المنشورات

دولة فلسطينية في شمال سيناء؟

مقال من قبل سفيان فيليب ناصر

دولة فلسطينية في شمال سيناء؟

 

التهجير الجماعي في فلسطين، وإدارة السكان في مصر

 

 

منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، دعت أصوات بارزة في إسرائيل علناً إلى تدمير غزة بشكل كامل وإخلاء سكانها قسراً إلى شمال شبه جزيرة سيناء التابعة لمصر على الحدود الغربية لغزة. وأبدى مسؤولون إسرائيليون حاليون وسابقون تأييدهم الصريح لـ”نكبةٍ” ثانية، وهو المصطلح المتعارف عليه لدى الفلسطينيين للدلالة على ما لحقهم من تهجيرٍ جماعي سنة 1948. انطلقت هذه الدعوات مباشرةً إثر هجوم حماس غير المسبوق في يوم 7 أكتوبر 2023 متحجّجةً بضرورة إبادة حماس بأي ثمن، حتى كان ذلك يعني تهجير جميع سكان قطاع غزة.

 

ما بدا لفترة طويلة وكأنه نظرية مؤامرة لا يصدقها العقل صار الآن أمرا من الممكن تسهيله بفضل الحرب والقوة العسكرية المتعنّتة : طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة بل وحتى اتخاذ الخطوات الملموسة الأولى نحو إقامة بقايا دولة فلسطينية في شمال سيناء. وعلى الرغم من أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أعرب عن معارضته الصارمة لمثل هذا السيناريو، إلا أن التطورات في شبه الجزيرة منذ عام 2014 تثير عددا من التساؤلات المقلقة خصوصا في ضوء مسار الحرب الحالية.

 

كلاب الحرب

دُمّر شمال قطاع غزة ومدينة غزة نفسها إلى حد كبير ومن المرجح أن يظلّا غير صالحيْن للسكن لفترة زمنية غير محددة. غير أن تصريحات مسؤولي الأمن الإسرائيليين من ذوي التأثير، بما ترسمه من سيناريوهات قاتمة لمستقبل ما بعد الحرب، بالكاد سجّلت حضورها في وسائل الإعلام الدولية بعد أن غطّت عليها وطأة الحرب نفسها. لكن حلم طرد السكان الفلسطينيين من غزة بالكامل والذي يراود منذ زمن طويل المتشددين الإسرائيليين والمستوطنين الصهاينة لم يكن أبدا قريب التحقق كما هو عليه اليوم، وسلوك المدافعين عنهم لم يبلغ أبدا نفس القدر من العدوانية الذي بلغه في الوقت الحالي.

 

في يوم 17 أكتوبر 2023، نشر معهد ميسغاف لبحوث الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية ورقة بحثية تدعو صراحةً إلى “إعادة التوطين النهائي لجميع سكان غزة” في مصر. ويشير التقرير إلى “عشرة ملايين وحدة سكنية متاحة” في مصر، “نصفها جاهز والنصف الآخر قيد الإنشاء”. وبإمكان هذه الوحدات السكنية أن تستوعب ما قد يصل إلى 6 ملايين شخص، في حين أن عملية إعادة التوطين نفسها قد تكلف ما بين 5 و8 مليارات دولار أمريكي.

 

لم يمض وقت طويل عن ذلك حتى سرّب موقع إلكتروني إسرائيلي تقريرا حكوميا داخليا يناقش التهجير المنهجي لجميع سكان غزة نحو شمال سيناء في أعقاب غزو إسرائيلي من البرّ. يلي ذلك إقامة مدن خيامٍ للفلسطينيين المهجّرين جنوب غربي قطاع غزة ثم إنشاء “ممر إنساني” وبناء مدن جديدة في سيناء. كما يقترح التقرير إنشاء “منطقة معقّمة” بعرض عدة كيلومترات جنوب رفح الهدف منها “ألا يتمكن السكان الذين تم إخلاؤهم من العودة”. ومن المطروح أن “تستوعب” دول أخرى الفلسطينيين “المُقْتَلَعِين”، مع ذكر كندا واليونان وإسبانيا ودول في شمال أفريقيا كمرشحين محتملين.

 

في ذات الوقت، عاد غيورا إيلاند الذي كان قد شغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي من عام 2004 إلى 2006 إلى الواجهة منذ اندلاع الحرب من خلال نشر سلسلةٍ من المقالات استرجع فيها الأفكار التي كان قد روّج لها قبل 20 عاما، بما في ذلك “التدمير غير المتناسب والمتعمد للبنية التحتية المدنية والسكان”، وإدماج ذلك “في رؤية موحّدة” مع مقترح “نقل الفلسطينيين إلى سيناء” بشكل قسري، وفق تلخيص موقع مدى مصر لأحدث كتابات إيلاند. وكان الأخير قد كتب في مقال رأي صدر مؤخرا أن “إسرائيل تحتاج إلى خلق أزمة إنسانية في غزة لإجبار عشرات أو حتى مئات الآلاف على اللجوء إلى مصر أو الخليج”. وتتمثل أهدافه المعلنة في القضاء على حماس ككيان عسكري وهيئة حاكمة في غزة، وتهجير جميع سكان القطاع.

 

في نص آخر، قارن إيلاند غزة بألمانيا النازية موضحا أن الحرب بين الدول لا تُكسب من خلال الصراع العسكري وحده، وإنما من خلال “كسر نظام الجانب الآخر” في المقام الأول. ولذلك لا ينبغي لإسرائيل تحت أي ظرف من الظروف أن “تزود الجانب الآخر بأي قدرة قد تطيل عمره”، في إشارة صريحة إلى إمدادات الطاقة والوقود. ويكتب الجنرال السابق “إن الطريق لكسب الحرب بشكل أسرع وبتكلفة أقل بالنسبة إلينا يتطلب انهيار النظام على الجانب الآخر وليس مجرد قتل المزيد من مقاتلي حماس” ويضيف : “يجب ألا نخجل” من “كارثة إنسانية في غزة وأوبئة شديدة”، بما أن “الأوبئة الشديدة في جنوب قطاع غزة ستجعل النصر أقرب وتقلل من الخسائر في صفوف جنود جيش الدفاع الإسرائيلي”.

 

خيال استعماري قديم

هذه الخيالات الاستعمارية القديمة كما يسميها موقع مدى مصر، كانت موجودة منذ ستينيات القرن العشرين. وقد ظهرت لأول مرة بعيْد حرب 1967 التي أفضت إلى احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة وسيناء ومرتفعات الجولان. في ذلك الوقت، اقترح أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي نقل سكان غزة إلى الضفة الغربية والأردن من أجل التمهيد لضم القطاع إلى إسرائيل. وحاولت إسرائيل لفترة وجيزة حوالي عام 1970 تحفيز الفلسطينيين في غزة على الانتقال إلى العريش الواقعة تحت احتلال إسرائيل في سيناء، قبل أن يتم التخلي عن هذه الاستراتيجية بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين.

 

في أوائل السنوات 2000، نشر إيلاند والأستاذ الإسرائيلي يهوشوا بن أرييه نسخة جديدة من هذه الخطط، اقترحا فيها عملية تبادل أراضٍ بين إسرائيل وفلسطين ومصر، بحيث تسلّم مصر جزءاً من شمال سيناء للفلسطينيين بهدف إنشاء شيء من قبيل غزة الكبرى، في مقابل أن تتنازل إسرائيل من جهتها عن أجزاء من صحراء النجف لمصر. وبحلول عام 2014، قامت شبكة إذاعة الجيش الإسرائيلي غالاتز بإعادة تسخين الفكرة مجددا مدّعيةً أن مثل هذا “الحل” يمكن أن يستوعب جميع اللاجئين الفلسطينيين ويلبي “حق العودة”. وفي العام نفسه، صرّح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بأن السيسي قد اقترح صفقة مماثلة، وبعد فترة وجيزة نفى عباس تلك التصريحات وأقرّ فقط بأن الرئيس المصري السابق محمد مرسي الذي أطاح به الانقلاب العسكري الدموي سنة 2013 هو الذي عرض عليه أرضاً في شمال سيناء سنة 2012.

 

في عام 2017، نفى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك – الذي أطيح به في ثورة 2011 – علناً تقريرا لـ بي بي سي العربية يفيد بأنه قد وافق على استقبال اللاجئين الفلسطينيين المهجّرين في جنوب لبنان خلال محادثات مع رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر جرت سنة 1983. لكن مبارك أقرّ بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اقترح عليه مرة أخرى في عام 2010 توطين الفلسطينيين في شمال سيناء كجزء من صفقة تبادل أراضٍ، لكن الدكتاتور المصري الأسبق رفض المقترح رفضا قاطعا وفقا لما ورد في تصريحه.

 

اكتسب الخيال الاستعماري زخما جديدا بتولى دونالد ترامب منصبه في عام 2017. في أعقاب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس والذي كان بمثابة استفزاز قاسٍ للجانب الفلسطيني، عيّن ترامب صهره جاريد كوشنر مبعوثا خاصا للمنطقة ونظّم مؤتمرا في مملكة البحرين الخليجية في 2019 لجمع التمويلات لمبادرةٍ صارت تعرف مذّاك باسم صفقة القرن.

 

يُنظر إلى هذه الخطوة في صفوف الجمهور العربي على أنها حيلة رخيصة لدفع مقابلٍ مادي للدول العربية حتى تستقبل اللاجئين الفلسطينيين. وعلى النقيض من مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي كانت براغماتيّة في اقتراحها بإقامة دولة فلسطينية داخل حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية وتبادل الأراضي بين فلسطين وإسرائيل في سبيل معالجة قضية المستوطنات مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل، اعتُبرت خطوة ترامب إهانة إضافية للفلسطينيين، كونها أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لضمّ غور الأردن وإضفاء الشرعية على المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية المحتلّة.

 

حدود التضامن

تظهر الطريقة التي دارت بها رحى الحرب إلى حد الساعة أوجه تشابه مثيرة للقلق مع السيناريو الذي ما فتئ يروج له إيلاند. فليس من المستغرب إذن أن يؤكد الرئيس المصري المستبدّ، السيسي، وبشكل متكرر معارضته لفكرة إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء.

 

بعد بضعة أيام من اندلاع الحرب، حذر السيسي من “تصفية” “القضية الفلسطينية” والخروج من “حل الدولتين”. ذلك أن إخلاء الفلسطينيين إلى سيناء من شأنه أن يشكل خطرا أمنيا غير مقبول، لأنه سينقل المقاومة الفلسطينية إلى التراب المصري، ويحوّل سيناء “إلى منصة إطلاق للعمليات ضد إسرائيل” وربما يثير تصعيدا عسكريا بينها وبين مصر. ومنذ ذلك الحين، تداولت وسائل الإعلام الخاضعة للسيطرة المباشرة لأجهزة المخابرات المصرية على نطاق واسع التهديدات التي تطرحها ما سمتها بـ “خطة إيلاند”، ملقيةً الضوء بطبيعة الحال على معارضة السيسي القوية لمثل هذه السيناريوهات، وفق ما أورده موقع مدى مصر في تلخيصه للنقاش العام الدائر في البلاد.

 

هذه المعارضة الصريحة، على الأقل لفظيا، ليست أمرا مفاجئاً. حيث إن الأغلبية الساحقة للمصريين متحدون في تضامنهم مع فلسطين، كما أن الانتخابات الرئاسية على الأبواب ومن المقرر إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول. غير أن هذه الانتخابات لن تكون حرة ولا نزيهة وإعادة انتخاب السيسي لا يعدو أن يكون مجرد إجراء شكلي. وبالنظر إلى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الحالي، فإن مجرد النظر في إجلاء سكان غزة إلى مصر أو عدم إبداء معارضة صارمة لذلك الأمر من شأنه أن يرتد حتما على السيسي ومن المحتمل أن يثير احتجاجات ضده، مما قد يشوّش على مسرحية الانتخابات المقبلة.

 

في حقيقة الأمر، لطالما كان تضامن النخب العربية مع فلسطين أجوف اللبّ. ولئن كان هذا التضامن لا يزال قويا في الشوارع من المغرب إلى اليمن فإن البراغماتية وحدها هي التي توجّه النخب الحاكمة في المنطقة. إن القومية العربية لجمال عبد الناصر ماتت منذ أمد طويل، والنخب لا تعلن عن تضامنها مع فلسطين إلا حين يكون لها فيه منافع سياسية، أثناء الحملات الانتخابية مثلاً أو في أوقات تضاؤل الشرعية السياسية أو أثناء الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.

 

تمهيد الأرض

على الجانب المصري من الحدود، تجري الاستعدادات لعمليات الطرد وإعادة التوطين من غزة إلى شمال شبه جزيرة سيناء منذ عام 2014، إذ يبدو أن نظام السيسي والجيش المصري قد نجحا بالفعل في خلق الشروط المسبقة لمثل هذه الخطوة بالتحديد.

 

يشن الجيش المصري حاليا حربا دموية في شمال سيناء ضد ميليشيات إسلامية متطرفة تدعى ولاية سيناء، وهي فصيل مما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). هذه الجماعة المسؤولة عن القتل الوحشي لمئات من قوات الأمن المصري والمدنيين وكذلك الهجمات التي استهدفت مسيحيين، أعلنت مسؤوليتها أيضا عن الهجوم الذي استهدف طائرة ركاب روسية في سنة 2015 وأسفر عن مقتل 224 شخصا، إلى جانب مسؤوليتها عن المذبحة غير المسبوقة خارج أحد مساجد بئر العبد في الجزء الغربي من شمال سيناء والتي أسفرت عن قتل أكثر من 300 شخص سنة 2017. وقد فشل الجيش المصري في استعادة الأمن لسنوات على الرغم من نشر عشرات الآلاف من الجنود في المنطقة.

 

في الوقت ذاته، اتُّهم الجيش بالقيام باعتقالات تعسفية، والضلوع في الاختفاء القسري للمدنيين، والتعذيب، والإعدام خارج نطاق القضاء لمن يُشتبه في كونهم من مقاتلي تنظيم الدولة. ووثّقت جماعات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومؤسسة سيناء لحقوق الإنسان انتهاكاتٍ لا حصر لها لحقوق الإنسان على أيدي السلطات العسكرية المصرية وتنظيم ولاية سيناء ضد سكان شمال سيناء من المدنيين.

 

رُحّل عشرات الآلاف من الأشخاص أو فروا في مواجهة الإرهاب وحظر التجول والاضطرابات الهائلة في إمدادات المياه والكهرباء ونقص الغذاء. وقد أدى العنف ضد السكان المدنيين، فضلا عن الهدم الممنهج للمنازل في الجزء المصري من مدينة رفح على الحدود مع غزة ومدينتي العريش والشيخ زويد، إلى تهجير ما يصل إلى 150.000 شخص منذ عام 2014 – أي ثلث مجموع سكان شمال سيناء.

 

أصدرت مصر، متعلّلةً بالدفق المزعوم للأسلحة من غزة إلى تنظيم الدولة الإسلامية عبر الأنفاق العابرة للحدود، مرسوميْن بهدف تحديد منطقة عازلة من خمسة إلى سبعة كيلومترات جنوب الحدود المصرية مع غزة وتصنيفها كمنطقة عسكرية محظورة. كما تضمّن المرسومان أيضا أحكاما بشأن “إخلاء” المنطقة إلى جانب تقديم تعويضات للأشخاص القاطنين فيها، والذين تقرّر طردهم تدريجيا من منازلهم في السنوات التالية. مدينة رفح المصرية، والتي يبلغ مجموع سكانها حوالي 75.000 نسمة، قد سُوّيت بالأرض تماما، كما هُدم ما لا يقل عن 12.350 مبنىً بين عاميْ 2013 و2020 معظمها يقع في رفح والعريش والقرى المحيطة بكليْهما، وفقا لما أوردته منظمة هيومن رايتس ووتش.

 

في عام 2021، أصدر السيسي مرسوما رئاسيا جديدا ينص على توسيع المنطقة العسكرية المحظورة الواقعة على الحدود مع غزة من 79 كم² إلى 2.655 كم². وفي الشهر نفسه، أفادت مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان بتشييد حاجز أشبه بجدار حدودي بارتفاع ستة أمتار شرق العريش، يبدو أنه بُني على طول المنطقة المحظورة المنشأة حديثا والتي تفصل المناطق المحيطة برفح عن سفوح العريش الشرقية والمطار العسكري المتواجد هناك.

 

أوردت منظمة هيومن رايتس ووتش أن عمليات الإخلاء هذه لم تُنفّد وفقا لمقتضيات القانون الدولي، علاوة على أن الحكومة المصرية قد وعدت السكان بتعويضات لم تدفع منها سوى القليل. كما أدى تأخر تحقيق الوعود بتوفير مساكن بديلة في أماكن مثل مشروع التنمية العمرانية رفح الجديدة الذي طال انتظاره، أو حق العودة الذي وعد به المسؤولون المصريون السكان النازحين من القرى الواقعة خارج المنطقة المحظورة في رفح، كل ذلك أدى إلى توترات بين الدولة والمدنيين لسنوات ونشبت عنه احتجاجات منتظمة بلغت حدّ الاشتباكات، آخرها جدّ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كما أصدرت ست منظمات حقوقية مصرية في الآونة الأخيرة بيانا يقيم الرابط بين حملة القمع العنيفة التي شنتها الدولة المصرية على الاحتجاجات في أواخر أكتوبر/تشرين الأول والمذبحة الجارية حاليا في غزة، ودقت ناقوس الخطر بشأن التهجير القسري لسكان شمال سيناء والمخاوف من نقل سكان غزة إلى سيناء.

 

لا مستقبل لغزّة

هناك العديد من التساؤلات الشائكة المطروحة في ضوء الدعوات الإسرائيلية المستمرة لطرد جميع سكان غزة وكذلك التشابك بين التطورات في شمال سيناء منذ عام 2014 والحرب المتواصلة في القطاع.

 

هل كان هجوم حماس ذريعةً مرحب بها لدى القوى المتطرفة في إسرائيل للضغط من أجل التهجير الجماعي للفلسطينيين، خصوصا في ضوء التقارير التي تفيد بأن حكومة نتنياهو تجاهلت التحذيرات من هجوم وشيك ؟ وإلى أي مدى خلق النظام المصري الشروط المسبقة في سيناء للطرد الجماعي وبالتالي ترك الباب مفتوحا أمام سيناريوهات متعددة ؟ وهل أننا نشهد التمظهرات الأولى نحو تهجير جماعي آخر للفلسطينيين، إلى شمال سيناء هذه المرة؟

 

إنشاء دولة فلسطينية في شمال سيناء أمر على الأرجح غير واقعي على المدى القصير أو المتوسط، بغض النظر عن سياسة السيسي لإخلاء السكان في شمال سيناء. حيث إن تسليم الأراضي في سيناء – وهو أمر ضروري لهكذا سيناريو – ببساطة غير ممكن في مصر في المستقبل القريب. ويشهد على ذلك عملية نقل ملكية جزيرتيْ تيران وصنافير غير المأهولتين في خليج العقبة في البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية سنة 2016 والتي أظهرت كيف سيكون رد فعل الشعب المصري عند نقل ملكية أرضٍ في سيناء. إذ جاء الرفض لصفقة الجزيرتيْن لا فقط من المعارضة المكسورة شوكتها بفعل سنوات من القمع الوحشي بل أيضا من الأطراف ذات التأثير في صفوف النخبة المصرية.

 

من ناحية أخرى فإن تهجير عشرات أو حتى مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة إلى سيناء هو احتمال وارد جدا. إذ لا تلوح في الأفق نهايةٌ للعنف المستمر نظرا إلى أن الجيش الإسرائيلي يبدو مصمما على مواصلة هجومه الجوي والبري مما سيجعل الحياة في أجزاء كبيرة من قطاع غزة المحتل مستحيلةً بحكم الأمر الواقع. وفي حال لم يوقف حلفاء إسرائيل وعلى رأسهم الولايات المتحدة مسار نتنياهو الحربي، فإن السبيل الوحيد المتبقي للسكان المدنيين الفلسطينيين سيكون عاجلا أم آجلا هو الفرار إلى شمال سيناء. وهي احتمالية تلوح أقرب بمرور الأيام مع توسيع إسرائيل قصفها للمناطق الجنوبية من قطاع غزة.

 

وفي حين تتمسك مصر بمعارضتها لمثل هذه الخطوة، على الأقل على مستوى الخطاب، فإنه لا يمكن توقع أي معارضة فعالة من حلفاء الفلسطينيين المفترضين في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي. ليبيا والسودان واليمن تمزّقها نزاعات مسلحة بين الميليشيات والجيوش المتنافسة. وسوريا تعيش حالة من التدهور العسكري والاقتصادي خلفتها سنوات الحرب واحتلال تركيا لأجزاء من أراضيها وهي غير راغبة ولا قادرة على فتح جبهة شمالية مع إسرائيل. وفي الوقت ذاته فإن حزب الله، المدعوم من إيران، ليست لديه مصلحة في التورط في حرب مفتوحة مع إسرائيل. بينما نظام السيسي العسكري من جهته مهتم في المقام الأول بتحقيق استقراره السياسي الذي يفرض عليه إبقاء سكان مصر تحت السيطرة بأي ثمن. لذا، فإن إبداءه في الوقت الحالي لتضامنه مع فلسطين ما هو إلا هو بادرة انتهازية، أو أكثر من ذلك بقليل.

وبينما يواصل الجيش الإسرائيلي توسيع هجومه الجوي إلى جنوب قطاع غزة، فإن آفاق أكثر من 2 مليون مدني فلسطيني يعتبرون غزة وطنا لهم تزداد قتامةً أكثر من أي وقت مضى. وإذا تمكنت العناصر الأكثر تطرفا في المؤسسة الإسرائيلية من فعل ما يحلو لها فإن ذلك الوطن قد لا يدوم لهم لفترة أطول.

 

نُشرت نسخة منقحة من هذا المقال باللغة الألمانية في المجلة النمساوية الدولية.

https://international.or.at/