حوار مع ماهر حنين
هذا الحوار متوفر أيضا بالإنقليزية
أجريت هذه المقابلة مع المفكر و المناضل ماهر حنين حول كتابه الاخير مجتمع المقاومة: ما بعد الاسلاموية، ما بعد البورڨيبية، ما بعد الماركسية الذي صدر بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ فرع شمال افريقيا. يفترض حنين في كتابه وجود ما يسميه مجتمع المقاومة في تونس ويحلل خصائصه كحركة تقطع مع السياسات التقليدية لليسار. أحد الأهداف الرئيسية لكتاب حنين هو التفكير النظري في الوضع السياسي التونسي وتقديم مقترحات و التفكير في كيفية التعامل مع هذا الوضع.
من هو ماهر حنين؟ حدثنا عن نفسك و عن مسيرتك
ماهر حنين مناضل سياسي تونسي، تجربتي النضالية بدأت بالأساس مع الحركة الطلاّبيّة مع التنظيم الإتحاد العام لطلبة تونس مؤتمر 18 الخارق للعادة، في مرحلة ما التحقت بالحزب الديمقراطي التقدمي، كامل مرحلة العقد الأول من القرن الحادي تقريبا. التحقت بالحزب سنة 2000 و غادرته سنة 2013. التحقت لفترة قصيرة بحزب المسار، الحزب الشيوعي سابقا، الديمقراطي الاجتماعي و في نفس الوقت كان عندي نشاط مدني بالأساس مع المنتدى الاجتماعي، كنت عضو مؤسس في المنتدى الاقتصادي، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و في ديناميكيّة المنتدى الاجتماعي التونسي سابقا و المنتدى الاجتماعي المغاربي و حركة العولمة البديلة بصفة عامّة و التحقت كذلك بجمعيّة نشاز سنة 2016. اليوم نشاطي مرتكزا أكثر على القضايا النظريّة البحثيّة و الاشتغال في المجتمع المدني و السياسي كمناضل غير متحزّب او مستقل.
كيف جاءتك فكرة تحرير هذا الكتاب ولماذا الآن؟
في الواقع الكتاب فكرته بدأت بالأساس انطلاقا من متابعة يوميّة نضاليّة لصعوبات الانتقال الديمقراطي، إذا أمكن تسميّتها كذلك، و صعوبات المسار الثّوري اذا اردنا تسميّتها. كنت متابع لها كمناضل، كناشط في الحياة السّياسيّة و المدنيّة، و كنت متابع لها كذلك من خلال التعليق الصحفي من خلال نشر بعض المقالات في الصحافة، و كنت متابع لها ايضا من خلال الندوات الفكريّة و الندوات السّياسيّة كان ينظّمها المجتمع المدني و المجتمع السياسي. في وقت من الاوقات كنت شعرت في نقاش مع العديد من الاصدقاء ان الثورة لا تحتاج فقط ان يكون عندها مرافقة عمليّة ميدانيّة لها، تحتاج ربّما ان يكون عندها مرافقة بحثيّة نظريّة فكريّة لهذا المسار الثوري. كان عندي قناعة ان هذا المدخل، مدخل مجتمع المقاومة، مدخل الحركات الاجتماعيّة، مدخل المجتمع التحتيّ، مدخل أقل ما يقال انّه منسيّ، ان صحّ التعبير، او على الأقل الاسهامات في شأنه لم تكن مهيكلة، منظّمة او مبوّبة، ربّما مبوّبة لكن لم يكن عندي اطّلاع على كل ما نشر في هذا الاتّجاه. فجاءت فكرة الكتاب كمحاولة لإعطاء رؤية تأليفيّة لما يجري في عمق المجتمع من منظور يساري نقدي من منظور، أفق جديد لليسار التونسي و الحركات الاجتماعيّة التونسية.
ما هو مجتمع المقاومة وبماذا يتميّز؟
مجتمع المقاومة الذي درسته، استنتجت جملة من الخصائص فيه. هو اولا مجتمع موجود منذ سنوات، إذا لا منذ عقود في المجتمع المدني التونسي، موجود في مختلف حقول الحياة الاجتماعيّة، موجود في الحركة النقابيّة، في الحركة الطلابية، في الحركة النسوية، في الحركة الثقافية و الفنية، في الحركة الحقوقيّة و حركة المدوّنين. ليس مجتمع ولد فجر الثورة، فهو مجتمع منغرس، منتشر في اعماق الكيان الاجتماعي التونسي او الجسم الاجتماعي التونسي. حتى سنوات المقاومة الاخيرة للاستبداد، خاصّة مع منعرج 2005ـ2008، اعطت لهذا المجتمع فضاءات كبيرة بالفعل، حتى أصبح عنده دور متميّز في الأشهر الأخيرة التي رافقت رحيل الاستبداد و أصبح عنده دور اوضح مع الاعتراف القانوني و مع الطفرة الذي عرفها المجتمع المدني و الحياة العامة و الفضاء العمومي بصفة عامّة بعد 2011.
تعتبر في بداية كتابك أنّ ثورة 2011 تعدّ “تمرّدا منتصرا وناجحا على الاقتصاد السّياسي للعولمة النيوليبرالية” وتسند لها أيضا “دلالة إنسانيّة كونيّة و مجسّمة لإنسيّة جديدة”. هل بإمكانك توضيح هذه النقاط؟
بالفعل انا اعتبر الثورة التونسية، حتى قبل الثورة، بؤر التمرّد او بؤر التوتّر و بؤر التصادم التي كانت موجودة في العالم على السياسات النيوليبرالية عديدة، بدأت في المكسيك مع تشياباس، كل حركة العولمة البديلة بداية من جينوا، أتلانتا، سياتل، كل هذه المحطات كانت هامة، بورتو أليغري لاحقا، حتى في المنطقة انتفاضات الرغيف في افريقيا، سيدي افني في المغرب، الحوض المنجمي، الجزائر. كل هذه المحطات كانت تبيّن بالفعل ان شعوب العالم، سوى ان كانت شعوب الشمال او شعوب الجنوب ترفض هذه الإملاءات الجديدة للخيارات النيوليبرالية. منعرج الثورة التونسية بيّن بالفعل ان مقولة نهاية التاريخ لفوكوياما لم تعد فاعلة و ان البشريّة ليس لها قدر ان تقبل فقط بإملاءات ديكتاتورية السوق و ان الافق الوحيد للإنسانية الاخير هو ان نقبل بهذه الحتميّة. بهذا السقف للتاريخ الانساني و ان الانتفاضات بإمكانها ان تتحوّل الى انتفاضات تنتصر، يعني تسقط ديكتاتوريات. و العامل الاخر المهم ان ما كان يقال عن الشرق بصفة عامّة او عن البلدان الاسلامية بصفة اخص بانها ستبقى بلدان خاضعة الى الابد للاستبداد و للحكم المتسلّط. الثورة اسقطت هذه الفرضيّات و بينت ان بإمكان كل شعوب العالم، مهما كانت ثقافتها و مهما كان دينها ان تنتصر. اذا الثورة في فضاءها الجغرافي كانت ثورة محليّة بعناصر تونسيّة، بمقوّمات احتجاجيّة تعبويّة تونسيّة بأتم معنى الكلمة، نقابيّة، شبابية، نسوية، فنية، إلخ… حقوقية و سياسية، دلالتها كانت دلالة كونية بمعنى انها كانت رفض لخيارات اقتصادية و اجتماعية مملات على الدولة و البلاد التونسية، و حكومات بن علي و المنظومة السابقة كانت في صف هذه الخيارات و كانت تفرض هذه الخيارات على المجتمع و على الشعب. الانتفاضة بيّنت ان المجتمع رافض لهذه الخيارات و رافض كذلك للسياسات التي ترافقت معها، سياسات الفساد و التسلّط و الاستبداد. إذا الثورة هي حدث محلّي جغرافيا ولكن كوني في رسالته الانسانية التحرّرية، و الدليل عليه ان صدى الشعب يريد توسّعت و اعطت امكانيّات كبيرة للتجمع و الاعتصام و الاحتجاج حتى خارج المنطقة العربيّة، في Occupy Wall Street، في مدريد، في عديد ساحات العالم. الثورة التونسية ثم لاحقا الثورة المصرية اعطت انطلاقة جديدة للحركات الاحتجاجية في العالم.
حسب رأيك، لعب القانون، بدستور عام 1959 وبمجلة الأحوال الشخصية، دورا رئيسيا في تحديث المجتمع التونسي من الفوق. خلافا لذلك، تعتبر ان تجربة المجلس التأسيسي بين سنتي2011 و2013 مثّلت “ثورة دستوريّة تحتيّة”. ما الدور الذي لعبه المجتمع المدني في هذه الحقبة التاريخيّة وماهي أهم مضامين ومكاسب دستور 2014؟
المجتمع التونسي او علاقة المجتمع بالدولة بعد الاستقلال كانت قائمة على أساس ان النخب المدينيّة و العلمانيّة و خاصة النخب التي تكوّنت في الجامعات الاوروبية و في التعليم الحديث هي التي كانت تقود الحركة الوطنيّة و اخذت امكانيّات قيادة الدولة و بناء دولة الاستقلال على حساب النخب التقليدية و النخب الريفية و النخب المحافظة. هذه النخب كانت نخب مدنية و ليست عسكرية، كانت قادت بناء الدولة و كان لها مشروع اصلاحي بونابرتي من فوق، كانت تعتبر ان المجتمع غير مؤهل ثقافيا و نفسيا او حتى بنيويا ان يكن هو منطلق الاصلاحات وفي تقديري هذه الثورة، اسمّيها السّالبة او السلبية او الهادئة كانت من الفوق بالفعل بقرار نخبوي، بالأساس من التجربة البورقيبية او من الخلفية التحديثية البورقيبية و النخب الوطنية. لعبت في تلك الفترة دورا هاما في تحرير المرأة، كانت إجراءات رائدة، في تعميم التعليم، في اصلاح الادارة، في تعصير هياكل الدولة، في تمكين المجتمع من التقدم على أساس هياكل و أطر حديثة و عصرية. لكن هذه العلاقة بدأت تتوتّر تدريجيا بين المجتمع و الدولة، و اصبح المجتمع يطلب من الدولة اكثر تحرّر، اكثر مساحات للتعبير عن نفسه، بدءًا بالحركة الشبابية الطلابية، ثم الحركة النقابية العمالية، ثم الحركة السياسية و كل هذه التصادمات كانت تؤدي الى محاكمات و سجون و منافي و احيانا حتى إلى سقوط ضحايا و سقوط جرحى، سوى ان كانت مصادمات مباشرة او محاكمات واسعة النطاق او ملاحقات. حتى ان كان في لحظة الثورة 2011 و لحظة كتابة الدستور 2011ـ2013 المجتمع عاش استقطاب حاد و عاش توتّر كبير، عاش تصادم حقيقي بين النزعة العلمانية التحديثية و النزعة المحافظة، و هذا المخاض الداخلي كان صعب، كان فيه مواجهات و شهداء، تقريبا انقسام للشارع بصفة واضحة، ادّى الى دستور تحتيّ. التفاوض حول الدستور كان تفاوضا عصيرا، لذلك اعتبر دستور2014 دستور نشأ من مخاض صراع المجتمع المدني، من مخاض المواجهة الفكرية و السياسية و الاعلامية و حتى الميدانية حول كل فصول هذا الدستور. الدستور أصبح مكسب و الدليل على ذلك ان التونسيون الآن رغم نقائص هذا الدستور و رغم تعثّر في تطبيقه و حتى في اتمام بناء هياكله خاصة المحكمة الدستورية، تبيّن لنا انه الملاذ او الملجأ حتى في الانتقال السلل للسلطة الآن بعد وفاة الرئيس، تبيّن ان هذه الآلية الدستورية بدأت تترسّخ أكثر في ذهنيّة الطبقة السياسية و لما لا في ذهنيّة قطاعات واسعة من المجتمع.
تشكل الحركات الشبابيّة جزءًا هاما من مجتمع المقاومة في الأمثلة التي تحللها في الكتاب من بينها حركة المدونين، ثقافة الهيب هوب وموسيقى الراب وحركة مانيش مسامح… كيف يمكن تفسير ذلك؟
في الواقع لم يكن بإمكاني ان اتحدث على كل حركات المقاومة لإنّ منهجيا حاولت ان أخذ بعض الامثلة لأسلط عليها الاضواء. في البداية كان محاولة للتعريف النظري لحركات الاحتجاج الاجتماعي و التحركات الاجتماعية كشكل جديد للتعبير الاحتجاجي في المجتمعات الحديثة و المجتمع التونسي بصفة خاصة، فاخترت بعض الحركات التي كنت اعتبرها كانت حركات مؤثّرة و تبعت المرحلة السابقة (ما قبل الثورة). حركة المدوّنين في الواقع بدأت فيما قبل و تواصلت وهي حركة جريئة و شجاعة. لم يكن تحرير الفضاء العمومي الافتراضي سهل. التسلط الاستبدادي زمن بن علي كان مانع اليوتوب، مانع الدخول الى عديد المواقع، كان يلاحق المدوّنين، كان يراقب حتى شبكة التّواصل الاجتماعي، في وقت من الاوقات حاول حتى منع هذه الشبكة، ولكن عديد من الشباب قاوموا و توصلوا بالفعل الى تحرير هذا الفضاء، و يبقى المدوّن زهير اليحياوي رمز، الذي بكل شجاعة تحمّل مسؤولية تحرير هذا الفضاء و سجن و توفّي (رحمه الله) بعد أشهر قليلة من مغادرته للسجن وهو في عزّ الشباب. ثقافة الراب و الهيب الهوب بصفة عامة هي ثقافة رافقت سنوات الاحتجاج، قبل رحيل بن علي ثم خاصة اثناء رحيل بن علي و حتى بعدها. وهي تعبيرة احتجاجية شبابية عالمية وقع تكيّيفها تونسيا خلال المحاور الذي وقع التطرق إليها، و إلا الريتم (rythm)و الإيقاع و انتشار هذه المجموعات في الأحياء الشعبيّة. يمكننا القول اليوم ان كل حي شعبي او مجموعة شبابية لديها مغنّيّ الراب او مجموعات الراب الخاصة بها بالإضافة إلى الغرافيتي (graffiti)و عديد التعبيرات الأخرى الموجودة. وهناك علاقة تبادل و تفاعل جدليّة بين هذه المجموعات و مجموعات الأولترا (ultras)في الملاعب، يعني هناك فضاء كامل من الاحتجاج. حركة مانيش مسامح كذلك كانت حركة رائدة باعتبارها تصدّت إلى قانون المصالحة و استطاعت ان تفرض نسق على الساحة العامة بطريقة عفويّة جلبت الاحترام و الانتباه. حركة جمنة في سياق الاقتصاد الاجتماعي و التضامني بدأت معزولة ثم أصبحت حركة ذات مصداقية كبرى من خلال نتائجها، نتائج الاستغلال الاجتماعي و التضامني للضيعة او حتى من خلال تعاطف كبير مع هذا الخيار الاقتصادي الغير ليبرالي، الغير رأسمالي و الذي فيه مردوديّة كبيرة على المنطقة و سكّانها. حركة المعطّلين عن العمل هي حركة واسعة و جديدة و جريئة، بدأت تأخذ صدى كبير بداية من سنة 2006 في تونس مع التحركات الاولى سوى ان كان من خلال تنظيماتها مثل اتحاد المعطّلين عن العمل او حتى من خلال المجموعات المستقلة و العفويّة. هي حركة تخفض أحيانا و تصعد أحيانا أخرى و لكنها موجودة و تعتبر من الحركات التي هي بصدد تنشيط المجتمع التحتي و اعطاء نسق كبير من العطاء الدافع.
الحركات التي تتناولها في كتابك تتميز بالأفقيّة والتشبيك. ما هي الفرص ولكن أيضا المخاطر التي تنبع من هذه الصيغة التنظيمية؟
في الواقع هذا هو الاشكال الكبير او الاحراج الحقيقي في التعامل مع الحركات الاحتجاجية: هي تحمل علامات تفاؤل، هي علامة على ان المجتمع لم يمت، ان المجتمع مازال ينتج اشكال احتجاج، اشكال رفض و اشكال تمرّد و مازال قادرا على ان يعبّئ طاقات عديدة في داخله من اجل رفض سياسات او رفض قانون او المطالبة باي مطلب جزئي، قادر ان تكون هذه التحركات منتشرة على كامل تراب الجمهوريّة، قادر ان تخترق فئات اجتماعيّة عديدة، شبابية، نسوية، إلخ… و هذه الظاهرة في الواقع جاءت لتبيّن ان الصيغ التقليدية، يعني صيغ النقابات التقليدية و صيغ الاحزاب التقليدية و التنظيمات السياسية التقليدية الهرمية الايديولوجية هي صيغ، اذ لم نقل انتهى دورها، و لكن يمكن ان نقول انها في مأزق او انها في حيرة من امرها باعتبارها ليست جماهيرية و تعيش صعوبات حقيقية في الحفاظ على دورها الأساسي التقليدي في تأطير الجماهير و في النزول بها للشارع او على الأقل في تمكينها من اسلحة للمقاومة.
التشبيك مناسباتي و ليس هناك تشبيك دائم، هناك محطات نجد فيها تشبيك حقيقي و محطات اخرى ينحصر فيها التشبيك. هي حركات احيانا تصاب بالإجهاض، يعني حركات تتواصل بعض الاسابيع او بعض الاشهر ثم تخفت، هي حركات فيها رفض عفوي او تلقائي احيانا للتسيس، يعني انها لا تعتبر انها معنيّة بالعملية السياسية، يعني بعملية الانتخابات و السلطة و صندوق الاقتراع، و تطغى عليها احيانا بعض النزاعات الاناركية و بعض النزاعات الحينيّة، تحاول التحرك اكثر على مواقع بؤرية معيّنة. لذلك يمكن القول ان زخم هذه الحركات يبيّن ان المجتمع حي. في المقابل الحياة السياسية التقليدية التي تمر بآليات تقليدية (صندوق الاقتراع، الانتخاب، إلخ…) في مجال آخر. لذلك موازين القوى مازالت مختلّة في المشهد السياسي التقليدي بين ما يمكن تسميّته القوى اليمينية سوى ان كانت ليبرالية و إلا محافظة، فهي لا تزال مسيطرة على المشهد السياسي، مشهد ربما الآن عودة حتى لقوى الثورة المضادّة او حتى لقوى اوليغارشية مرتبطة اكثر بالفساد و بالتهرّب الضريبي تعود للحياة السياسية، او ربما تدخل للحياة السياسية و تريد خوض ثمار الانتخابات. في مقابل ذلك هذا الزخم الشبابي و الاجتماعي، من المفروض ان يكون عنده عمق طبقي و عمق من اجل مجتمع بديل او من اجل سياسات اجتماعية و اقتصادية بديلة، و لكن ليس لها افق سياسي و هذا مأزق حقيقي، تنظيمي، و ربما مأزق سياسي حقيقي بالنسبة للحركات الاجتماعية و هذا المجتمع التحتي.
للإجابة على السؤال “كيف العمل؟” تتطرق إلى مرجعيّات فكريّة فلسفيّة وسوسيلوجيّة معاصرة على مثال آصف بيات و شانتال موف و نانسي فرايزر. فيما تفيدنا هذه المداخل الفكريّة المختلفة؟
الهدف الأساسي من الاحالة إلى هذه المداخل الفكريّة المختلفة هو اولا تعبير عن اكتشاف شخصي لمدّة سنوات لهذه الكتابات. اعتبر نفسي لم اكن على اطلاع في سنوات سابقة على هذه الكتابات، آصف بيات اكتشفته مأخّرا، شانتال موف ايضا مأخّرا، نانسي فرايزر كذلك في علاقة مع مدرسة فرانكفورت و خاصة اكسيل هوناث مؤخرا، جاك رانسيار كفيلسوف ربما كان عندي اطلاع اكثر على كتاباته و هذا دليل ان الاعتقاد بأنّ المرجعيات الفلسفية التقليدية و المرجعيات الايديولوجية التقليدية الذي تربّى عليها اليسار التقليدي اللّينينيّة و الماوية غير كافية ان تمكننا لا من فهم هذا الواقع فهم ناجع و فهم جيّد و لا تمكّننا كذلك من ايجاد الصيغة التنظيميّة للتعامل معه، فرأيت ان هذه المرجعيات هي مرجعيات معاصرة لأنّها تتفاعل مع وضعيات جديدة و تفاعلت مع زمنيّة جديدة، فوضعتها على ذمّة القارئ و ربما تكون مناسبة لإيجاد مداخل اخرى للتفكير و ربما لما لا اعادة انتاج فكر جديد في علاقة بالمنطقة التي نعيش فيها و في علاقة بالسّياق التاريخي الذي نعيش فيه. تنوّع هذه المرجعيات هذه المداخل دليل على اننا في حاجة الى ان تكون شبكة المرجعيات التي نقرى منها او من خلالها الواقع شبكة مفتوحة و ليست شبكة ايديولوجيا واحدة و ان كنّا نحافظ في كل هذه المرجعيات على نفس الإطار القيمي، الحرية، العدالة الاجتماعية، المساواة بين الجنسين، معاداة الاستعمار، مناهضة الليبرالية المتوحّشة و لكن بمداخل مختلفة، ليس مدخل واحد.
حسب رأيك لم تنجح حركة النهضة في تحوّلها نحو باراديغم ما بعد الإسلاموّية. ما هي شروط هذا التحوّل و هل يوجد في صلب حركة النهضة شخصيّات او تيّارات تعمل من أجل هذا التحوّل او تحاول ارباكه أكثر من غيرها؟
كل ما يجري داخل حركة النهضة في الواقع سابقا لم يكن عندنا اطلاع كبير عليه. ربما الحركة كانت مسيطرة أكثر على تفاعلاتها الداخلية. لكن على الأقل ما كنّا نعرفه سابقا ان الحركة عاشت في السبعينات و في بداية الثمانينات خلافا حقيقي في داخلها بين تيّار اصبح يعرف لاحقا التيار الاسلامي التقدمي، الذي قرب اكثر فكريّا للتيار الاسلامي في مصر (حسن حنفي). كانت هناك بعض الانشقاقات الفرديّة داخل الحركة لم تكن عندها مرجعيات فكرية. الآن هناك بعض الاصوات داخل الحركة تعبر عن قناعات ربما ليبرالية أكثر و قناعات ديمقراطيّة اوضح سوى ان كان بالنسبة للقيم الدمقراطية في البلاد او بالنسبة للديمقراطيّة داخل الحركة و نشهد حتى في الفترة الاخيرة من خلال قائمات حركة النهضة نوع من الرفض لسياسات قيادات النهضة داخل الحركة. هذا غير كافي في تقديري لأن الحركة الاسلامية تعاملت مع الثورة في البداية بنهم كبير و اساءت تقدير اللحظة و كانت عندها اولويات تكاد تكون حزبية، بأن تستقر كحركة و بأن تستعيد قواعدها و بأن تربط علاقاتها بالحركات الإخوانية و حتى بالمجموعات السلفية في المنطقة، فكانت هناك موجة كبيرة من دخول الدعاة الى تونس و من فسح المجال لهذه الدعوات السلفية في المساجد و في الساحات العامة. ثم اكتشفت الحركة او اجبرت على ان تكتشف ان في المجتمع التونسي نواة صلبة تقدمية، حداثية، اجتماعية، شبابية، نسوية غير مستعدّة ان ترمي المنديل. هناك مؤشرات ان الحركة تتّجه نحو تغيير طريقة تصرفها في المجتمع، لكن لم نقرأ الى الآن بأتم معنى الكلمة مراجعات فكرية وايديولوجية تقر بأن الحركة اصبحت تتعامل مع المرجعيات الديمقراطية كمرجعيات قيم و ليس فقط كآلية للانتخاب و للتداول على السلطة و لكن هذا شرط من الشروط الأساسية للعيش السلمي داخل المجتمع و من تهدئة مناطق توتّر في المجتمع و تهدئة امكانية الاستقطاب الايديولوجي او حتى الاحتراب الاهلي.
تراقب عودة للبورقيبيّة باعتبارها رؤية سياسيّة و مجتمعيّة منذ الفترة الانتقاليّة الأولى (2011ـ2013). كيف يمكننا اليوم مجاوزة ما تعتبره “بورقيبة الصّنم”؟
بالفعل اولا البورقيبية، حتى التي غيّبها بن علي، حتى في جنازة بورقيبية التونسيين لم يتمكنوا من متابعة الجنازة فقد قضى بورقيبية تقريبا 10 سنوات من حياته سجينا في المنستير إلا للمقربين له الذين كانوا يزورونه. العديد من الشباب الذين لم يعرفوا بورقيبة و لم يعرفوا الرجل مباشرة. اكتشفوا مع الثورة عودة هذا الرمز او هذه الرمزية و عودة هذه الطريقة في الخطابة و عودة هذه الطريقة في التفكير و لكن هناك عودة ايضا مضمونية من خلال الفصل الاول من الدستور و هذا التصوّر للجمهورية، للمجتمع، للتعليم، للمرأة، للدولة، للعلاقات الدولية. هذه العودة كانت عودة لافتة و عودة قويّة. في المقابل كان هناك نوع من الاصرار على ان تعود البورقيبية كصنم، كشخصنة، كبحث عن زعيم منقذ، في حين ان لا طبيعة الثورة تقبل ذلك و لا ديمغرافيا الشباب مستعد الى ذلك و لا الطبيعة الزمنية التي يعش فيها العالم اصبحت تتلاءم مع هذا، لذلك اعتبر ان استعادة بورقبية الصنم او القائد الملهم او القائد الاوحد او استعادة صورة الزعيم الاوحد الذي لا يخطأ غير مفيدة و غير ناجعة للثورة. بورقيبة ارتكب أخطاء عديدة في حقّ المجتمع و في حقّ الحرية و الديمقراطية و في وقت من الأوقات كان حاكما متسلّطا و تبقى تجربته قابلة للتقييم، فيها مناطق مضيئة جدا لا مجال لإنكارها و فيها مناطق لا بدّ من تجاوزها، لذلك نحن في حاجة الى ما بعد بورقيبية يعني في حاجة الى استلهام هذا الدرس البورقيبي المسكون بالدولة و الديمقراطية و الحداثة و تحرير المجتمع من كل اشكال التسلط التقليدية و القديمة، و لكن نحن في حاجة ايضا الى مجتمع تعدّدي، مجتمع مؤسسات و حر و يقبل الاختلاف، لا يحي فقط انطلاقا من مرجعية اب واحد.
من منظورك تمرّ الهياكل التنظيمية التقليدية لليسار بأزمة عميقة. ما هي أسباب هذه الأزمة و ما هو الحل للأطراف المعنية لتجديد نفسها؟ و هل يمثّل تجاوز باراديغمات الماركسيّة الكلاسيكية جزء من الحل؟
الأكيد ازمة اليسار التقليدي لم تعد في حاجة الى التأكيد، تنظيميا ازمة اليسار اصبحت منشورة في الساحة العامة، اليسار لم يتمكن من بناء كيان مشترك او موحّد، لم يتمكن من نسج تحالفات مستقرة مع باقي مكونات الحياة السياسية، لم يتمكن ان يكون له وزن مؤثر من خلال صندوق الاقتراع، لم يتمكن ان تكون له كتلة برلمانية وازنة و مؤثرة عددا و قوة حتى داخل مجلس النواب، خسر العديد من الشباب الذين تفاعلوا معه، لم ينجح كذلك في بناء علاقات تفاهم او مشتركة مع الحركات الاجتماعية الجديدة، أطره التقليدية غير قادرة على استيعاب هذا النمط من الاحتجاج او هذا النمط من التفكير و عزاءنا الوحيد ان هذه الازمة لا تهم فقط اليسار التونسي، هي تقريبا تكاد تكون ازمة عالمية، المشكل لمختلف اشكال التنظيمية التقليدية اليسارية. الملاحظ او الممكن التفكير فيه مستقبلا هو ان هناك مشكل مرجعيات نظرية، يعني انا اعتبر ان الماركسية ليست ماركسية واحدة هي ماركسيات متعددة، مثل ما يقول آندري توزل (andré tosel)هناك ألف ماركسية، ليس هناك فقط ماركسية لينينية وحيدة و ليس هناك ماركسية مؤسّساتية، هناك ماركسيات عديدة مفتوحة، هناك محاور عديدة جديدة مطروحة على الحركات الاحتجاجية لم تكن مطروحة في القرن التاسع عشر، هناك نهاية العمل او تراجع قيمة العمل المادي و الصناعي، هناك نهاية النقابات العمالية الكبرى، هناك اعادة تقسيم و توزيع العمل في العالم و تحويل عديد من الصناعات من الشمال الى الجنوب، هناك زحف كبير للقطاع الثالث، هناك جيوش من المعطلين عن العمل، هناك مشاكل البيئة، الاقليات الصاعدة في كل مجتمعات العالم، اذن هذه المجموعاتaliéné المغتربة او المتسلط عليها او المهمشة ليست هي البروليتاريا بالمعنى التقليدي التي تحدثت عنها الماركسية الكلاسيكية. كان هناك وعي في العالم منذ 68 بهذا التحول، بهذه النقلة، لا اعتقد ان اليسار التونسي واكب بنسق كافي هذه التحولات الفكرية و النظرية و هو في حاجة الى الانكباب على هذه التحولات النظرية في اسرع وقت وهو كذلك في حاجة الى ايجاد حلول براغماتية و عملية لأزمة تمثيله الانتخابي و السياسي في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد.
تبتدع مفهوم الثورة المتداخلة الذي يذكّرني بمفهوم السياسة الواقعية الثوريّة(revolutionary realpolitik) لروزا لوكسمبورغ، و الثورة المتداخلة هي بمعنى تداخل المهام الإصلاحيّة مع المهام الراديكاليّة. ما هي هذه المهام اليوم؟
بالفعل انا اعتبر ان الثورة هي حالة من التقدم و من التراجع و من الانكسار و من الانتصار، ليست خط نهائي، ليست قطار يخرج من محطة و يصل. يمرّ بتعرجات، بصعوبات، صعوبات السياق الموضوعي، التاريخي، الأنثروبولوجي و حتى الجيوستراتيجي و الجيوسياسي التي تمر به المنطقة. لذلك اعتبر ان تحويل الثورة الى مجرد مسار انتقالي اجرائي قتل لها، يخنق الثورة، لان روح الثورة لابدّ ان تتواصل في المجتمع و في المؤسسات و في الفكر و في كل شرايين الحياة العامة. في المقابل كيف كيف ثورة لا تتقدم و لا تقطع خطوات حقيقية من اجل الاصلاح الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الثقافي فقد تتحول الى ثورة محبطة و الى ثورة لا ترسم افق التقدم. لذلك اعتبر ان التداخل بينles deux esprits الروحيتين ضروري حتى تتقدم الثورة التونسية و حتى كيف كيف لا تتمكن الثورة المضادة من ان تنتصر و تستقر في الذهنيات، لان الثورة المضادة تنتعش خاصة عندما يمر المجتمع بفترة من الاحباط و يشعر بأن الثورة سراب و كانت خطأ تاريخي كبير و الثوار يخطؤون عندما لا يرسموا للثورة مسارات ممكنة و هذا يجعلنا نتحرك بين مرجعية روزا لوكسمبورغ و كذلك حتى مرجعية غرامشية بما يسميه غرامشي حرب الحركة و حرب المواقع، لا نخوض فقط حرب حركة و إنّما نخوض كذلك حرب مواقع، كل مربع يمكن تحريره و اكتسابه و البناء عليه داخل مؤسسات الدولة و داخل مؤسسات المجتمع هو مكسب و كل مربع و كل بِنية نأخذها لا يجب ان تتحول الى بِنية تقتل الحركة، يجب على ديناميكية الحركة ان تتواصل و هناك مكاسب من المؤسسات لابدّ انها تتواصل، هذا في تقديري نقيصة اساسية في المسار الثوري التونسي، هناك سوء تفاهم بين نفس الثورة، روح الثورة و من يدعو الى التدرّج في بناء المؤسسات و الخطوات الاصلاحية داخل الثورة، هو نقاش كبير داخل الحركة اليسارية: هل ان الثورة معنية بتفكيك الدولة و انهاءها و اسقاطها ام الثورة معنية ان تتواصل حتى داخل الدولة.
أحد أغراض كتابك كان فتح النقاش و الحثّ على مناقشة أطروحاتك. بعد بضعة أشهر من نشره، هل تعتقد أن الكتاب حقّق هذا الهدف؟
صدور الكتاب تزامن بالأساس مع معرض الكتاب. في فترة اولى اثار الكتاب بعض الاهتمام الاعلامي و من خلال بعض اللقاءات التي وقع تنظيمها لمناقشته، كان هناك ايضا تفاعل لبعض الاصدقاء يكتبون في هذا الاتّجاه، لكن اعتقد ان فعل الكتابة مازال ضروري و ربما هذا الكتاب او افكار هذا الكتاب اصبحت تحتاج اكثر الى الدفع الى النقاش لأنّ الاحداث تتسارع، عندما كتب الكتاب و نشر في ماي، نحن بعد خمسة اشهر في سياق سياسي مختلف تماما، الكتاب نفسه لم يعد يجيب بصفة دقيقة على مهام المرحلة و في مستوى ثاني كيف كيف التحولات التي يشهدها المجتمع و الطبقة السياسية تجعل النقاش مستمر لأنّ الأفكار المطروحة هي افكار قابلة للنقاش و لأنّ الواقع نفسه متحرك، ليس واقعا ثابت.
ينقص في كتابك دور القوى الإقليميّة والدّوليّة في تونس. ما هو مدى تأثير هذه القوى على التحوّلات السياسيّة في تونس و هل على القوى المناضلة من أجل واقع افضل أن تأخذ بعين الاعتبار تدخل بعض الدول في الشأن الداخلي للبلاد؟
نعم نقيصة، هو خيار في الحقيقة، كنت اعتبر ان ادخال هذا العنصر في التحليل اولا يتطلب وقتا أكثر و انكباب على مرجعيات اكثر، كان بإمكانه ان يعقّد الفهم و ربما يفتح على احتمالات اصعب للتعامل معها، فخيّرت عدم تناول الجانب هذا و اقول هذا في المقدمة، اني اخترت ان لا اخوض في هذا الجانب لأنّه متغير، يعقّد اطروحة الكتاب اكثر.
في ضوء اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية يبدو اليسار أكثر انقساما من أي وقت مضى، في حين ان المراحل الانتخابية الفارطة برهنت ضرورة توحيد القوى التقدميّة واليساريّة لمواجهة الرجعية. ماهي اسباب هذا الانقسام؟
موعد الانتخابات الرئاسية يقترب، يبدو ان موعد الانتخابات الرئيسية سيكون في 15 سبتمبر قبل الانتخابات التشريعية، لا أرى في عائلة اليسار الواسعة لا شخصية مستقلة و لا شخصية حزبية قادرة ان توحد اليسار في الانتخابات الرئاسية و لا أرى كيف كيف ديناميكية حزبية و الاّ مواطنية قوية ذات حظوظ كبرى. بواقعية نقبل هذا الواقع الصعب و لكن ربما تجئنا مفاجأة.