ڤـمـرة سـيـدي مـحـروس ُبقعة الضوء العالية في سماءِ الدراما التّونسية
“ڤمرة سيدي محروس”:
بُقعة الضّوء العالية في سَماءِ الدراما التّونسيّة
في أطروحته للدّكتوراه التي أنجزها في جامعة السُّوربُون، ثُمَّ نَشَرها لاحقًا في كتابٍ ضخم (1)، يُفردُ أستاذ التاريخ المُعاصر فيصل الشريف صفحاتٍ كثيرةً للحديثِ عن معارك الدّعاية الإعلاميّة في تونس زمن الحرب العالميّة الثانية. والكتاب -في المُجملِ- هُو أحد أهم (وأمتعِ) المراجع العلميّة حول تلك الفترة المهمّة من تاريخ تونس. وهي الفترة نفسها التي تدور فيها أحداثُ مُسلسل “ڤمرة سيدي محروس” الذي كتبهُ علي اللواتي وأخرجه صلاح الدّين الصّيد سنة 2002، في خمسَ عشْرةَ حلقةً.
منذ الحلقة الأولى من المسلسل، يجدُ المُشاهد نفسهُ داخل أجواء الحرب مباشرة، وفي أجواء معركة الدّعاية الإعلاميّة تِلك. تحديدًا حين يطلبُ روّاد مقهى بن عيسى من النّادل مقداد أن يفتحَ المذياع على “إذاعة لُندرة” (إذاعة BBC العربية) لسماعِ الأخبار، لكنّه يرفُضُ بسبب تنبيهاتِ الإقامة العامة الفرنسيّة الموالية للألمان بعدم الاستماع للمحطّة (والتي كانت -فعليًّا- بوقًا لدعاية الجنرال ديغول وخطاباته). وكذلك حين يدخلُ الدّكتور محمود صابر حاملاً صحيفة Tunis Journal التي تمثّل صوت أنصار الجنرال بيتان وحكومة فيشي في تونس. وهي الصحيفة التي يُشرفُ عليها Georges Guilbaud كما تذكرُ المصادر التاريخيّة، وكما يذكرُ أيضًا كاتب السيناريو علي اللواتي، على لسان صالح النّوّالي تاجرُ الحرب المُثقّف وأحد أهم شخصيات المُسلسل في حلقاته الأولى.
سينتهي النوّالي مقتولاً مع نهاية تلك الحرب التي استفاد منها كثيرًا في مُراكمة ثَروته. حيثُ كان أحد أهم تجّار السّوق السّوداء التي خلقتها الأزمة الاقتصادية التي رافقت الحرب العالميّة الثانية، وهي الأزمة التي سنرى معالمها -بإتقان درامي- في مُعظم تفاصيل أحداث المُسلسل ومشاهده. كان النوّالي على علاقة بمختلف الأطراف المتحاربة ولعبَ على تناقضات المشهد السياسي والعسكري، مستفيدًا من ثقافته الكبيرة وعلاقاته الاجتماعيّة والأمنيّة الواسعة خاصة مع قُوّات المحور. يُعبّر النوّالي -فعليًّا- عن شريحةٍ اجتماعيّة ظهرت في تلك الفترة وصنعت ثروات طائلة، حيثُ يُشير المؤرّخ الهادي جلاّب -في هذا السياق- إلى أنّ “قرابة العشرة من التجّار التونسيين تمكّنوا أثناء ظرفيّة الحرب العالميّة الثانية من جمع ثروات مهمّة بفضل المتاجرة في السّوق السّوداء” (2). غير أنّ صالح النوّالي سيُقتل، نهايةً على يد عساكر إيطاليين، قبل أن تُقرّر “السّلطات الفرنسيّة القيام بتحقيقٍ لتحديد المرابيح غير العادية و’اللامشروعة’ التي حقّقها بعض التّونسيين وبعض المُقيمين في تونس بفضل تعاملهم مع قوّات المحور” (3). لتؤول ثروته كُلّها بعد ذلك إلى أرملته فضيلة.
يشدّك المُسلسلُ منذ بداياتهِ الأولى، إلى “جديّةٍ تاريخيّة” كامنة في كتابته الدراميّة. ثمّة تناسقُ بين الشّخصيات والأحداث مع سياقها التاريخي بإتقانٍ واضحٍ. تدورُ أحداث المسلسل -إجمالاً- في مدينة تونس العتيقة، من فترة الحرب العالميّة الثانية (1939-1945) حتى الاستقلال (1956). وهي فترةٌ شديدة الثّراء على كلّ المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة وحتّى الفكريّة. وطيلة أحداث المُسلسل، يُمكن للمُشاهد أن يُلاحظَ جهد البحث التاريخي والسوسيولوجي الذي بذلهُ علي اللواتي في كتابة ذلك العمل. والذي هو -دون شكٍّ- أحد أهم الأعمال الدراميّة في تاريخ التلفزة التّونسيّة.
في مقهى بن عيسى التي تدور فيها أحداثٌ مهمّة من المسلسل، والتي ستكونُ مقرًّا لاجتماعات أعضاء الحركة الوطنيّة في حومة سيدي المحروس، ترى صورةً مُلصقةً على الجدار للزّعيم القومي المصري الكبير سعد زغلول قائد ثورة 1919 ضدّ الاستعمار الانجليزي. وسيبدو “بُلبل” وهو يُدخّنُ التّكروري في طاولة بعيدة ومنزوية كأنّه جزء من ديكور المقهى. غير أنّ بُلبُل الذي سيبدو كشخصيّةٍ ثانويّةٍ من بين شخصيات القصّة/الأحداث، يحمل -في الحقيقة- في تحوّلاتِ شخصيّته وتطوّرِها، صورةً رمزيّة عاكسة لتطوّر مسار الحركة الوطنيّة نفسها وتحوّلاتِ البلاد بأكملها.
طيلة حلقاتِ المُسلسل، تَطوّرَ بُلبلُ من مدمنٍ على مخدّر التّكروري (القنّب الهندي) حَدَّ الغيبوبة في الحلقات الأولى، حين لا تزال الحركة الوطنيّة متعثّرة وضعيفة وحال البلاد أيضًا منهارًا بفعل الحرب وضعف الوعي الشّعبي، إلى شخصٍ سَويٍّ ومُعافى يبيع المشموم ويحضر المناسبات الاجتماعيّة وحتى النّضاليّة، وذلك مع بداية الاقتراب من الاستقلال وتجذّر الوعي الوطني والشّعبي وتصلّب الحركة الوطنيّة.
لذلك يبدو بلبُل صورةً رمزيّة عن حال البلاد والشّعب في مسار تطوّرهما من التّخدير الاستعماري إلى الوعي الوطني التّحرّري. وفي النهاية كان تحرّر بُلبل من التّكروري كِنايةً رمزيّة، شديدة الإتقان الدرامي، عن تحرّر تونس من الاستعمار.