جمهورية السيسي الجديدة
جمهورية السيسي الجديدة
كيف يعزز هوس العقارات في مصر قبضة النظام على السلطة
تبدو الدولة مثل جسم على جهاز حفظ الحياة، سلسلة من الأنابيب تدخل وتخرج منه، من وقت إلى آخر، يداويه أطباء أجانب بقروض ستيرويدية، أو يعطونه علاجًا كيميائيًّا للتكيف الهيكلي. ندرس نحن الأنابيب، والبنية التحتية، والشبكات الصناعية والتجارية الخارجة منه والداخلة إليه، كي نفهم كيف يُبقى على قيد الحياة.
— عمر روبرت هاميلتون، 2022[1]
بعد نحو تسع سنوات من استيلاء الرئيس عبد الفتاح السيسي الدموي على السلطة، صارت مصر بالكاد تُعرف. رافعات وخلاّطات أسمنت وحظائر بناء كبيرة متواجدة على الدوام، وفي كل مكان. في القاهرة الكبرى، في دلتا النيل، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في شبه جزيرة سيناء، تشق المدن المكتظة والصحراء القاحلة طرق عادية وأخرى سريعة جديدة لا حصر لها. في جميع أنحاء البلاد، عقارات فاخرة ومستعمرات إسكان اجتماعي ومنتجعات سياحية وجسور آخذة في الانتشار كالفطريات لسنوات. منذ عام 2015، وعلى قطعة أرض صحراوية شاسعة ناحية الشرق من قسميْ الطبقة الثرية القاهرة الجديدة والتجمع الخامس، انطلق بناء العاصمة الإدارية الجديدة بشكل مسعور من أجل أن تستقبل 6.5 مليون شخص، وهو مشروع عملاق يُمثل إلى حد كبير أهم مغامرة عنجهيّة للقائد العسكري السابق السيسي.
منذ أن استولى على مقاليد الحكم في البلاد بقبضة من حديد عام 2013، دأب الرئيس بلا هوادة على تدشين مشاريع بناء جديدة، مصحوبا دوما بجلبة قومية صاخبة في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة الموالية للنظام وتصفيق المستثمرين الدوليين. بالنسبة للسيسي، فإن “رؤيته” لمصر – التي اعتاد أن يطلق عليها اسم “الجمهورية الجديدة” منذ سنة 2021– لا تؤسس لشيء أقل من بداية عهد جديد وفجر مستقبل حديث واعد بالازدهار والتجديد ويؤجج للفخر الوطني. لكن كل ذلك يتم تمويله في المقام الأول من خلال قروض واستثمارات من الخارج بالمليارات. وبالتالي، فإن محاولة التحديث الحيوية في الظاهر، هي أقل استدامة بكثير مما يصر عليه السيسي ونظامه باستمرار، بل إنها مبنية على رمال متحركة. بيت الورق لا يزال قائما، لكن الاقتصاد المصري سقط مرة أخرى في خانة الأزمة.
أغرقت جائحة كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا مصر في أزمة اقتصادية ونقدية وأزمة ميزان مدفوعات حادة، حيث لا تزال البلاد تعتمد بشكل كبير على الواردات وتدفقات رأس المال من الخارج. احتياطيات العملات الأجنبية سمحت بتجنب المزيد من الانهيار بفضل الودائع الكبيرة من دول الخليج، في حين يحاول النظام العسكري جاهدا مواجهة العجز المتعاظم في ميزان المدفوعات وهروب رؤوس الأموال من البلاد الناجميْن عن الأزمتين العالميتين. في الفترة السابقة لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP27) المقرر عقده في نوفمبر 2022 في مدينة شرم الشيخ السياحية، يراهن النظام على ممارسة الغسيل الأخضر، مصوّرا البلاد كموقع رئيسي جديد للاستثمارات الخضراء ورائدة محتملة في مجال تحول الطاقة. وفي حين تبدو هذه الاستراتيجية مجدية نظرا لتوقيع عدد كبير من الصفقات ومذكرات التفاهم بشأن الاستثمارات الخضراء مع حكومات وشركات أجنبية منذ عام 2021، إلا أن النظام يحتاج بعجالة وعلى المدى القصير إلى تعبئة العملة الأجنبية من مصادر أخرى، ويسعى لتحويل مصر إلى مركز تصدير للغاز الأحفوري والكهرباء الخضراء إلى أوروبا. ورغم أن محطات الغاز الأحفوري تسجل فائض قدرة إلا أن الحكومة قامت بترشيد استهلاك الكهرباء مؤقتا، سعيا لفتح المجال للمزيد من صادرات الغاز على المدى القصير.[2]
لكن في ذات الوقت، لم تتأثر صناعة أشغال البناء والعقارات في مصر بالأزمات العالمية وواصلت ازدهارها بلا انقطاع. وفي حين شكّل قطاع البناء والتشييد 7.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2020/2021، بلغ قطاع العقارات 11.4 في المائة في نفس السنة، وهو يعد حاليا رابع أكبر مساهم في الاقتصاد المصري.[3] واليوم، لا يمكن لهذا الأخير الاستغناء عن كلا القطاعين لما يجذبانه من استثمارات كبيرة وتدفقات رؤوس الأموال من الداخل والخارج وما يوفرانه من مواطن شغل تعدّ بالملايين. ولكن لماذا نما هذان القطاعان كل هذا النمو منذ استيلاء السيسي على السلطة؟ وهل للمشاريع الضخمة التي يغذيها النظام والجيش وشركات البناء والعقارات الحكومية والخاصة، والقائمة على قروض لا حصر لها، أي تأثير فعلي على ميزان المدفوعات؟ وهل أن هذه الطفرة الإنشائية مدفوعة فقط بمصالح الشركات الربحية و -كما يدعي السيسي وممثلو الحكومة والقطاع الخاص باستمرار- بسياسات التحديث التي ينتهجها النظام؟ أم أن الفورة العقارية لها أيضا دوافع سياسية وارتباط مباشر بثورة 2011؟
مشروع العاصمة الجديدة يخلق بالفعل مدينة كبيرة للنخب المصرية الثرية، معزولة عن باقي البلاد، وبعيدة عن المناطق المفقّرة وغير الرسمية في الجيزة. حتى ميدان التحرير، رمز انتفاضة 2011، بعيد عنها. وزارة الداخلية التي كانت تقع في السابق على مرمى حجر من ميدان التحرير، نُقلت منذ 2016 إلى القاهرة الجديدة على مشارف المدينة. أما بقية الحكومة فهي تحذو حذوها حاليا، وتنتقل بشكل تدريجي إلى الحي الحكومي الجديد في العاصمة الإدارية ومن المنتظر أن تتبعها أطياف كبيرة من الطبقة العليا والمتوسطة المصرية. هذا المشروع يفاقم الفصل الاجتماعي ويسدل “الستار الحديدي” أكثر فأكثر في المجتمع. من خلال إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، يتم تحويل المجتمعات المسوّرة المأهولة بأفراد الطبقتين العليا والوسطى في شرق القاهرة إلى مدينة محصّنة برمتها.
لا شك أن نشاط البناء المستفحل الذي تخوض فيه الحكومة تغذّيه الانقسامات الطبقية المتزايدة في البلاد، ولكن تبريره في الخطابات العامة يكون عادة بالحاجة إلى الإسكان في سياق النمو السكاني.[4] ولكن هل أن الزيادة السكانية هي حقا السبب المحوري للطفرة العقارية والنقص الفادح في الإسكان منخفض التكلفة؟ علما أن عدد المساكن الشاغرة في مصر قد بلغ سنة 2017 ما يقارب 11.7 مليون مسكن.[5] وبينما تعاني برامج الإسكان الاجتماعي لمواكبة الطلب، فإن السوق غارقة بكل ما للكلمة من معنى في الوحدات السكنية الراقية. هذا الإنتاج المفرط له أسباب عديدة، لخصها أخصائي العمران يحيى شوكت بقوله:
السكن هو المال…. وقد غنم المستثمرون المحليون والأجانب، فضلا عن المضاربين، من سوق العقارات غير الخاضعة للتنظيم لتحقيق ما يرون أنه عائد مضمون…. ومع ذلك، أدى هذا الرفع للقيود التنظيمية من قبل الحكومة إلى تآكل حتمي في القدرة على تحمل التكاليف.[6]
يجب تفسير طفرة البناء كذلك بحاجة السيسي لربط النخب المصرية بنظامه من جديد بعد انهيار النظام جزئيا في عام 2011. قطاع البناء أضحى اليوم مجددا أداة رئيسية لإنشاء وتثبيت استقرار شبكات المحسوبية صلب الطبقة الحاكمة المجزّأة – كما كان الأمر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. وبذلك فإن وسائل المحافظة على الولاءات السياسية في عهد السيسي تشبه بشكل فظيع الوسائل التي كانت معتمدة في عهد مبارك، فقطاع العقارات بالنسبة للنظام “أكبر من أن يفشل”، ويتم توظيفه كذلك لتبرير حكم السيسي الاستبدادي. وبشكل متواصل خلال السنوات الأخيرة، عمل النظام أساسا على عرض القوة العسكرية للجيش المدفوعة بصادرات الأسلحة القادمة من الحكومات الغربية، تدعمها لقطات فيديو عسكرية لغواصات وطائرات مقاتلة تم اقتناؤها. واليوم، يغمر النظام شاشات التلفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي بسيل لا ينتهي من المشاهد البرّاقة، التي تعرض مواقع البناء الكبيرة والمشاريع المنجزة بنجاح. لكن هذا الهوس بالمشاريع الضخمة في الصحراء “لا علاقة له بالتنمية، بل له علاقة وطيدة بشرعية الدولة وحاجتها إلى تصنيع الأمل وخلق رموز لمصر الجديدة”، وفق تعبير المخطط العمراني ديفيد سيمز.[7]
يهدف السيسي من خلال المشاريع العملاقة كذلك إلى استعراض نفسه كقائد استثنائي، وإقامة المعالم المعمارية بطريقة تكاد تكون شائعة لدى الأنظمة الاستبدادية. المشاريع الضخمة في قطاع الإسكان هي أيضا وسيلة لتحقيق هذه الغاية: “فالإسكان أمر سياسي. كل حاكم عرفته مصر تقريبا خلال العقود التسعة الماضية، بدءا من الملك فؤاد إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد ربط نفسه بشكل مباشر بمشروع سكني واسع النطاق”، على حد قول شوكت.[8] ولكن لتسليط الضوء على هذا الأمر لا نكتفي بالمقارنات مع رؤساء مصر السابقين جمال عبد الناصر أو أنور السادات أو حسني مبارك، بل يتوجب علينا أيضا أن نلقي نظرة إلى الوراء، إلى القرن التاسع عشر.
في عام 1805، ارتقى محمد علي باشا إلى سدة حكم الإيالة العثمانية في مصر وبدأ حملة لتحديث الاقتصاد والدولة في وقت اتّسم بنشأة حركات الاستقلال. في عهد حفيد محمد علي، الخديوي إسماعيل الذي حكم من 1863 إلى 1879، تحوّلت مصر من مستعمرة إلى دولة رافدة، وانصبّ اهتمام إسماعيل، الذي توجّه نحو القوى الأوروبية على حساب الإمبراطورية العثمانية، على بناء مئات الجسور وعشرات مصانع السكر وعدد لا يحصى من الطرق والسكك الحديدية والموانئ في غضون بضع سنوات فقط، ورفّع مداخيل الدولة من الصادرات الزراعية عبر استصلاح الأراضي الصحراوية. لكن مشاريع البنية التحتية مُوّلت إلى حد كبير بقروض أوروبية، وكذا مشاريع الغرور مثل دار الأوبرا الخديوية في القاهرة – التي ذاع صيتها إثر العرض الأول لأوبرا “عايدة” لجوزيبي فيردي سنة 1871 – أو وسط القاهرة، الذي أُريد منه محاكاة باريس. سقطت البلاد إذاً في فخ الديون. وتحت وطأة ديون الدولة المستحقة وضغوط الدائنين، أطيح بإسماعيل في عام 1879. سيطرت الإمبراطورية البريطانية عام 1882 على الخزانة المصرية ومن ثم على السلطة السياسية في البلاد.[9]
ومثلما كان الشأن في عهد إسماعيل، يفترض بسياسة التحديث اليوم أن تُدخل البلاد في عصر الحداثة وتوطيد السيادة الوطنية. ولكن في ظل حكم السيسي، اعتماد مصر على الخارج لم ينتقل من قوة دولية إلى أخرى بل بات ينوع مصادره. واليوم تتدفق القروض والودائع والاستثمارات سواء من أوروبا والصين وأميركا الشمالية وروسيا ودول الخليج بالتزامن مع نجاح النظام -إلى حد الساعة- في تحقيق التوازن بين مصالح دائنيه المتضاربة. والسؤال المطروح هنا يدور حول ما إذا كان سيستطيع النظام الحفاظ، على المدى الطويل، على سياسة التحديث والإنشاء، القائمة على التصرف في الأراضي المملوكة للدولة، من خلال تحويلات رؤوس الأموال الخارجية والديون الجديدة. ونظرا لأهمية القطاع العقاري في الاقتصاد وفي شرعية النظام الحاكم، يصبو هذا التقرير إلى إلقاء نظرة فاحصة على جذور ومحرّكات الطفرة العقارية (الفصل 1)، ورسم خريطة لأهم المشاريع التي أقدم عليها السيسي (الفصلان 2 و3)، وتوضيح كيف وسّع الجيش نطاق نفوذه في قطاع العقارات منذ عام 2013، والدور الذي يضطلع به هذا القطاع اليوم في إدامة الوضع الراهن في مصر (الفصل 4).
[1] عمر روبرت هاميلتون، “قبل الكوب: السلطة المستدامة”، موقع مدى مصر، 16 جوان/يونيو 2022، متوفر على www.madamasr.com/ar/2022/07/01/opinion/u/قبل–الـكوب–السلطة–المستدامة/ ،آخر اطلاع بتاريخ 9 جويلية/يوليو 2022.
[2] انظر: سارة سمير، “Egypt aims to boost natural gas exports by rationalizing electricity consumption” (مصر تهدف للدفع بصادرات الغاز عبر ترشيد استهلاك الكهرباء)، موقع Egypt Oil and Gas، بتاريخ 10 أوت/أغسطس 2022، متوفر على https://egyptoil-gas.com/news/egypt-aims-to-boost-natural-gas-exports-by-rationalizing-electricity-consumption/ آخر اطلاع بتاريخ 8 سبتمبر 2022.
[3] انظر: يحيى شوكت، “من يملك القاهرة؟’ مرصد عمران، 12 سبتمبر 2022، متوفر على https://marsadomran.info/2022/08/2691/ آخر اطلاع بتاريخ 16 سبتمبر 2022.
[4] في سنة 2021، نما عدد السكان بـ 1.88 بالمائة، مرتفعا من 72.6 مليون نسمة في 2006 إلى 106 مليون بحلول 2022، بينما واصل معدل المواليد انخفاضه لسنوات واستقر على 2.8 طفل سنة 2022 (3.5 في 2014)، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (CAPMAS). انظر: السيد جمال الدين وزينب الجندي، “Fertility rate per women in Egypt declines by 20% since 2014” (معدل الخصوبة في مصر ينخفض بـ 20% منذ 2014)، موقع الأهرام أونلاين، 30 أوت/أغسطس 2022، متوفر على https://english.ahram.org.eg/NewsContent/1/1236/474171/Egypt/Health/Fertility-rate-per-woman-in-Egypt-declines-by—sin.aspx، آخر تاريخ اطلاع 4 سبتمبر 2022.
[5] انظر: سلمى شكرالله ويحي شوكت، “تحليل: سياسات الحكومة تُسلِّع السكن”، مرصد عمران، 17 نوفمبر 2017، متوفر على https://marsadomran.info/2017/11/1334/ آخر تاريخ اطلاع 9 جويلية/يوليو 2022..
[6] يحي شوكت، Egypt’s Housing Crisis (أزمة الإسكان في مصر)، القاهرة: منشورات الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2020، ص.1.
[7] انظر: ديفيد سيمز، Egypt’s Desert Dreams (أحلام مصر الصحراوية)، القاهرة: منشورات الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2018، ص. Xviii..
[8] شوكت، Egypt’s Housing Crisis (أزمة الإسكان في مصر)، ص. 1.
[9] انظر: ف. هنتر، “Egypt under the successors of Muhammad ’Ali” (مصر تحت خلفاء محمد علي)، تاريخ كامبريدج مصر، المجلد 2، تحرير م. دبليو. دالي، منشورات جامعة كامبريدج، 1998، ص. 180 إلى 197.