“الدبلوماسيّة الهادئة” في مصر والفشل الذّريع
تدعو منظمة الأمم المتحدة إلى زيادة الضغط على مصر بسبب جرائمها المتعلقة بحقوق الإنسان بينما تواصل أوروبا مساندة نظام السيسي مهما كان الثمن.
في رسالة مفتوحة، دعا 175 برلمانياً أوروبياً مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إلى زيادة الضغط على النظام العسكري المصري بسبب جرائمه الممنهجة في مجال حقوق الإنسان، وذلك من خلال اتخاذ تدابير ملموسة وإنشاء آلية للرصد والإبلاغ في مصر على مستوى الأمم المتحدة. ما إذا كانت هذه الآلية قادرة على إقناع النظام المصري بتغيير مساره هو أمر محفوف بالشكوك. ورغم ذلك، فمن الضروري أن يكون هذا الضغط متعدّدَ الأطرافِ حتى يمنع التدمير الوشيك لآخر بقايا المجتمع المدني الذي كان، إلى أجل قريب، نابضا بالحياة في البلد. وتشكل المبادرة التي أطلقتها برلمانات أوروبا إشارة مشتركة بين الأحزاب، لا تخلو من تردّد، ولا تعدو إلى حد الآن أن تكون وعودا جوفاء.
يواصل النظام الاستبدادي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دون رحمة قمع أي شكل من أشكال حرية التعبير وانتقاد الحكومة، أَكان ذلك عبر التعذيب الممنهج أثناء الاحتجاز لدى الشرطة، أو عبر توظيف المحاكم العسكرية ومحاكم الطوارئ، فضلا عن إقرار أحكام قاسية بالسجن وما إلى ذلك من الأعمال الانتقامية ضد الصحفيين والشخصيات المعارضة وأسرهم. وفي الوقت الذي تتعرض فيه وسائل الإعلام المصرية المستقلة والمجتمع المدني إلى تهديد وجوديّ مستمر، تتلكأ برلين أو باريس أو واشنطن عن توجيه أية شكاوى جدية. فمنذ أن نجح السيسي في ترميم صورة نظامه على المسرح الدولي، باتت حكومات أوروبا وأميركا الشمالية تعتبر مصر مرة أخرى شريكاً رئيسياً، بالضبط كما فعلت في الماضي أثناء الحكم طويل الأمد لحسني مبارك. وحتى إن انتقدت هذه الحكومات انتهاكات السلطات المصرية التي لا تحصى ولا تعد لحقوق الإنسان، فلا يتم ذلك إلا خلف الأبواب الموصدة، أو بحذر شديد، خشية كي لا ينفر من تعتبره الضامن للاستقرار في المنطقة.
أما في برلمانات أوروبا، فقد بدأت تتأجج بوادر مقاومة مترددة إزاء صمت المسؤولين ودعمهم اللا مشروط لنظام القاهرة. حيث وقع 175 عضوا من البرلمان الأوروبي ومن عدة برلمانات دول أوروبية على رسالة مفتوحة إلى مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان UNHCR نُشرت في أوائل فيفري، دعوا فيها هيئة الأمم المتحدة ووزراء خارجية الدول الأعضاء فيها إلى إنشاء آلية للرصد والإبلاغ تُعنى بمصر في الدورة المقبلة للمجلس المزمع عقدها في مارس، كخطوة لفرض ضغط ملموس على القاهرة. وتنص الرسالة على أن هذا الإجراء قد “طال انتظاره”.
ومع ذلك، فإن هذه المبادرة ليست المحاولة الأولى للبرلمانات الأوروبية لخلق وعي بسجل مصر الكارثي في مجال حقوق الإنسان، وحث الدول الأوروبية على الكف عن الإذعان لسياسات السيسي الاستبدادية. فبعد أن أصدر البرلمان الأوروبي بالفعل قرارا بشأن أزمة حقوق الإنسان في مصر في عام 2020، أطلق ثمانية أعضاء من حزب اليسار الألماني دي لينك في البوندستاغ الألماني وبرلمان الاتحاد الأوروبي حملة تضامن مع النشطاء المحتجزين في مصر في جانفي 2021. غير أن هذه المبادرات فشلت جميعها -كما سابقاتها- في إحداث تغيير يُذكر في التعامل مع مصر. فجاءت الرسالة التي نُشرت مؤخرا بصياغة أكثر حدة، داعيةً هذه المرة إلى اتخاذ إجراءات متعددة الأطراف نظرا لكون التحركات الثنائية ظلت حتى الآن دون نتائج تقريبا، واضعة بذلك رهاناتها على مبادرة متعددة الأطراف في إطار الأمم المتحدة.
رسالة مفتوحة لا تلطّف الكلمات
تقول الرسالة أنه “منذ الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في عام 2013، ما انفكت السلطات المصرية تحكم البلاد بقبضة من حديد، وتقمع بوحشية ممنهجة جميع أشكال المعارضة وتبتر الحيز المتاح للمجتمع المدني”. ويضيف النص أن توظيف أجهزة الشرطة والاستخبارات المصرية للتعذيب أمر متفشٍّ وممارسة منهجية في وقت أصبحت فيه البلاد “ثالث أكبر منفذي الإعدام عالميا بـ 107 عملية إعدام” في عام 2020 وحده.
“في خضم القيود والترهيب، تواصل المنظمات المحلية والدولية توثيق مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات المصرية، بما في ذلك حالات الاختفاء القسري وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، واحتجاز النساء تعسفيا لأسباب “أخلاقية”، ومحاكمة الأطفال في ظروف مماثلة لظروف محاكمة البالغين، واستمرار قمع أفراد مجتمع الميم، واعتقال أفراد الأقليات الدينية ومحاكمتهم بتهم التجديف”. وتضيف الرسالة أن المجتمع الدولي قد فشل باستمرار في اتخاذ أي إجراء فعّال لمعالجة أزمة حقوق الإنسان في مصر. “هذا الفشل، علاوة على مواصلة دعم الحكومة المصرية والتردد حتى في الحديث عن الانتهاكات المتفشية، كل ذلك أدى إلى تأصيل شعور السلطات المصرية بإمكانية إفلاتها من العقاب”.
مناشدة للأحزاب الحاكمة
يمكن فهم توقيع هذه الرسالة من طرف البرلمانيين الخضر والديمقراطيين الاجتماعيين واليساريين والليبراليين على أنها مناشدة صريحة وغير اعتيادية موجهة إلى الأحزاب التي دعمت السيسي سياسياً ووافقت في السنوات الأخيرة على تصدير الأسلحة إلى مصر. حيث يأمل عضو البرلمان الأوروبي عن الحزب الألماني دي لينك، أوزليم ديميريل، أن تصير ممارسة الضغط على الحكومات أقوى من داخل الأحزاب نفسها، ويقول: “يسرني إمضاء العديد من زملائي الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر على هذه الرسالة، ولكن لا ننسى أنهم التزموا الصمت مرارا وتكرارا في السنوات الأخيرة عندما تعاون وزراء الخارجية ووزراء الشؤون الاقتصادية المحسوبين عليهم مع النظام المصري أو وافقوا على تصدير الأسلحة إليه”.
وبصفتهم جزءا من الحكومة الفيدرالية على مدى الأعوام الثمانية الماضية، لطالما أيد الديمقراطيون الاجتماعيون الألمان جميع اتفاقيات تصدير الأسلحة إلى مصر، وتجاهلوا إلى حد كبير انتقاد الرأي العام الشرس تجاه مثل هذه الصادرات. ومباشرة قُبيْل التغيير الأخير الذي شهدته حكومة برلين، منح مجلس الأمن الاتحادي، المسؤول عن الموافقة على تصدير الأسلحة، الضوء الأخضر لتصدير ثلاث فرقاطات MEKO A-200 من إنتاج مصنّع الأسلحة الألماني ThyssenKrupp Marine Systems – TKMS، و16 منظومة دفاع جوي من شركة Diehl الجنوب ألمانية، بإجمالي قيمة تتعدى 4 مليارات يورو. ولم تكن صادرات الأسلحة إلى مصر تبلغ، بحلول 29 نوفمبر 2021، سوى ما قيمته 0.18 مليار يورو فحسب، إلا أن مناورة الدقيقة التسعين التي قامت بها حكومة أنجيلا ميركل المنتهية ولايتها دفعت بهذا الرقم إلى 4.34 مليار يورو بين عشية وضحاها تقريبا، مسجّلة بذلك رقما قياسيا جديدا.
لابد أن ينتهي زمن “الدبلوماسية الهادئة”
انتهز البرلمانيون الفرنسيون والايطاليون والإسبان فرصة الرسالة المفتوحة لصفع سياسات حكوماتهم المتعلقة بمصر. فلا تعدو حكومة أسبانيا التي يقودها الديمقراطيون الاجتماعيون أن تكون “شريكا آخر للنظام المصري” على غرار الاتحاد الأوروبي، وفق أقوال السياسي اليساري الإسباني والنائب في البرلمان الأوروبي، ميغيل أوربان كريسبو، في تصريح لمنظمة روزا لوكسمبورغ. “أضحى بيدرو سانشيز في ديسمبر 2021، أول رئيس وزراء إسباني يزور مصر منذ عام 2009. كما لم يشر سانشيز في حضوره مع السيسي إلى حقوق الإنسان، بل وأكد أن البلدين سيعززان علاقاتهما التجارية بعد زيارته”، يضيف النائب أوربان كريسبو.
ويفسر الأخير أن مصر تحوّلت منذ وصول السيسي إلى السلطة في عام 2013 إلى ” ثقب أسود لحقوق الإنسان”، داعيا إلى التخلي نهائيا عن سياسة “الدبلوماسية الهادئة” المتبعة منذ سنوات. وقد سبق للمنظمات المصرية والدولية لحقوق الإنسان أن طالبت بذلك في الماضي، ولكن دون جدوى. مطالبٌ تقابلها الحكومات – التي تدعم السيسي بقوة – في إسبانيا وألمانيا، وكذلك في فرنسا والولايات المتحدة، بالصمت المدقع.
من ناحيتها، ما فتئت باريس تعقد صفقات أسلحة بمليارات اليوروهات منذ سنوات مع القاهرة، ولم يعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتظاهر حتى بالاهتمام بجرائم حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات المصرية. وعلى نحو مماثل، لم تحرم حكومة الولايات المتحدة النظام العسكري المصري من فسحة واسعة من الحرية، فرغم أن واشنطن علّقت مساعدات عسكرية لمصر بقيمة 130 مليون دولار أمريكي في سبتمبر 2021 وربطتها بشروط متعلقة بحقوق الإنسان، إلا أنها سارعت بعد بضعة أشهر فقط بإبرام صفقة أسلحة مع النظام المصري بقيمة 2.5 مليار دولار أمريكي تشمل طائرات مقاتلة وأنظمة رادار. وحتى لو كان حجب الولايات المتحدة لجزء ضئيل من مساعداتها العسكرية لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان لا يبدو أمرا ذي أهمية، فإن النظام العسكري المصري يرى في مثل هذه الإجراءات رسائل سياسية، خصوصا على صعيد متعدد الأطراف.
العمل متعدد الأطراف كملاذ أخير
من هذا المنطلق، استجابت القاهرة بحساسية بالغة لتبني المفوضية الأممية لحقوق الإنسان إعلاناً في دورتها الأخيرة عام 2021، أدانت فيه عشرات الدول مصر على جرائمها في مجال حقوق الإنسان. بل قدم النظام المصري في هذا الصدد تدابير تجميلية منها “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” التي أطلقها الرئيس السيسي في ذات السنة، وهي أداة تفتقر للفعالية ولا تعدو أن تكون حملة علاقات عامة، ولكنها تبين إلى حد ما أن مصر تأخذ هيئة الأمم المتحدة على محمل الجد. حيث إن إعلان مفوضية حقوق الإنسان في عام 2021 كان سابقة مهمة، وفق تأكيد مدير مكتب معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في جنيف CIHRS، جيريمي سميث: “كانت هذه هي المرة الأولى منذ سبع سنوات التي تناولت فيها الدول بشكل مشترك أزمة حقوق الإنسان في مصر في إطار الأمم المتحدة، وساعد ذلك على ضمان الإفراج عن عدة سجناء سياسيين”. ويقول سميث أن الأمر يتطلب متابعة لحماية آلاف آخرين يواصلون النضال من أجل تحصيل الحقوق الأساسية.
في الوقت نفسه، لا يزال الجدل قائما حول مدى فعالية أداة الرصد التابعة للأمم المتحدة هذه، التي دعا إليها عدد لا حصر له من جماعات حقوق الإنسان وانضم إليهم مؤخرا عدد من البرلمانيين الأوروبيين. فكما يوضح سميث، يشير هذا المصطلح إلى “تعبير فضفاض يستخدم لطائفة واسعة من أدوات الرقابة والمساءلة التي يمكن أن تضعها لجنة حقوق الإنسان”. ويمكن إنشاء هذا النوع من الآليات، الذي يوضع عادة لمدة سنة واحدة، بقرار يعرض على لجنة حقوق الإنسان بعد الموافقة عليه بأغلبية الأصوات، وفق أقوال سميث.
لا توجد حالياً أداة من هذا القبيل تسمح للأمم المتحدة بمواجهة حكومة القاهرة على نحو أكثر فعالية بشأن انتهاكاتها الممنهجة لاتفاقيات حقوق الإنسان الدولية. وقد تكون دورة مفوضية حقوق الأنسان الأممية في مارس المقبل الأمل الأخير لوقف التدمير الذي يترصّد بما بقي من آثار المجتمع المدني المصري بعد أن كان نابضا بالحياة ومتنوعا في ما مضى. فبينما أغلقت منظمات مدنية مصرية من الوزن الثقيل أبوابها، على غرار الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان (ANHRI) في شهر جانفي المنقضي، بسبب أعمال الانتقام والترهيب المستمرة من قبل أجهزة الشرطة والاستخبارات المصرية، يواجه عدد لا يحصى من جماعات حقوق الإنسان الأخرى تهديدات القانون التقييدي الجديد المتعلق بالمنظمات غير الحكومية في مصر، في حين لا يغير قرار تمديد الموعد النهائي للتسجيل لمدة سنة بموجب هذا القانون شيئا يُذكر. المخاطر إذن عالية يقول جيريمي سميث: “إذا فشلت الدول في التحرّك معا، سيقع اجتثاث المجتمع المدني المستقل في مصر عن بكرة أبيه”.
محتوى هذه النص لا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ