أيام روزا الثـقافية: برمجة خاصّة بمعرض تونس الدولي للكتاب

أبريل 2024
مقال من قبل نادي روزا للقراءة

يمثل نادي روزا للقراءة أحد المشاريع الواعدة والفريدة لمنظمة روزا لكسمبورغ – مكتب شمال إفريقيا، وذلك لكونه مشروعا متكاملا يحمل على عاتقه واجب التعريف بالأدب الجاد والملتزم بالقضايا العادلة وهموم منطقة شمال إفريقيا، في تعدده اللغوي والأجناسي المرجعي على مستوى النصوص. بل وحتى من خلال الإلمام بكل العناصر المؤثرة والفاعلة في رسم المشهد الأدبي والثقافي.

وفي إطار سعينا لترجمة الرؤية السابقة على أرض الواقع، تأتي هذه الشراكة، الأولى من نوعها، بيننا وبين معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الثامنة والثلاثين، باعتباره الحدث الأدبي الأبرز. وهي شراكة نسعى من خلالها لا فقط للتشبيك بين القرّاء والكتاب والناشرين وغيرهم من الفاعلين في الميدان الثقافي، وإنما كذلك لتدعيم الزخم والهالة التي تحيط بهذا الحدث، والمساهمة في ترسيخ مكانته المحورية ضمن الخارطة الثقافية.

وبناء على ما سبق، وسعيا للتوفيق بين كل هذه الغايات، جاءت هذه الشراكة في شكل ثلاثية، توازن بين أقطاب فعل “الإنتاج” الأدبي، وتجمع بين النشر والكتابة والترجمة وتتناولها من خلال زوايا وتجارب متنوعة، يسعدنا أن نقدمها لكم بالتفصيل، كالآتي:

 

الجراح تدل علينا ؛ لقاء مع الكاتب الفلسطيني زياد خداش 

 

يمثل القاص الفلسطيني زياد خدّاش (مواليد القدس 1964) تجربة متفردة في السرد القصصي الفلسطيني والعربي، فهو منذ بدايته بدا ممتلكاً أدواته، بل مشروعَه السردي برؤية مختلفة ومتميزة، منذ “موعد بذيء مع العاصفة” (1998)، و”خذيني إلى موتي” (2005)، و”إذا لم تكن لك حبيبة” 2008، و”غارقون بالضحك”، و “أسباب رائعة للبكاء” (2015)، ومجموعة “أن تقَعي أرضاً ويكون اسمك أماني” (2013)، وغيرها، وصولاً إلى  كتابه القصصي الجديد “الجراح تدلّ علينا” (منشورات المتوسط – ميلانو، إيطاليا 2023)  الذي يخصص فيه حيزا كبيرا لما يحياه الفلسطينيون في تفاصيل معيشهم اليومية تحت الاحتلال. وهذا الزجّ المكثف والمتقن للتفاصيل الصغيرة في عالم من الفانتازيا والخيال يثمر في النهاية نصا قوامه التمرد على لا التماهي مع  واقع  مشروخ ونشاز يلعب بمصائر الفلسطينيين كأفراد وكشعب معًا.

اختار خداش لكتابه القصصي عنوانًا دالا هو “الجراح تدلّ علينا”، أما مدلوله فخطاب جمعي بضمير “نحن”، نحن الفلسطينيين كشعب أفراد متفرقين ومجتمعين في الآن نفسه، والمنتمين  بشكل أو بآخر لذلك الجرح الكبير. ولكنه جرح لا ينزف أسى فقط، بقدر ما يلوح كنافذة تنفتح على سرديات فانتازية تشكل بمجموعها ومآلاتها تراجيديا غير مسبوقة في التاريخ، كما سبق وأن كتب عن ذلك راسم المدهون في “الضفة الثالثة.

وبالتالي فإن هذا اللقاء، والمتماهي مع روح وشارة هذه الدورة من معرض تونس الدولي للكتاب في وقوفها الرمزي والتضامني مع قضية الشعب الفلسطيني، يسعى في الآن نفسه لا لاستحضار هذه القضية في جانبها التراجيدي، وإنما منح الفرصة للأصوات الفلسطينية للتعبير عنها في عنفوانها وحيويتها واندفاعها. خاصة بالنسبة للقارئ التونسي، الذي آن أوان تعرفه على مرحلة جديدة من الأدب الفلسطيني وجيل جديد من رواد هذه المدرسة الثرية والديناميكية.

 

على خطى فيرجينيا وولف: تجارب مصرية رائدة في النشر النسوي

 

قد يكون من الغريب أن يتم اختيار اسم كاتبة إنجليزية في صدر عنوان لقاء يتحدث عن النشر في المنطقة العربية. وهو استغراب متوقع -ومقصود- إذ غالبا ما يقع تعريف فرجينيا وولف بكونها واحدة من أبرز  الأديبات والأدباء تأثيرا في القرن العشرين عموما وفي الأدب النسوي خصوصا. وهي شهرة غطت على جانب مخفي من تجربتها ومسيرتها، ألا وهي تجربتها كناشرة. إذ يخفى عن الكثيرين تأسيسها لدار نشر هي دار “هوغارث هاوس”  والتي يعود لها الفضل  بنشر جملة من النصوص الأشهر والأكثر تأثيرا في ميادينها من قبيل ملحمة الأرض اليباب ل”تي إس إليوت” وأعمال “فرويد” في التحليل النفسي،إضافة لنشرها رواياتها الخاصة ذات النفس النسوي الصريح.

وعلى غرار وولف التي آمنت بأن لا أدب نسوي دون استقلالية، آمنت كثيرات  -وكثيرون-  عبر العالم بأن قدرة النساء على إيصال أصواتهن أدبيا وفكريا لا يمكن أن يتم إلا من خلال مؤسسات نشر لا فقط مستقلة، وإنما تحمل على عاتقها الدفاع ومنح الفرصة لأصوات النساء، ليمسي قطاع النشر في النهاية فضاءً آخر لاستكمال هذه المسيرة.  وفي هذا اللقاء نسعى لتسليط الضوء على تجارب عربية مخصوصة، تبنت نفس الموقف ومنهجية العمل النسوي كمحدد لسياسات وخيارات النشر، وهو خيار على قدر ما يحمله من ريادة إلا أنه يرفع من الآن نفسه سقف التحديات ضمن واقع عربي متشعب. ولذلك يوفر هذا اللقاء فرصة لا فقط لتحية وتكريم هذه المجهودات، بل وخاصة التعرف على الجانب المخفي من المشهد.

ومن أجل هذا، نستضيف في جلستنا الحوارية هذه كلاّ من الناشرة المصرية كرم يوسف صاحبة دار “كتب خان” والناشر رجائي موسى صاحب دار “هنّ”  وهما تجربتان فريدتان ورائدتان لا فقط داخل السياق المصري وإنما العربي عموما، يستحقان الوقوف عندهما.

 

مع مارك جمال: ملامح جيل جديد من الترجمة العربية 

 

لعوامل عدة، لم تتبلور معالم حركة الترجمة المباشرة للآداب الإسبانية للعربية إلا في مرحلة نسبية متأخرة – أوساط القرن الماضي – وارتبطت تحديدا بالنص الكلاسيكي الأشهر ” دون كيخوته” ولكن مع ذلك فإن هذه الحركة لم تبلغ أوجها إلا مع الجميل الموالي وتحديدا مع تجربة المترجم السوري صالح علماني والذي لم يقتصر دوره على ترجمة عيون الأدب الناطق بالإسبانية، بل ونجح في تعريف العرب على التيارات الحديثة في الرواية اللاتينية كالواقعية السحرية  مع أشهر ترجماته لأعمال غابرييل غارسيا ماركيز وفي الوقت نفسه إيصال هذه التجارب إلى جماهير القراء على اختلافها. ولتكون ثمار هذه المسيرة في النهاية، منح الترجمة من/ إلى الاسبانية المكانة الثابتة في أدفاق الترجمة الأدبية العربية اليوم.

وهذه المكانة الثابتة، لم تقتصر على تجربة الجيل الثاني من أمثال صالح علماني وغيره، وإنما تعدتها للجيل الجديد من المترجمين، ومن بين هؤلاء المترجمين الشبّان نجد المترجم المصري مارك جمال، والذي تمنحنا تجربته – التي انطلقت سنة 2016 مع صدور ترجمته لعمل فرانك بايس: عشرون بطاقة بريدية – مثالا على ازدواجية وسعي للتوفيق بين استكمال مشروع علماني وغيره في ترجمة عيون الأدب الناطق بالإسبانية وبين البحث عن أسماء جديدة وتعّريف القارئ العربي على تجارب أخرى فريدة و راهنة.

وبالنسبة للهدف الأول، يمثل إعادة ترجمة رائعة ماركيز الأخرى “خريف البطريرك” من طرف الأخير، مثالا عن هذا التوجه لاستكمال ما يمكن أن نطلق عليه نقل الأعمال المكرّسة والكلاسيكية للأدب الناطق الإسبانية، ولعل تتويج هذه الترجمة بجائزة حمد للترجمة والتفاهم سنة 2023، اعتراف واضح بهذا المسار والخيار، والذي تعضده أعمال أخرى سعى جمال لنقلها للعربية لعل أبرزها “الخالة خوليا وكاتب السيناريو” التي صدرت مؤخرا بالرغم من كونها واحدة من أعمال ماريو بارغاس يوسا القديمة.

وفي مقابل ذلك، عمل الأخير على ترجمة جملة من الأعمال المختلفة عن المتخيل عربيا ربما حول الأدب اللاتيني من قبيل حصره في الواقعية السحرية، والعاكسة لتجارب جديدة في الكتابة والنثر سواء كانت أعمالا روائية أو حتى سيرية من قبيل بريد الذكريات لإيما رييس أو النسيان لإكتور آباد فاسيولينسي وغيرها من الأسماء التي لم يسبق في أحيان كثيرة للقارئ العربي أن تعرف عليها.

لكل ما سبق، يأتي هذا اللقاء كمحاولة لتقديم هذه التجربة الفريدة في جمعها بين مسّارات عدة للقارئ التونسي ولأول مرة، عن كثب.

 

مع عادل عصمت : تحولات المجتمع المصري في الرواية

 

يأتي هذا اللقاء مع الروائي المصري عادل عصمت في سياق ما سبق وأن أشرنا إليه منذ البداية، أي الانفتاح على مسارات الالتزام المختلفة للأدب الشمال إفريقي، وتحديدا أصواته وتجاربه المختلفة عن السائد أو المتعارف عليه، خاصة حول الأدب المصري وتجربته الرائدة في الرواية، وتحديدا تجربة نجيب محفوظ.  وعادل عصمت كأديب ينتمي للجيل الموالي لجيل محفوظ وغيره، يعكس فرادة أو خصوصية عن بقية أقرانه. وهي خصوصية تتبلور في التجديد على مستوى القص والأساليب والتقنيات الروائية من جهة وتطرقه لمواضع مختلفة ومميزة في عدد من أعماله.  وقد أصدر عصمت عددا من الروايات الهامة مثل “الرجل العاري”، و”أيام النوافذ الزرقاء”، و”حياة مستقرة”، و”هاجس موت”، و”صوت الغراب” و “الوصايا” التي دخلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وغيرها من الأعمال التي عكست خصوصية تجربته وثرائها.

فعلى مستوى التقنيات، مثلّت روايته الأحدث  “الوصايا” والتي أمضى في كتابتها حوالي 20 سنة، مثالا على طابع جديد هو الحضور المكثف لأدب الشذرة والحكمة والزهد ربما حتى في بنية النص وقصر جمله وتراكيبه وهو ما قطع من خلاله مع السرد المسترسل والمطنب، وهو ما لا نلاحظه مثلا في بعض أعماله القديمة. وتلك بطبيعة الحال نتيجة متوقعة لكاتب يعتبر كلّ عمل جديد “ورشة” عمل وتجريب مختلفة، لا تخضع لقيد أو قولبة.

“أنا الآن أكتب بحرية، لست مجبرا على شيء” هكذا تحدث عادل عصمت إثر صدور آخر أعماله الوصايا، ومع ذلك فإننا نسعى هنا من خلال هذا اللقاء للوقوف على مظاهر هذه الحرية والتحرر لا فقط من قيود النثر الرسمية، بل وخاصة على مستوى المواضيع والإشكاليات التي طرحها. وهنا ربما نختلف قليلا مع السيد عصمت، فطيف هذا التحرر لا نعاينه فقط مع آخر أعماله “الوصايا” وإنما قبلها بسنوات عدة مع تجارب مثل روايته “صوت الغراب” الصادرة سنة 2017، والتي كانت معالجة رمزية – على طريقة انمساخ كافكا- للمشاكل النفسية والاضطرابات العقلية، في ظل واقع مجتمعي لا يتمثل مسائل الصحة النفسية ودواخل النفس البشرية إلا بطريقة عجائبية وخرافية وقبلها “حكايات يوسف تادرس” الحائزة على جائزة نجيب محفوظ (2016) والتي لا تمنحنا فقط جولة داخل المجتمع القبطي المصري والكنيسة القبطية في جمعيّتها وإنما أيضا لدروب الأفراد داخلها وأزمات الانتماء وللمسيرة المخصوصة للراهب الفنان يوسف نحو الحقيقة والتنوير.

وإجمالا، فإننا نسعى هنا لنقدم للجمهور التونسي ولأول مرة داخل فضاء معرض الكتاب، الفرصة للتعرف على هذا القلم العربي المخصوص.

 

في الختام، تأتي هذه البرمجة كبذرة أولى مبشرة للتعاون بين مؤسستي روزا  لكسمبورغ ومعرض تونس للكتاب من جهة، ومحاولة لتقديم لوحة متكاملة يطلع من خلالها المثقف التونسي، سواء كان كاتبا أو قارئا أو ناشرا، على تجربة أخرى مقارنة في صناعة الأدب والفكر، هي التجربة المصرية. وهي تجربة لا يجمعه معها فقط وحدة الجغرافيا، بل ماهو أبعد من ذلك بكثير، هي جوامع لن نجد وسيلة أفضل من الثقافة والفكر للتجسير بينها. دون أن نغفل الفرصة لتقديم الحيز الملائم للصوت الفلسطيني الأدبي، في وقت نحن في أمس الحاجة إليه جميعا، كشعوب وأفراد.