المنشورات

مواجهة الأم الأخيرة: إضراب ليلى سويف عن الطعام في سبيل الحرية

مقال من قبل حسام الحملاوي

ترقد الدكتورة ليلى سويف في يومها الـ 248 دون طعام في سرير أحد مستشفيات لندن وملؤها عزم لا يفلّ رغم الهزال الذي يعتريها؛ حيث فقدت أستاذة الرياضيات البالغة من العمر 69 عامًا ووالدة الناشط المصري البريطاني المسجون علاء عبد الفتاح 42% من وزنها، لتواجه بذلك خطر الموت المفاجئ. ومع ذلك يظل صوتها متماسكاً سمته إيمان وإصرار راسخان. وقالت لي إذ جلست بجانبها على السرير رقم E29 بجناح القبول في مستشفى سانت توماس في وسط لندن في 4 جوان/يونيو 2025: ”لن أستسلم“. وتقول بأن حفيدها خالد ”يحتاج إلى والده. يجب أن يسمحوا لعلاء برؤية ابنه.“

وقفت على مقربة منها شقيقتها أهداف سويف الروائية ذات الصيت العالمي، بينما جلس في الاستقبال مجموعة من الأصدقاء من بينهم منفيون وناشطون مصريون لطالما كانوا رفاقاً لعلاء. ويظل ذهن ليلى متقداً رغم الوهن الواضح، إذ سألت بصوت واهٍ عن صحتي وعملي وعن الفترة التي قضيتها في ألمانيا بينما جاهدت لأن تمسك بيدي. سألت ليلى قائلا: ”هل تعلمين متى رأيتك أنت وعلاء لأول مرّة؟ لقد كان ذلك يوم الأربعاء الأسود 25 ماي 2005. كان بلطجية الحزب الوطني الديمقراطي يضربونك أنت وعلاء وبقيّتنا أمام نقابة الصحفيين“. ضحكت ليلى واستذكرت قائلة: ”بلى، كان ذلك اليوم الذي قرّر فيه علاء أن يصير ناشطًا“.

ولئن انتمى علاء إلى عائلة من الناشطين السياسيين المخضرمين، إلا أنّ اهتمامه طالما انصبّ بالأساس على التكنولوجيا حتى ذلك اليوم حين اعتدى بلطجية الحزب الحاكم في عهد مبارك عليه وعلى والدته خلال تجمع مؤيد للديمقراطية. وحضّ علاء إثر ذلك زملاءه المدونين على التنظّم وساعد في تحفيز الحراك السياسي على شبكة الإنترنت وخارجها، كما تبنّى قضايا متعدّدة من بينها مناهضة وحشية الشرطة والتضامن مع العمال المضربين عن العمل وصولا إلى إسقاط نظام مبارك المتهالك في العام 2011.

تضحية عائلة وأسير ثورة

احتجاج ليلى المستميت ليس وليد اللحظة، فهو يتوج عمرًا من النضال ضد الاستبداد؛ إذ تنحدر من عائلة مصرية عريقة من العلماء والناشطين، وقد اشتهرت هي نفسها بمواجهتها للشرطة في المظاهرات وغالبًا ما كانت آخر من يغادر الشوارع. وكان زوجها الراحل أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح محاميًا يساريًا عانى ويلات التعذيب والسجن في ظل الأنظمة السابقة. وقاما معًا بتربية أبنائهما في بيئة مفعمة بالوعي السياسي والشجاعة. وُلِدَ ابنهما الأكبر علاء في العام 1981، ليجسّد أمل مصر في التغيير الديمقراطي. وبرز علاء كصوت ريادي في انتفاضة العام 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك. فهو مدوّن شغوف بالتكنولوجيا ومطور برمجيات ينافح عن حرية التعبير وحقوق الإنسان، وهو موقف كلّفه في النهاية حرّيته.

أمضى علاء الجزء الأعظم من الإثني عشر سنة الماضية خلف القضبان في ظل الحكومات المتعاقبة. وبدأت دوامة السجن في عهد مبارك باعتقاله لفترة وجيزة خلال العام 2006، لتتواصل هذه الدوّامة لاحقًا في ظل المجلس العسكري. كما اعتُقل علاء في أواخر العام 2011 أثناء الاضطرابات التي أعقبت الثورة بسبب تنظيمه للاحتجاجات، وقد نظمت والدته ليلى إضرابًا عن الطعام في ذلك الوقت للمطالبة بالإفراج عنه. وعلى الرغم من إطلاق سراحه بعد شهرين، إلا أن استراحة علاء لم تدم طويلًا؛ فقد كان انقلاب جويلية 2013 الذي جاء بالجنرال عبد الفتاح السيسي إلى السلطة بمثابة بداية حملة قمع شرسة. واِعْتُقِلَ علاء في نوفمبر 2013 بتهمة انتهاك قانون التظاهر القمعي الجديد. وحُكم عليه في عام 2015 بالسجن خمس سنوات بتهمة ”جريمة“ المشاركة في مظاهرة سلمية. كما سُجنت شقيقته سناء البالغة من العمر 20 عامًا آنذاك في العام 2014 بسبب التظاهر. وقد خاضت ليلى وابنتها منى إضرابًا عن الطعام لمدة 76 يومًا احتجاجًا على سجن الشقيقين. وتضاعفت المأساة عندما توفي زوج ليلى أحمد في أوت من العام 2014 بينما قبع اثنان من أبنائه بالسّجون.

وأُعِيدَ اعتقال علاء في سبتمبر 2019 بعد إطلاق سراحه لفترة وجيزة خلال العام نفسه في إطار موجة جديدة من القمع. ثم صدر بحقه في ديسمبر من العام 2021 حُكم آخر بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة ”نشر أخبار كاذبة والإضرار بالمصلحة الوطنية المصرية“. كانت التهمة عبثية، حيث شارك منشورًا على فيسبوك عن التعذيب في السجون. وخلصت لجنة تابعة للأمم المتحدة في وقت لاحق إلى أن مصر تحتجزه بشكل غير قانوني. وحصل علاء على الجنسية البريطانية من خلال والدته المولودة في لندن، مما أحيا آمال أسرته في أن تتمكن المملكة المتحدة من تأمين حريته. بيد أنّ عزيمة علاء قد أفضت إلى خوض إضراب عن الطعام كسلاح أخير في ظلّ تواصل فترة عقوبته.

دخل علاء في أفريل 2022 في إضراب مطول عن الطعام، فلم يستهلك سوى الحد الأدنى من السعرات الحرارية (كوب من الشاي وملعقة من العسل) لأكثر من 200 يوم احتجاجًا على سوء معاملته ومطالبًا بالإفراج عن السجناء السياسيين في مصر. ولفت علاء أنظار العالم بينما كانت مصر تستعد لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP27 في نوفمبر 2022؛ إذ صعّد في اليوم الافتتاحي للقمة إضرابه ليقتصر على شرب الماء فقط، معلنًا أنه يفضل الموت على أن يُنسى بينما تتسلّط الأضواء الدولية على مصر. وكتب في رسالة وجّهها إلى والدته في اليوم الـ213 من إضرابه: ”اليوم هو آخر يوم سأتناول فيه مشروبًا ساخنًا… وغدًا سأشرب آخر كوب شاي في السجن“. وامتنع علاء حتى عن شرب الماء لبضعة أيام مروعة خلال فترة انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP27. وتصاعدت الضغوط العالمية على النظام المصري خشية أن يكون علاء مشارفًا على الموت. وتدخلت السلطات المصرية أخيرًا، لا بمنحه حريّته، بل بالعلاج الطبي القسري. ونجى بذلك علاء من الموت إذ أنهى إضرابه عن الطعام إثر القمة في نوفمبر 2022، بيد أنّه ظلّ حبيس القضبان. ولئن توقعت أسرته بحلول سبتمبر من العام 2024 أن يتم الإفراج عنه إذا ما تم احتساب المدة التي قضاها في الحبس الاحتياطي، إلّا أنّ حكومة السيسي قد أعادت تحديد موعد الإفراج عنه إلى عام 2027 على الأقل، مما أبقاه مسجونًا إلى أجل غير مسمى بتهم لا أساس لها من الصحة. دفعت هذه اللامبالاة القاسية ليلى وهي في أواخر الستينيات من عمرها إلى خوض غمار الاحتجاج بنفسها، واضعةً حياتها على المحك في سبيل حريّة ابنها.

دخل علاء في إضراب جديد عن الطعام من زنزانته في السجن في مارس 2025 بعد علمه بدخول والدته إلى المستشفى. وكان قد فقد ما يقرب من ثلث وزنه وقت كتابة هذه الأسطر.

عزم الأم في مواجهة الموت

 

يمثل هذا الإضراب عن الطعام بالنسبة لليلى منتهى الإخلاص والاحتجاج الأمومي، وهو نضال شخصي مقترن بمصير ابنها وضمير الأمة.

لقد استهلت رحلة مقاومتها في 30 سبتمبر 2024، عندما رفضت السلطات المصرية الإفراج عن علاء بعد انتهاء المدة التي تصر عائلته على أنها مدّة عقوبته القانونية. وتوقفت ليلى الغاضبة من تعنّت النظام وبطء استجابة الحكومة البريطانية عن تناول الطعام في ذات اليوم؛ كما اعتصمت خارج المكاتب الحكومية في لندن بما في ذلك داونينغ ستريت عاقدة العزم على وضع محنة ابنها في قلب الحدث.

مضت أسابيع ثم انقضت أشهر وليلى لازالت مضربة عن الطّعام، وكانت قد تجاوزت 55 يومًا دون تناول أي أطعمة صلبة بحلول أواخر شهر نوفمبر 2024. ولئن لم يتزحزح الجنرالات المصريون والدبلوماسيون البريطانيون عن موقفهم، إلا أنّ صمودها ما انفكّ يتعاظم، رغم تحذيرات الأطباء من أن حياتها كانت في خطر شديد في ظلّ تجاوز الإضراب أربعة أشهر. وعانت ليلى في اليوم الـ130 من إضرابها عن الطّعام في فيفري 2025 من انهيار خطير في نسبة السكر في الدم ونُقلت إلى مستشفى سانت توماس في لندن. وقد تم توصيلها بمحلول وريدي لتزويدها بالكهارل، إلا أنها ظلت متيقظة بل وفطنة؛ حيث تعهدت بمواصلة النضال ”حتى يتحرر علاء“ أو يحرز قادة بريطانيا تقدماً ملموساً في قضيته.

تجاوزت ليلى 245 يومًا دون طعام بحلول أواخر ماي 2025، وباتت حالتها حرجة. ونُقلت إلى المستشفى للمرة الثانية بينما شارف جسدها النحيل على الفشل العضوي. ومع ذلك، أبت أن تستكين وهي ترقد في جناح يطلّ على مبنى البرلمان البريطاني.

الدولة السجنيّة في مصر في ظل حكم السيسي

محنة علاء ووالدته المضربين عن الطعام هي قصة أخرى من ضمن آلاف القصص المرتبطة بمأساة مصر الحديثة؛ إذ تأسّست في مصر في ظل حكم الرئيس عبد الفتّاح السيسي دولة سجنيّة هائلة هي عبارة عن جهاز قمعيّ منقطع النّظير في تاريخ البلاد المعاصر. وقد تمّ سجن عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين منذ انقلاب السيسي عام 2013 من الإسلاميين والنشطاء الليبراليين واليساريين والصحفيين والأكاديميين، حيث لم تسلم من ذلك أي شريحة من شرائح المجتمع.

مهولة هي الأرقام المتعلّقة بحملة الاعتقالات في مصر. فقد انطلقت الحكومة المصرية في حملة غير مسبوقة لبناء سجون جديدة منذ استيلاء السيسي على السلطة؛ حيث تمّ بحلول العام 2021 بناء ما لا يقل عن 34 سجنًا جديدًا لإيواء الأعداد المتعاظمة من المعتقلين.

وعلى الرغم من العبارات الملطفة ومقاطع الفيديو الترويجية المبهرجة لهذه المرافق السجنية الجديدة، إلا أن الظروف لا تزال مزرية؛ إذ تحشر الزنازين التي بُنيت لإيواء خمسة أو ستة أشخص على أقصى تقدير أكثر من 20 نزيلا يفترشون الأرضية في ظل ظروف صحة ونظافة متردّية. كما يُحرم السجناء بشكل دوريّ من الاحتياجات الأساسية مثل التهوية والتمرين والرعاية الطبية، ويتفشّى التعذيب والانتهاكات بشكل منهجيّ؛ حيث وثّق مراقبو حقوق الإنسان تفشي الانتهاكات في حق سجناء الرأي بالضرب والصعق بالكهرباء والعنف الجنسي والحبس الانفرادي غير محدّد المدّة. وقد ارتفعت حالات الوفاة أثناء الاحتجاز، حيث توفي ما لا يقل عن 958 سجينًا (ومنهم أطفال) خلف القضبان في الفترة من 2013 إلى 2019 وحدها، مع تسجيل أكثر من 1000 حالة وفاة بحلول العام 2022. ونجمت الغالبية العظمى من هذه الوفيات عن الحرمان المتعمد من الرعاية الطبية أو التعذيب السّافر؛ وتلك شهادات مروّعة على نظام يحكم ببطش ووحشيّة.

ينكر الرئيس السيسي وقياداته الأمنية اعتقال ”سجناء سياسيين“، ويصرون على أن الاستقرار والأمن هما الأساس وأن المسجونين هم مجرّد مجرمين أو إرهابيين. بيد أنّ الأدلة تكذب هكذا ادّعاءات، حيث تتحدث المنظمات الحقوقية عن حملة شعواء ”لتكميم أفواه المعارضين السياسيين والنشطاء ووسائل الإعلام“ عبر ممارسات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب. وقد عُوقِبَت عائلات بأكملها وتعرض أقارب المعارضين المنفيين للمضايقة أو الاعتقال، بل وتعرّض حتى المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي والأقليات (مثل أفراد مجتمع الميم) إلى حملة اعتقالات بتهم غامضة تتعلق بالفسق أو المعارضة. كما أصدر قضاء السيسي أحكامًا جماعية بالإعدام والسجن لفترات طويلة في محاكمات صورية بما في ذلك ضد المئات من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المحظورة بعد انقلاب 2013. وتعتبر محنة علاء رمزية في هذا المناخ، فهو واحد من عشرات الآلاف من المنتقدين الذين سجنهم نظام معروف بقمعه الوحشيّ.

أما بالنسبة إلى ليلى فإن مشهد ابنها وهو يرزح تحت وطأة هذا النظام لهو يحيل على عقد من الزمن سمته الأسى والصمود؛ فقد باتت حياتها منذ العام 2014 ”محاولة طويلة ومستمرة لتأمين إطلاق سراح [علاء] وضمان أن تكون حياته في السجن محتملة“، إذ اعتصمت خارج بوابات السجن لتوصيل الطعام والكتب إلى علاء، وغالبًا ما كانت تتحمل سوء المعاملة من الحراس. كما قامت بحشد الدعم من مؤلفين ومشاهير عالميين مستفيدة من مكانة علاء ككاتب وخبير تكنولوجيا حائز على جوائز. أما الآن فقد صيّرت من جسدها سلاحًا للاحتجاج الأخلاقي كملاذ أخير. وإن إصرارها في مواجهة آلة القمع في مصر قد جعل منها أيقونة للمقاومة، حتى وإن كانت الدولة تأمل أن يذوي احتجاجها  ويخفت في صمت.

التواطؤ الغربي مع القمع في مصر

لا يقتصر نضال ليلى سويف على مواجهة النظام المصري فحسب، بل يشمل أيضًا منظومة التحالفات والمصالح الدولية التي دعمت حكم السيسي الغاشم. وينبع احتجاجها من صميم إحباط عميق إزاء كلتا الحكومتين؛ ”الحكومة المصرية التي رفضت بقسوة إطلاق سراح [علاء]“ عندما انتهت مدة عقوبته، ”والحكومة البريطانية التي كانت مع الأسف متخاذلة في الضغط من أجل حرية مواطنها“.

ولئن أعربت القوى الغربية عن قلقها بشأن وضع حقوق الإنسان في مصر، إلا أنها واصلت عمليًّا دعم حكومة السيسي من خلال المساعدات العسكرية والصفقات الاقتصادية والشرعية الدبلوماسية وعمليات الإنقاذ المالي، مقدّمةً بذلك المصالح الاستراتيجية على المبادئ. كانت الولايات المتحدة بشكل مخصوص الراعي الرئيسي لمصر منذ أواخر السبعينيات. وقد تواصلت هذه الرعاية بلا كابح حتى مع قيام السيسي بالانقلاب الدموي عام 2013 والمجزرة التي أعقبته والتي راح ضحيتها أكثر من 800 متظاهر في ميدان رابعة في القاهرة. وبينما جمدت إدارة أوباما لفترة وجيزة بعض شحنات الأسلحة، إلا أن واشنطن سرعان ما استأنفت المساعدات العسكرية الكاملة على الرغم من حملة القمع الدموية. وتتلقّى مصر ما يقرب من 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية سنويًا، مما يجعلها واحدة من أكبر المستفيدين من المساعدات الأمنية الأمريكية.

ويربط القانون الأمريكي في الظاهر جزءً من هذه المساعدات بأوضاع حقوق الإنسان، بل إن الولايات المتحدة اقتطعت منذ العام 2020 مبلغاً رمزياً (حوالي 320 مليون دولار) للضغط من أجل تحسين الأوضاع. غير أنّ الإدارات الأمريكية كثيراً ما تتنازل في الواقع عن هذه الشروط، وهو ما عمد إليه وزير خارجية الرئيس بايدن في أواخر العام 2023 مثلا، حين قرّر التنازل عن تلك التقييدات ومنح مصر حزمة المساعدات الكاملة مستشهداً في ذلك بـ ”التطورات الواضحة والمتسقة“ في مجال احترام حقوق الإنسان. وقد صدر هذا القرار رغم إشارة الجماعات الحقوقية لتواصل القمع في مصر بالنسق المعهود سابقا، حيث أفرجت الحكومة عن بضع مئات من السجناء السياسيين لتعتقل مكانهم المزيد. لقد كشفت هذه الواقعة عن نمط مألوف؛ إذ تتقدّم المصالح الاستراتيجية الأمريكية (من ناحية دور مصر في حفظ الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب في المنطقة) على المخاوف المتعلّقة باحترام حقوق الإنسان. وبرّر متحدث باسم الخارجية الأمريكية صراحة صرف مساعدات العام 2023 بكونها ”حيويّة لتعزيز السلام الإقليمي“، مشيرًا إلى المساعدة التي قدّمتها مصر في محادثات وقف إطلاق النار في غزة و”مساهماتها في تحقيق أولويات الأمن القومي الأمريكي“. وقد حافظ الرؤساء الأمريكيون على مدار السّنين على علاقات وثيقة مع السيسي؛ حتى أن الرئيس السابق ترامب أشار إليه بمودّة بأنه ”ديكتاتوره المفضّل“، وهو اعتراف ساخر لا باستبداد السيسي وحسب، بل وبدعم الولايات المتحدة الثّابت له. وتظلّ رسالة واشنطن إلى القاهرة واضحة على الرغم من التوبيخات العرضية، ومفادها أنّ منابكم من أموال الولايات المتحدة محفوظ وأنّ الانتقادات لا تعدو أن تكون في مجملها خطابات رنّانة.

وبالمثل، أقامت الحكومات والمؤسسات الأوروبية شراكات مع مصر في عهد السيسي، واضعةً أجندات أخرى على رأس أولوياتها على حساب حقوق الإنسان. وقد تودد الاتحاد الأوروبي إلى مصر باعتبارها ”شريكًا استراتيجيًا“، لا سيما في قضايا ضبط الهجرة. وتوجه قادة الاتحاد الأوروبي في مارس 2024 إلى القاهرة لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق تاريخي؛ حزمة مساعدات لمصر بقيمة 7.4 مليار يورو تهدف إلى دعم اقتصادها المتعثر و”تطوير“ العلاقات السياسية. كان الاتفاق الذي تصدّره قادة إيطاليا واليونان وألمانيا وبلجيكا والمفوضية الأوروبية مصممًا صراحةً لمكافأة مصر على جهودها في وقف تدفق المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا إلى أوروبا، بينما تمّ التغاضي عن القمع الذي يمارسه السيسي.

كما عمدت دول أوروبية منفردة إلى توطيد العلاقات؛ فقد باعت فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول أخرى أسلحة لمصر بقيمة عشرات المليارات، مما جعل مصر واحدة من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم. كما مثلت مصر بين العامين 2016 و2020 ثالث أكبر مشترٍ للأسلحة في العالم وثاني أكبر مستورد للأسلحة الفرنسية، حيث اقتنت طائرات مقاتلة وسفن حربية وصواريخ. وتواصلت هذه الصفقات حتى بعد أن دعا البرلمان الأوروبي إلى فرض حظر على الأسلحة في أعقاب مقتل طالب إيطالي في القاهرة. وغالبًا ما كانت هذه الصفقات مموّلة من قبل البنوك والحكومات الأوروبية نفسها، لتتشابك بذلك المصالح الخاصة وتعتمد على استمرار السيسي في الحكم. وقد رحّب القادة الأوروبيون بالسيسي على الساحة العالمية؛ حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منحه وسام جوقة الشرف الأكبر في العام 2020 في الخفاء تجنّبًا لإثارة الغضب العام. وقد نتج عن ذلك أن الدبلوماسية الأوروبية تجاه مصر غالبًا ما كانت مترددة، إذ تكتفي بتعبير مهذّب ومستتر عن ”القلق“ بينما ترحّب علنًا بالسيسي كحليف مهمّ.

كما قام الحلفاء في الخليج العربي من قبيل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بالاستثمار بشكل مكثّف في مصر، بينما ظلت الحكومات والبنوك الغربية تقدم الدعم باستمرار. إن الحصيلة هي شكل من أشكال التواطؤ؛ إذ تستمر الأموال والأسلحة الغربية في التدفق إلى خزائن السيسي حتى أثناء انتقاد المسؤولين الغربيين لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان بالكلمات، وهو ما يدعم نظامًا يسجن الشعراء والجدات على حد سواء.

تعكس تجربة ليلى سويف نفسها هذه الديناميكية بصورة أليمة. فقد توقعت بصفتها مواطنة بريطانية أن تدافع المملكة المتحدة عن حقوق ابنها. وقد دافعت بريطانيا عن ابنها إلى حد ما، فقد أثار رئيس الوزراء كير ستارمر ومن سبقوه قضية علاء في اجتماعاتهم مع السيسي وطالبت الحكومة البريطانية رسمياً بالسماح لها بزيارة الناشط المسجون. ومع ذلك ترى ليلى أن جهود لندن كانت جدّ محتشمة وبيروقراطية للغاية.

وازدادت الضغوطات على لندن مع تدهور حالة ليلى الصحية في أواخر شهر ماي الماضي. وأصدر الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي التابع للأمم المتحدة إعلانا تاريخياً مفاده أن سجن علاء غير قانوني، مطالبا مصر بالإفراج عنه ”فوراً“. ويبقى السؤال المطروح هو ما إذا كانت بريطانيا والولايات المتحدة وشركاؤها في الاتحاد الأوروبي سيستغلون نفوذهم الواسع للإصرار على إطلاق سراح علاء وغيره ممن يشاركونه نفس المصير.

النضال المستمرّ من أجل العدالة

أتمّ علاء بتاريخ كتابة هذه السطور 42 عامًا من العمر وهو يقبع خلف القضبان، ليكون ذلك عيد ميلاد آخر يسلبه منه نظام عازم على تحطيمه. كما تدخل والدته ليلى شهرها التاسع دون أن تأكل لتوشك بذلك على الموت، ومع ذلك فهي مصممة على بذل الغالي والنفيس في سبيل تحرير ابنها. ويمثّل إضرابها عن الطعام إدانة أخلاقية قاطعة لكل من النظام المصري وداعميه في الخارج. إنّ ذلك تكثيف لحبّ الأمّ ونزعتها للتحدّي مقدودان من نفس المعدن الذي دفع بالمصريين للمطالبة بالكرامة في ميدان التحرير قبل أربعة عشر عامًا خلت.

ويحمل جسد ليلى الوهن الآن ثقل مثل هذا النضال، ليكون كل يوم جديد تعيشه بمثابة تذكير بالكلفة البشرية للدولة البوليسية في مصر وتحدّ في وجه عالم أشاح بنظره عن القضيّة. ولئن كانت قصتها شخصية بالأساس، إلا أنها مرآة تعكس صمود عدد لا يحصى من المصريين الذين يواصلون مقاومة الظلم بكل السبل المتاحة. ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كان إضراب ليلى سويف عن الطعام سيحقق هدفه المباشر، ألا وهو الإفراج عن علاء من معتقله. لقد برهنت حكومة السيسي عن لامبالاة فظيعة بأرواح المصريين، ومن المحتمل إلى ذلك أن تتجاهل موت متظاهرة سلميّة مثل ليلى. ولكن تحرّك ليلى قد عرّى بالفعل حقيقة القمع في مصر وتواطؤ الدول الكبرى. بل إنّ نضالها يطرح سؤالاً محرجا؛ إذ هل يجب أن تموت أمّ على عتبة 10 شارع داونينغ ستريت [مقرّ الإقامة الرسمية ومكتب رئيس وزراء المملكة المتحدة] حتّى يلتفت العالم للنداءات المطالبة بالعدالة في مصر؟

إن نضال ليلى هو دعوة صادحة لإعادة النظر في علاقة الغرب بالنظام المصري، بل إنه نداء من أجل تغليب المبادئ على الواقعية السياسيّة البراغماتية؛ فنضال ليلى سويف يطالب أن تقرن المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الأقوال بالأفعال وأن تكفّ عن تمكين آلة التعذيب التي أوقعت بعلاء والكثيرين من أقرانه في شراكها. وتسلّط شجاعة ليلى التي تتأرجح بين الحياة والموت الضوء على جميع المعتقلين ظلماً في سجون مصر والعائلات التي تعاني من جرّاء ذلك. وسوف لن تنتهي قصّتها بإضرابها عن الطعام، إذ ستخلّد في الذاكرة كشاهد على حب الأمّ وإدانة لهمجية ووحشية النظام سواء اختتمت بانتصار أو بمأساة.

لا ينبغي للعالم أن يدع تضحية ليلى سويف تذهب سدى، ولا أن ينسى القضية التي ألهمتها: ”حرّروا علاء!“