب. كان ذلك نتيجة غياب تحليل واضح للدولة كأداة في يد الطبقة الحاكمة. وبالإمكان استجلاء نقاط الضعف التحليلية هذه في المواقف التي اتخذتها فئات من المقاومة خلال السنوات السابقة، مثل إضفاء الشرعية على القوات المسلحة السودانية مقابل قوات الدعم السريع بناء على الفروقات البيروقراطية (من حيث مكانة القوات المسلحة السودانية في جهاز الدولة)، بدلا من معارضة كليهما نظرا لدورهما في إفقار الشعب وقمعه.

في غضون ذلك، أنشأت غالبية الأحزاب التي شكلت في السابق قوى إعلان الحرية والتغيير تحالفا جديدا بدا متماشيا مع قوات الدعم السريع، في سعي جديد لإرساء شراكة مع المجرمين مقابل الحصول على مقعد على الطاولة، متعلّلين بسيطرة النظام المخلوع على القوات المسلحة السودانية. غير أن هذا النوع من المشاحنات الداخلية في صفوف الطبقة الحاكمة يقع خارج نطاق التحليل المبذول في هذا المقال.

ينبني دعم المقاومة في زمن الحرب للـ”جيش الوطني” على الطبيعة المؤسسية المزعومة للقوات المسلحة السودانية على عكس قوات الدعم السريع، كما لو أن ذلك الطابع المؤسسي قد كان له أي أثر يُذكر في محاسبة القوات المسلحة السودانية أو وليدتها الميليشيا حين كانت تقع تحت سيطرتها. كما تستشهد المقاومة بالدعم الخارجي لقوات الدعم السريع (وتحديدا من الإمارات العربية المتحدة) كدليل على الخيانة، كما لو أن الجوع والموت اللذين يلحقان بشعب السودان يختلفان حين يكون مأتاهما ممن هم داخل حدوده.

على مدى أشهر، حاولت لجان المقاومة التمسك بهدفين متناقضين: هدف الثورة المتمثل في حماية الحياة البشرية ووضعها على رأس الأولويات، وهدف الثورة المضادة المتمثل في حماية الدولة. ويبدو أن الثورة المضادة التي غذتها عقود من البروباغندا البرجوازية المروّجة للحس الوطني على حساب الحياة البشرية، قد هزمت الثورة. وبينما تنشر لجان المقاومة على وسائل التواصل الاجتماعي ما تخلّفه أفعال كل من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من موت ودمار، تكون المنشورات حول جرائم الأولى مليئة بتعليقات الداعمين للجان المقاومة، بينما المنشورات عن جرائم الجيش تجلب لهم تعليقات تتهم اللجان بالخيانة

الجيش الذي خرج آلاف السودانيين والسودانيات إلى الشوارع للتظاهر ضده لسنوات حتى اندلاع الحرب هاتفين “اولى انت ببلدك، عسكر حرامية” لم يتغير، لكن تحليل المقاومة هو الذي تغير. بلوغ حروب السودان لأول مرة المراكز الحضرية الميسورة، والخطر المباشر الذي تشكله على المصالح المادية للطبقة الوسطى الحضرية ونمط حياتها، قد أيقظ الرذائل التي تختص بها تلك الطبقة: الانتهازية والنزوع إلى التسوية مع الطبقة الحاكمة. وفي غياب سردية مضادة متينة، أضحى هذا الموقف الذي عززته عقود من البروباغندا الحكومية هو المهيمن. وخسرت في المقابل لجان المقاومة نفوذها في المجتمع وقدرتها على صياغة الرواية.

لكن هزيمة الثورة مهدت لها أيضا قرارات جبهة المقاومة باعتماد نهج “مكافحة الحرائق”-الحلول قصيرة المدى- للاحتياجات الاجتماعية أثناء الحرب. إذ بذلت اللجان وغيرها من المبادرات الشعبية الأخرى جهودا كبرى لتشغيل المستشفيات وإنشاء المطابخ المجتمعية وتنظيم عمليات الإجلاء، في ظل تخلي حكومة الانقلاب عن مسؤولياتها. لكن بدلا من توظيف هذه الأنشطة كوسيلة لتشييد هياكل مستدامة جديدة تكون متجذرة في الإدارة الذاتية المجتمعية للموارد، يتواصل تسييرها كجهود خيرية قصيرة المدى لا تنجح في إرساء أسس لسلطةٍ شعبية ولا تكشف أوجه القصور في النظام القائم.

قد تكون مراجعة هذا النهج بداية الخروج من الأزمة، لكنها ذلك يستوجب التزاما جادا بحرب التموقع وكسب معركة الرأي العام ضد الطبقة الحاكمة، مما يستلزم قوة أيديولوجية لنقد خطابها. في غياب هكذا تغيير، سيواصل المستبدون المسلحون في إلحاق المعاناة بالشعب السوداني وانتزاع الثروة بأعنف الطرق وبلا رادع، غانمين رغم ذلك الدعم الشعبي، وبذلك يشكلون وضعا تكون فيه إطالة الحرب أنفع لأولئك الذين يشنونها من نهايتها.

في غياب هكذا تغيير، حتى نهاية الحرب، سواء اتت بعد عام أو بعد عشرين عاما، قد تتمخض عن أسوأ نتيجة ممكنة: نظام شمولي يحظى بدعم جماهيري.

 

مُزن النيل كاتبة سودانية ومتحدثة عامة ذات خلفية متعددة الاختصاصات في الهندسة والاقتصاد الاجتماعي والسياسات العامة.