عرض دراسة: مستقبل التنمية بالحوض المنجمي بعد أو بدون فسفاط
الفسفاط، الثروة، الحوض المنجمي، حراك الحوض المنجمي 2008، اضطرابات في إنتاج الفسفاط، كلها عناوين تؤدي إلى نفس السؤال: لماذا تتواصل مأساة الحوض المنجمي؟ ولماذا يتواصل نفس أسلوب التعامل معه من طرف كل الحكومات المتعاقبة قبل وبعد 14 جانفي 2011؟ ولماذا لا يطرح موضوع التنمية بالحوض المنجمي إلا عندما تتعطل ماكينة الإنتاج ومصدر ثروة الفسفاط؟ بهذه العناوين وهذه الأسئلة تبدأ الدراسة حول “مستقبل التنمية بالحوض المنجمي بعد أو بدون فسفاط” لحسين الرحيلي الصادرة عن منظمة “روزا لكسمبورغ مكتب شمال افريقيا” خلال شهر اكتوبر 2021
منذ اكتشاف الفسفاط على يد المستعمر سنة 1883 والمنطقة تقدم الثروة الفسفاطية من خلال استغلالها المجحف. ورغم وصول الانتاج سنة 2010 الى حدود 12 مليون طن من الفسفاط الخام و8.5 مليون طن من الفسفاط التجاري، وهو ما يعني موارد مالية تتجاوز سنويا 4 مليار دينار، إلا أن حالة مناطق الحوض المنجمي لم تتغير بل يمكن القول أنه خلال العشرين سنة الاخيرة قد فقدت حتى أبسط مقومات الحياة من خدمات عامة وحتى الحد الأدنى من البنى التحتية.
وانطلاقا من سنة 1985، وهو تاريخ الشروع الفعلي لتونس في تطبيق مشروع الإصلاح الهيكلي المفروض من طرف صندوق النقد الدولي، تعرضت شركة فسفاط قفصة الى عملية تطهير واسعة تخلت بموجبها عن أكثر من 5000 عون في اقل من 5 سنوات، وأغلق تبعا لذلك باب الانتداب بها وهي المشغل الاساسي والوحيد بمنطقة الحوض المنجمي. فانتشرت البطالة بكل المستويات، وتراجع حضور الدولة والشركة، فأصبحت المنطقة في عزلة تامة عن الدورة الاقتصادية
فتراجعت تبعا لذلك كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، لتتحول منطقة الحوض المنجمي الى بؤرة للبطالة والتهريب والجريمة المنظمة والتهميش، وتبعا لتراكم هذه الضغوطات الاجتماعية والبشرية انفجرت المنطقة في سنة 2008 وهو ما بات يعرف بأحداث الحوض المنجمي التي التحم خلالها كل متساكني المنطقة ضد سياسة الاستغلال والتهميش والبطالة والحقرة.
بعد 14 جانفي، وبعد تبخر آمال أهالي الحوض المنجمي أن ينصفهم التاريخ وأن يتمتعوا بجزء من الثروة التي ينتجونها و هم الذين اعتبروا أنفسهم أول من وضع مسمارا في نعش بن علي ونظامه، ، وأمام تواصل نفس سياسة التهميش والاستغلال للمنطقة، تأزمت الأوضاع في الحوض المنجمي وصولا الى التوقف الكلي للإنتاج ونقل الفسفاط في كامل الحوض المنجمي وما ترتب عنه توقف لوحدات الانتاج بالمجمع الكيميائي التونسي بكل من قابس والصخيرة وصفاقس والمظيلة.
وفي هذا الإطار، وفي ظل سياسة تخريب ممنهجة لشركة فسفاط قفصة، تمثل هذه الدراسة تمشيا ضروريا لتشخيص معمق للمنطقة، وتقديم اقتراحات في إطار برنامج تنموي متكامل بدون فسفاط، يستغل خصوصيات الجهة وثرواتها الطبيعية والبشرية.
1. تشخيص الواقع الحالي للحوض المنجمي وتقييم آثار استغلال الفسفاط
التنمية ليس مجرد عمليات فوقية لإنتاج الثروة في مكان ما. بل هي محصلة لتفاعل الإمكانات الطبيعية والبشرية في واقع محدد ومشخص بشكل جيد، حتى يقع انتاج الثروة وفق حاجياته المباشرة. ففي المرحلة الاولى من الدراسة المتعلقة بمستقبل التنمية في الحوض المنجمي بدون او بعد الفسفاط، قُدِم تشخيص واقع مدن الحوض المنجمي بشكل معمق، إضافة إلى تقييم تأثير استغلال الفسفاط على هذه المناطق على كل المستويات وخاصة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
كما تمت اعادة بناء المسار التاريخي لنشأة وتطور مدن الحوض المنجمي، والتي كانت نتيجة حتمية لاكتشاف الفسفاط واستغلاله. ولعل هذا التحليل التاريخي لمدن الحوض المنجمي يمكننا من التعرف على التأثير الاستعماري بالمنطقة طيلة استغلال الفسفاط على المستوى العمراني والثقافي والاجتماعي. كما يمكننا من التعرف على التركيبات الاجتماعية والثقافية والتاريخية لسكان الحوض المنجمي، وتطورها عبر الزمن، ومدى الثراء الذي أحدثته في مسار تطور الأبعاد الاجتماعية والثقافية بالمنطقة.
المسار التاريخي لنشأة مدن الحوض المنجمي
يقع الحوض المنجمي بالجنوب الغربي للبلاد التونسية وينتمي إداريا لولاية قفصة. تقع مدن الحوض المنجمي أي الرديف وأم العرائس والمتلوي والمظيلة بالجنوب والجنوب الشرقي للولاية. وتعتبر هذه المدن مركز استغلال الفسفاط بالبلاد ككل منذ حوالي أكثر من 130 عاما. فما هو المسار التاريخي لنشأة المدن المنجمية وكيف تطورت تباعا وفق حضور الفسفاط وتخليه عنها؟
مدن الحوض المنجمي ليست مدنا تاريخية مرتبطة بحضارات قديمة. بل هي مدن حديثة النشأة، ارتبط وجودها باكتشاف الفسفاط والشروع في استخراجه. أي أن هذه المدن أوجدها الفسفاط وارتبطت به سلبا وايجابا. ذلك أنها لم تكن موجودة قبل 1881، فسكانها الحاليين كانوا بدوا رحل. وإذا كان ميلاد هذه المدن المنجمية مرتبط بالفسفاط إبان الاستعمار المباشر، فإنها بقيت كذلك بعد 1956، حيث واصل الفسفاط بناء هذه المدن واستيعاب يدها العاملة والقيام بدور الدولة الغائبة تماما عليها منذ نشأتها.
يمكن تلخيص نشأة مدن الحوض المنجمي بقفصة “بالعصر الذهبي” للفسفاط في مرحلة اولى. فهي فترة الاستثمارات الضخمة، وإنشاء البنى التحتية للاستخراج والتي استمرت حتى عام 1930. إذ تميزت الثلاثينيات بتضخم المدن الحديثة النشأة المرتبطة بتوسع استغلال الفسفاط. وفرضت هذه المدن توسعها بشكل دائري محاذ للمثال الهندسي الأوروبي ببداية الاستثمارات الكبرى لاستغلال الفسفاط قبل سنة 1930. كما هيأ المستعمر مدن الحوض المنجمي لفائدة الجاليات الاوروبية التي أتت للعمل في استخراج الفسفاط. فكان معمار الأحياء على الطريقة الأوروبية لخلق مناخ غير بعيد عن دول العمال الاصلية لحثهم على البقاء في مناطق لم تكن معدة أصلا للاستقرار والسكن والعمل. كما كان الفسفاط العامل الحاسم الذي فرض على القبائل الأصليين الرحل الاستقرار ولو بشكل نسبي في بداية القرن الماضي.
لكن إبان الازمة المالية العالمية لسنة 1929 وما خلفته من تداعيات اجتماعية كبيرة على مدن الحوض المنجمي، والتي تواصلت إلى سنة 1956، في علاقة بتراجع الاستثمارات الفسفاطية مقابل ارتفاع منسوب الهجرة لهذه المدن الجديدة، فإن الزحف العمراني لمدن الاستغلال تأثر بمجموعة من العوامل أهمها رحيل المديرين التنفيذيين الفرنسيين العاملين في الشركة والإيطاليين الذين عاشوا في المدن المجاورة للمدن الأوروبية واستبدالهم بالمديرين التنفيذيين للشركة الذين هم أساسا من المهاجرين من الساحل ومن تجمع قفصة والقصر. كما بيّن الرصد التاريخي لنشأة وولادة مدن الحوض المنجمي أن هذه المدن كانت حاضنة لموجات من الهجرة الداخلية والخارجية طيلة النصف الاول من القرن الماضي وكان لذلك تأثير كبير على التنوع السكاني والتمازج الثقافي لهذه المدن.
بعد استقلال البلاد، ترك المستعمر عند مغادرته مساكن ومغازات وملاعب للتنس وقاعات للسينما وحدائق ومنتزهات كانت طبعا حكرا على العمال والفنيين الأوروبيين. وبعد المغادرة استقر بها المسؤولون الجدد لشركة الفسفاط. ولكن وأمام غياب الدولة عن هذه المدن المنجمية التي بقيت تحت رحمة شركة فسفاط قفصة، فإن كل هذه البنى التحتية وبمرور الزمن قد تقادمت وانهارت وأصبحت خارج الخدمة بعد التخلي التدريجي للشركة عن دورها الاجتماعي والاقتصادي.
فقد لعبت شركة فسفاط قفصة الدور المحوري في مدن الحوض المنجمي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي والرياضي. بل يمكن القول أن الفسفاط هو الخالق الفعلي لهذه المدن ولولاه لما كانت موجودة اصلا. فشركة فسفاط قفصة كانت تؤمن التشغيل بمفردها لسكان اربعة مدن، اضافة الى تأمين الماء والكهرباء ومجانية النقل وتأمين تزويد المدن المنجمية بالمواد الغذائية وحاجيات السكان من خلال تركيز نقاط بيع في شكل مغازات تجارية، والتي تأسست منذ بداية القرن العشرين وتواصل العمل بها الى منتصف السبعينات.
تقييم نشاط وآثار استغلال الفسفاط على مدن الحوض المنجمي
رغم كل الأدوار الهامة التي لعبتها شركة فسفاط قفصة، والتي ترجع في الأصل للدولة التي كانت غائبة ولازالت عن مدن الحوض المنجمي، لا يمكن أن يغفل علينا التأثيرات البيئية والصحية لنشاط استغلال الفسفاط ولأكثر من 130 سنة على هذه المدن وسكانها.
يمكن حصر التأثيرات السلبية لنشاط استغلال وتثرية الفسفاط بمدن الحوض المنجمي على اربعة مجالات اساسية وهي: الموارد الطبيعية وخاصة الماء، والمناظر الجمالية العامة والصحة وإطار العيش (الفضاء العمراني).
نظرا لضعف النسيج الصناعي بمنطقة الحوض المنجمي إن لم نقل انعدامه، فإن النشاط المهيمن على إستغلال الموارد المائية هو نشاط استغلال وتثرية الفسفاط. فقد كانت شركة فسفاط قفصة تستخدم أسلوب التهوئة لفصل الفسفاط عن الشوائب، وهي تقنية ملوثة جدا وتكبد أهالي الحوض المنجمي ويلات الغبار والتلوث الهوائي اليومي الذي خلف أمراض صدرية لا تحصى ضحاياه. وأمام التقدم العلمي والتقني في مجال تثرية الفسفاط، وبعد ما أصبح التلوث الهوائي كارثة على المنطقة ككل، انطلقت شركة فسفاط قفصة منذ أواخر السبعينات في تركيز وتعميم مغاسل الفسفاط بكل مواقع الاستخراج، ولكن لكل تقنية ضريبة بيئية، فكانت الضريبة البيئية لغسل الفسفاط استغلال موارد مائية كبيرة رغم كون جلها من النوعية المالحة، وتلوث مائي ناجم عن المياه المشحونة بالوحل الطيني الصادر عن المغاسل. فشركة فسفاط قفصة تستغل الموارد المائية بالجهة من خلال 18 بئرا عميقة وتقدر طاقة ضخ هذه الآبار بحوالي 715 ل/ث، وهي طاقة ضخ كبيرة بالمقارنة مع احتياطي الموائد المائية العميقة بجهة الحوض المنجمي. ما يعني أن شركة فسفاط قفصة تستغل سنويا حوالي 72 بالمائة من الموارد المائية الجوفية العميقة لمنطقة الحوض المنجمي، وحوالي 48 بالمائة من الموارد المائية الجملية للمنطقة. مما يعني انه إذا تواصل استغلال المياه من طرف شركة فسفاط قفصة على هذه الوتيرة، فإن ديمومة نشاط الفسفاط خلال 20 سنة القادمة ستصبح مهددة، كما أن حياة سكان مدن الحوض المنجمي ستصبح في خطر أمام تراجع الموارد المائية الحياتية بالجهة، اضافة الى تلوث هذه الموائد جراء تصريف المياه الطينية من المغاسل في المحيط الطبيعي وخاصة الاودية. فمن خلال المعطيات والإحصائيات الصادرة عن شركة فسفاط قفصة، فإن كمية الوحل الطيني المصرف بشبكة الأودية بمنطقة الحوض المنجمي قد تجاوزت 42 مليون طنا ما بين 1979 إلى 2000. كما أن معدل الوحل الطيني المترسب بمجاري الأودية يقدر بحوالي 24 مليون طن منذ سنة 2000 إلى حدود سنة 2010. وهي كميات ملوثة قادرة على إحداث تأثيرات كبيرة على المنظومات الطبيعية وخاصة على تغذية الموائد المائية. اذ ان الوحل الطيني يمثل حاجزا طبيعيا لتسرب مياه السيلان الى الموائد السطحية وبالتالي إلى الموائد العميقة. كل ذلك سيكون له تأثير كبير على تجدد الموائد المائية، مما سيقلص من طاقة تدفق المياه منها على المدى المتوسط والبعيد. ولقد تأثرت العديد من المناطق بهذه الترسبات الطينية وخاصة منطقة تبديت الفلاحية، التي تعرضت لإتلاف العديد من المحاصيل، واحترقت جراء هذه المياه عدد كبير من الأشجار المثمرة، إضافة إلى تصحر مساحات كبيرة من الأراضي خاصة إبان فيضان وادي تبديت وأم العرائس والذي يتسبب في فرش هذه المياه الطينية على مساحات واسعة. كما تسببت هذه المياه في تلويث الأودية الرملية وتلويث بعض الموائد المائية السطحية بتبديت والرديف وأم العرائس.
اما بالنسبة الى المناظر الجمالية العامة فيعتمد الاستغلال السطحي للفسفاط على تحويل الطبقات الجيولوجية التي تغطي طبقات الفسفاط التسع الموجودة عبر استعمال المتفجرات وتحويل هذه الطبقات الجيولوجية الى تراب وحجارة صغيرة قابلة لتحويلها من مواقعها الطبيعية الى مواقع اخرى. بمعنى أكثر وضوح، الاستغلال السطحي للفسفاط يعتمد على نقل الجبال بكاملها من مواقعها الى مواقع اخرى لاستخراج طبقات الفسفاط الموجودة تحتها. وهو ما يعني تشويها كاملا للطبيعة عبر محو الجبال وقممها من الطبيعة، وتعويضها بأكوام من التراب والحجارة المفرزة من جراء التفجيرات لهذه الجبال. وفق التقارير الرسمية لشركة فسفاط قفصة، فان كميات التراب والحجارة التي يتم تحويلها من مواقعها الطبيعية سنويا تتراوح ما بين 70 الى 140 مليون طنا في السنة حسب طاقة إنتاج الفسفاط الخام. ولتقديم فكرة واقعية لحقيقة وضخامة الكميات التي يتم تحويلها سنويا. باعتبار ان هذه الطريقة في الاستغلال تقوم على نسف الجبال الطبيعية وتعويضها بجبال من الأتربة والحجارة بعد تفتيتها بالمتفجرات فهي تمثل مصادر للتلوث وتصاعد للغبار بشكل دائم ومستمر. كما أن هذه الطريقة تقوم بتغيير لطبوغرافيا المناطق المنجمية بشكل جذري وغير قابل للعودة. وبالتالي تغيير لحقيقة الجغرافيا والخرائط الطبوغرافية والجيولوجية. كما ان هذا التأثير يتجاوز المناظر الجمالية العامة الى مستوى الارث العلمي والجيولوجي للأجيال القادمة.
لا يقتصر الاضرار بالمناظر الجمالية العامة للاستغلال الفسفاطي بمناطق الحوض المنجمي على المقاطع ونسف الجبال الطبيعية من مواقعها فقط، بل ان وحدات غسل الفسفاط لازالت تمثل اضرار كبيرا بالنسيج السكاني والعمراني بمدن الحوض المنجمي. اذ انها تتوسط النسيج السكني وبالتالي تمثل عوائق لهذه المدن سواء على مستوى الجمالية او على مستوى امكانات التوسع المنظم. كما تفرز هذه الوحدات اضافة الى المياه الطينية الملوثة التي تصرف في الاودية، شوائب ونفايات صلبة (حجمها أكبر من 2مم) تقدر سنويا بحوالي 1.1 مليون طنا تكدس بجوار المغاسل، لتساهم بالتالي في تصاعد الغبار من ناحية والإضرار بجمالية الفضاءات العمرانية من ناحية اخرى خاصة بالمتلوي وأم العرائس ومغسلة المظيلة المدينة، أين توجد المغاسل قرب مواطن العمران.
اما على مستوى سلامة وثبات الاحياء السكنية، فان الاستغلال الباطني للفسفاط بمدن الحوض المنجمي، والذي دام حوالي 100 سنة، ترك فراغات ودواميس عميقة تحت الأرض أي تحت المساكن الآهلة بسكانها. وبعد التخلي النهائي من طرف شركة فسفاط قفصة على استغلال المناجم الباطنية تركت على حالها دون دراسات تتعلق بثباتها وسلامة النسيج العمراني والبشري الذي يعلوها. فكانت أول عمليات انهيار للمساكن بالرديف أواخر التسعينات تحت خط الانتاج الباطني المسمى Z6، والذي يشق حي المغرب العربي الكبير او ما يعرف تاريخيا “بحي السوافة”. هذه الحادثة التي هدمت أكثر من 10 مساكن تعد فاخرة قد طرحت على النقاش ولأول مرة بمدن الحوض المنجمي مدى سلامة النسيج العمراني في علاقة بالمناجم الباطنية.
كما أن تأثير النشاط المنجمي على الصحة العامة تجاوز العاملين به إلى عائلاتهم ومدنهم بشكل كامل فإنه يمكن القول أن تقنية تثرية الفسفاط بالتهوئة التي كانت تستعمل منذ ثلاثينات القرن الماضي وإلى حدود أواخر الثمانينات قد حولت مدن الحوض المنجمي الى مدن الغبار بامتياز. تنبعث من هذه الوحدات مئات الأطنان من الغبار الداكن يوميا ويتساقط على المنازل ويتركز بالهواء الذي يتنفسه الكبار والصغار. وهو ما جعل من سكان المدن المنجمية الاكثر عرضة للأمراض الصدرية والحساسية وغيرها من الأمراض المرتبطة بتلوث نوعية الهواء. ويمكن اعتبار مرض “السيليكوز” الاكثر انتشارا بين السكان. كما أن المياه المعدة للشرب بالمناطق المنجمية والمستخرجة من الموائد الجوفية العميقة كانت سببا مباشرا في أمراض الفم وتساقط الاسنان لدى غالبية سكان المدن المنجمية، والتي عادة ما يكسوها الاصفرار في سن مبكرة، اضافة إلى امراض الكلى والمجاري البولية في ارتباط مباشر بارتفاع تركيز مادتي الكربونات والفليور بهذه المياه المعدة للشرب والاستعمال اليومي لسكان المدن المنجمية.
2. الإمكانات الطبيعية والبشرية للتنمية بمدن الحوض المنجمي وإزالة التلوث
بناء على الواقع الديمغرافي والتركيبة السكانية لجهة قفصة بشكل عام ومدن الحوض المنجمي بشكل خاص، وجب التأكيد على أن مدن الحوض المنجمي بقدر ما تمثل وحدة جغرافية وجيولوجية، فإنها تمثل كذلك وحدة اقتصادية واجتماعية، بل يمكن القول إن التركيبة السكانية والواقع الديمغرافي يتشابه بشكل كبير. مما جعل كل المؤشرات المتعلقة بالتنمية البشرية قريبة من بعضها البعض بين الرديف والمتلوي والمظيلة وأم العرائس. ذلك أن غياب الدولة لمدة طويلة وملئ الفراغ من طرف شركة فسفاط قفصة جعل المنطقة ككل مرتهنة لهذه الشركة على مستوى التشغيل والإحاطة الاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية.
بعبارة أكثر وضوحا كانت الشركة دولة داخل الدولة، وعندما قرر لها أن تتراجع عن كل الأدوار التقليدية والتاريخية التي كانت تلعبها بمنطقة الحوض المنجمي، ظهرت عيوب الخيارات السياسية والاقتصادية. فانتشرت البطالة بنسب مرتفعة، وتدنت كل الخدمات الاجتماعية والصحية وخدمات النقل والترفيه والثقافة والرياضة وكل ما له علاقة بالعدالة الاجتماعية. فلا يمكن الحديث عن تنمية خارج شركة فسفاط قفصة لأنه لا يوجد بديل لها إلى حد الآن وأمام تواصل غياب الدولة في الجهة ككل.
لكن بقي سؤال محوري في هذا الركام التنموي الكبير بهذه المدن: هل ان منطقة الحوض المنجمي ستبقى رهينة الفسفاط في المجال التنموي والاجتماعي؟ وهل المنطقة لا تتوفر إلا على الفسفاط كمورد طبيعي للتنمية؟ أم أن المنطقة تزخر بالموارد ولكن الخيارات السياسية للتنمية تبقى دوما هي المشكل؟
الموارد المائية والأراضي الفلاحية
تتكون الموارد المائية بالحوض المنجمي من موارد مائية جوفية فقط، باعتبار ضعف الأمطار وغياب أي خزانات أو سدود لتجميع مياه الأمطار. وبالتالي فان المنطقة ككل تتزود من الماء لتغطية حاجياتها السكانية والخدماتية والصناعية من الموارد المائية الجوفية المتواجدة بالمنطقة.
أما الأراضي الفلاحية فتبلغ مساحة الأراضي القابلة للاستغلال الفلاحي بالحوض المنجمي حوالي 12500 هك، منها 4237 هك مناطق سقوية. من خلال المعاينات الميدانية للعديد من المناطق الفلاحية السقوية خاصة، وبعد الحديث المطول مع عدد هام من الفلاحين، تبين أن هذه المشاريع الفلاحية والتي انطلقت غالبيتها منذ منتصف الثمانينات، قد نجحت في تغيير طابع المدن المنجمية من مدن مرتهنة لاستخراج الفسفاط إلى مدن قادرة على تنويع أنشطتها الاقتصادية. كما بينت هذه المشاريع أن الرهان على الفلاحة يمكن أن يمتص عددا من اليد العاملة المعطلة ويُحدث تغييرا في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية بهذه المدن. من الناحية الاقتصادية والمردودية لهذه المناطق الفلاحية السقوية، يمكن القول إن هذه المشاريع الفلاحية ذات مردودية كبيرة، حيث تطورت اغلب المشاريع بعامل الزمن ليصل رقم معاملات بعضها إلى مليون دينار في السنة. لكن تبقى هذه المردودية قابلة أن تكون أكثر على مستوى القيمة المضافة، لو كانت هذه المناطق السقوية مدعومة بنسيج صناعي تحويلي وخدمات بالمنطقة تمكّن من الزيادة الفعلية في الدخل المباشر للفلاح والرفع من الطاقة التشغيلية بالمدن المنجمية خارج دائرة الفسفاط.
كما يرتبط في العادة النشاط الفلاحي بنشاط تربية الاغنام والماعز والإبل أو ما يعبر عنه بشكل عام تربية الماشية. وهو نشاط تقليدي ومخصص للاستهلاك المحلي إن لم نقل للاستهلاك العائلي. كما يندرج في بعض العائلات من قبيل الهواية والنشاط التكميلي لتنمية الدخل العائلي. أما تربية الإبل فهي محتكرة من العائلات التي تقطن بالمناطق الصحراوية أو الريفية وتندرج ضمن النشاط الاقتصادي المكثف خاصة في المظيلة والمتلوي. من خلال المعاينات الميدانية والأرقام الرسمية للإدارات المعنية بتربية الماشية بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بقفصة، يقدر القطيع بمدن الحوض المنجمي بحوالي: 75 ألف راس من الاغنام و10 آلاف من الماعز و3500 رأس من الإبل. ورغم اهمية هذه الارقام فان مردوديتها الاقتصادية والاجتماعية بقيت ضعيفة نظرا لصغر حجم القطيع عند المربين وهامشية القطاع وانعدام الدعم اللازم من الإدارات المعنية.
المواد الانشائية
وجود الفسفاط بالحوض المنجمي أعطى للمنطقة مميزات دراسية وبحثية كبيرة من طرف المهتمين بالجيولوجيا والتنمية والجغرافيا والطبوغرافيا. فأنجزت بالمنطقة وطيلة 100 عام الماضية أعداد كبيرة من البحوث والدراسات والبحوث المعمقة ورسائل الدكتوراه. يمكن القول في هذا الإطار أن جهة قفصة تعتبر الجهة الاكثر دراسة من حيث الخصائص والأبعاد الجيولوجية خاصة وذلك ارتباطا بالفسفاط واستغلاله طيلة 130 سنة الماضية. كنتيجة لكل الزخم البحثي والدراسي للمنطقة، فإنه تم تحديد دقيق ومميز للعديد من المواد الانشائية التي تمثل في الأصل ثروات طبيعية لم يقع استغلالها الى الآن أمام سطوة استغلال الفسفاط واعتباره الثروة الطبيعية الوحيدة بالمنطقة.
من خلال الاطلاع على العديد من الدراسات والبحوث الدراسات الميدانية بمنطقة الحوض المنجمي، وانطلاقا من الزيارات الميدانية التي تم القيام بها في إطار إعداد هذه الدراسة، يمكن القول ان منطقة الحوض المنجمي تعتبر غنية جدا بالعديد من المواد الانشائية التي يمكن استعمالها واستغلالها في العديد من الانشطة الاقتصادية التي يمكن أن تساهم في تنمية المنطقة والحد من بطالة اليد العاملة وتخفيف الضغط على شركة فسفاط قفصة. يمكن تلخيص أهم المواد الانشائية المنتشرة بالمنطقة المنجمية والتي لها إمكانات الاستغلال الصناعي فيما يلي: الحجارة الكلسية بكل انواعها (الكلس- الدولومي- الكلس الجيري)، الطين بكل اشكاله والوانه، الجبس، الرمال، مادة “الشارت”.
المواقع الجيولوجية والايكولوجية
اضافة الى الموارد الطبيعية والمواد الانشائية التي تم التعرض إليها سابقا في هذا التقرير، تزخر منطقة الحوض المنجمي بالعديد من المواقع الايكولوجية والجيولوجية ذات البعد العلمي والأكاديمي. كما وفر الاستغلال الباطني للفسفاط بمناطق الحوض المنجمي عدد كبير من الدواميس والمواقع تحت أرضية تمثل فضاءات للسياحة الايكولوجية ومواقع لسياحة المغاور التي تستقطب أعدادا كبيرة من الزوار المحليين والأجانب.
فموقع الثالجة الواقع بالمتلوي والذي اكتشف فيه الفسفاط بالبلاد لأول مرة سنة 1895، يعتبر موقعا ايكولوجيا وجيولوجيا متميزا وفريدا من نوعه. إذ يحتضن موقع الثالجة على التركيبة الفسفاطية الكاملة والتي تمثل انفرادا عالميا في هذا المجال. كما يعتبر موقع الثالجة موقعا بيداغوجيا وأكاديميا للتدريس الجيولوجي على نطاق طبيعي. إذ من خلاله يمكن للطلبة والباحثين التعرف بشكل محسوس على كل التركيبات الجيولوجية المرتبطة بالفسفاط. كما يمثل موقع الثالجة اضافة الى هذا الجانب العلمي والدراسي، موقع ايكولوجي هام من خلال وجود حلق الثالجة (Gorge)، وهي عبارة عن فتحات في الجبل الصخري يفتح على وادي الثالجة. هذه الخصائص تجعل من موقع الثالجة مكانا قادرا على استغلاله في السياحة الجبلية والايكولوجية.
المواد القابلة لإعادة الاستعمال والرسكلة
توجد بالحوض المنجمي كميات هامة من الخردة الحديدية، والتي تتكون من الاعمدة الحديدية والسكك التي يتم تعويضها والأسلاك الحديدية التي يتم استعمالها في عمليات الانتاج، إضافة الى مئات المعدات ووسائل النقل التي تم احالة عن الخدمة. اضافة الى مخلفات حديدية متنوعة الأحجام والاستعمالات. ويمكن تقييم كمية هذه الخردة الحديدية التي تغص بها مستودعات الشركة وفضاءاتها المنتشرة في كل المدن المنجمية بحوالي 20 ألف طن من الخردة.
كميات هامة من نفايات الابسطة الناقلة المطاطية والتي تفرزها الشركة. ويمكن القول ان الشركة تمتلك الشبكة الاطول من الأبسطة الناقلة. مما يجعل الشركة تفرز كميات من الأبسطة الناقلة بحوالي 2 الى 3 آلاف طن سنويا. وحسب هذه الدراسة تحتسب الكميات المتراكمة في المستودعات التابعة لشركة فسفاط قفصة بحوالي 15 ألف طن. وتعتبر هذه الكميات قابلة للرسكة والرحي لتتحول إلى مواد محببة قابلة للاستعمال في افران شركات الاسمنت.
إزالة التلوث بمنطقة الحوض المنجمي
حول التلوث الناجم عن نشاط شركة فسفاط قفصة منذ أكثر من 130 عاما، المنطقة الى فضاء بيئي منكوب، عبر الإضرار الكبير بمكونات المحيط والبيئة بكل جوانبها من ماء وهواء ومناظر جمالية عامة وجبال وهضاب. اضافة الى تراكم كميات ضخمة من النفايات والشوائب وفضلات المغاسل على مساحات شاسعة من مدن الحوض المنجمي. لقد شكل التلوث بمرور الزمن عائقا أساسيا للتنمية.
إن شركة فسفاط قفصة مطالبة وبشكل جدي بإعداد وتنفيذ برنامج متكامل لإزالة التلوث الناجم عن نشاطها في إطار تصالحها الفعلي مع محيطها الطبيعي والبشري، من خلال برنامج ازالة التلوث الناجم عن نشاطها والذي تم تقسيمه في إطار هذه الدراسة إلى أربعة أقسام: قسم يتعلق بالمياه الطينية الملوثة وقسم يتعلق بالنفايات الناجمة عن نشاط الشركة والتي يمكن رسكلتها وتثمينها وقسم متعلق بالشوائب ومواقع الإستغلال السطحية وقسم يتعلق بمواقع الإستغلال الباطنية (الدواميس والمغاور).
3. اقتراح مشاريع تنموية
بعدما تبين خلال هذه الدراسة، بأن جهة الحوض المنجمي لا تفتقر الى الموارد الطبيعية ولا الى الماء لكي تحتضن تنمية عادلة ومتوازنة ومتحررة من الفسفاط، فإن التحدي الأكبر يتمثل في كيفية تحول هذه الموارد الطبيعية والطاقات البشرية إلى تنمية حقيقية تقطع مع مركزتها حول مادة الفسفاط، التي تحول من نعمة إلى نقمة على الجهة ككل. إذ لم تعد شركة فسفاط قفصة قادرة على أن تلعب دور المشغل الرئيسي. ولم تكن قاطرة للتنمية بسبب الخيارات والسياسات التي تم اتباعها منذ 1956 كتواصل للسياسات الاستعمارية، والتي انبنت على اعتبار الفسفاط وموارد الجهة المائية ثروة وجب استنزافها وتركها بعد لمصيرها.
لذلك تقترح هذه الدراسة اتباع طريقة اخرى لتأسيس خيار تنموي متحرر من الفسفاط، أكثر تشاركية وأعمق بحثا وأكثر التصاقا بإمكانات الجهة الطبيعية والبشرية من ناحية، وبحاجيات السكان وتطلعاتهم من جهة أخرى. اضافة الى الاخذ بعين الاعتبار الموقع الجغرافي الحدودي لمناطق الحوض المنجمي والذي يمكن ان يكون عاملا مهما في التنمية بالجهة ككل.
في هذا الإطار، وبعد تقديم كل مقومات التنمية بالجهة، وتعديد كل الموارد الطبيعية الموجودة بمناطق الحوض المنجمي، اضافة الى ما يمكن أن توفره شركة فسفاط قفصة من مواد وامكانات تنموية اخرى بعيدا عن الفسفاط، اعتمد الباحث حسين الرحيلي على البعد التشاركي في إعداد مخرجات هذه الدراسة، وذلك بالتحاور مع كل الأطراف المتدخلة في المجال التنموي من بلديات ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني المحلي والجهوي، و القيام باستبيان ميداني، لتقصي ومعرفة رأي عينة نموذجية من سكان مدن الحوض المنجمي حول إشكالات واقع التنمية والمسؤول عنها من ناحية، ومدى معرفتهم بإمكانات جهتهم التنموية في ما عدى الفسفاط ومن الأطراف التي يجب عليها تحمل عبء التنمية في المستقبل حتى لا تندثر هذه المدن بإيقاف استخراج الفسفاط.
الاستنتاجات العامة حول الاستبيان الميداني
بعد معالجة كل المعطيات والإجابات الممكنة بالاستبيان سواء على مستوى تشخيص العينة العامة، أو على مستوى الاستبيانات المتعلقة بكل مدينة منجمية، وبعد تحليل أهم نتائج الاستبيان واستطلاع راي المستجوبين حول أهم الأسئلة الموجهة والتي حاولنا جاهدين ربطها بموضوع الدراسة وأهدافها تم استخلاص الاستنتاجات التالية:
اجمع كل المستجوبين وبنسبة تتجاوز 98 % على غياب التنمية بكل المدن المنجمية. و يتمظهر غياب التنمية بالنسبة لهم بالمدن المنجمية في انتشار البطالة والفقر والتهميش بالمدن، مما جعلها مدن طاردة للسكان. كما بقيت شركة فسفاط قفصة لدى الضمير الجماعي لسكان مدن الحوض المنجمي المشغل الوحيد بالجهة، رغم ان فئة من الشباب المستجوب عبروا على أن الشركة لا تعني لهم شيئا وهو منطقي باعتبار أن هؤلاء الشباب عمرهم من عمر الفترة التي تراجعت شركة فسفاط قفصة عن القيام بأدوارها القديمة التي تمثلت في الدولة.
إضافة إلى اعتبارهم أن الدولة غائبة غياب شامل في هذه المدن وحتى ان وجدت فوجودها دوما يكون عقيم وغير فعال، ويُحمل السكان مسؤولية التخلف التنموي بمدن الحوض المنجمي للسلطة والنقابات والنخب المحلية ولو بنسب متفاوتة، مع إجماع جل المستجوبين على أن شركة فسفاط قفصة ليس لها أي مسؤولية في غياب التنمية بالمنطقة ككل.
كما أجمع المستجوبون اجماع شبه كلي حول إمكانيات التنمية دون أو بعد الفسفاط بمدن الحوض المنجمي، وان هذه المدن لها من الإمكانيات الطبيعية والبشرية ما يمكنها من إنجاز تنمية فاعلة ومنتجة للثروة خارج الفسفاط، مع التركيز على القطاع الفلاحي والمواد الانشائية من رمال وطين وكلس وجبس كمقومات للتنمية بالجهة.
أما دور شركة فسفاط قفصة فيبقى بالنسبة للمستجوبين هاما في تحقيق تنمية بالمدن المنجمية بدون فسفاط، من خلال مشاركتها في انجاز مشاريع تنموية في مجالات جديدة ومتجددة، مع تحميل مسؤولية تمويل التنمية للدولة ثم لشركة فسفاط قفصة باعتبارها تابعة لها، وعدم اعطاء الخواص اي مسؤولية او قدرة على التنمية في الجهة، نظرا لغيابهم سابقا وحاليا، وبالتالي فهم غير قادرين على المغامرة بإنجاز مشاريع في الجهة بمفردهم.
كما اعتبر جزء مهم من المستجوبين بأن الاحتجاج يمثل وسيلة لدفع الدولة للإيفاء بتعهداتها التنموية. وهو ما يعني فقدان الثقة بين الأهالي والدولة وأجهزتها رغم اعتبار الحوار أحد أهم المداخل لتفعيل دور السكان في إنجاح وإنجاز مشاريع تنموية بمدن الحوض المنجمي.
كما بينت النتائج أن ما يجعل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بمدن الحوض المنجمي محكومة بأسس المجتمع التقليدي ومتمركزة حول البعد القبلي والعروشي، هو أن النسب الأكبر للناخبين تنتخب على أساس الروابط الدموية وانتشار العزوف عن المشاركة في الانتخابات وخاصة لدى الفئة الشبابية. واجمع المستجوبون على الدور السلبي للاتحاد العام التونسي للشغل والنقابات التابعة له في تحقيق التنمية بمدن الحوض المنجمي، اضافة الى عدم القناعة بإعطاء أي دور تنموي للسلطة المحلية المتمثلة في المجالس البلدية المنتخبة سنة 2018. ورغم حداثة العمل المدني والجمعياتي بالجهة، فإن أغلب المستجوبين بالرديف وأم العرائس والمتلوي، قد اجمعوا على أهمية أدوار الجمعيات في تحقيق التنمية بالمنطقة. الا بالمظيلة اين اعتبرت نسبة كبيرة من المستجوبين ان لا دور للمجتمع المدني في التنمية. وهذا الموقف يمكن فهمه من زاوية ضعف العمل والحضور المدني بمنطقة المظيلة.
اقتراح مشاريع تنموية بمدن الحوض المنجمي
تقترح الدراسة جملة من المشاريع التي تجد لها مرتكزاتها الفنية والتنموية والطبيعية. وهي مقترحات أراد لها الباحث حسين الرحيلي أن تكون منطلقا لنقاش جدي ومثمر بين كل الفاعلين المحليين خاصة من أجل رسم تصور تنموي متكامل ومتناسق مع الإمكانات الطبيعية المتوفرة والطاقات البشرية الموجودة وحاجيات السكان المباشرة.
تم تقييم الاستثمارات الممكنة لتحقيق بدايات تنمية حقيقية بالمنطقة ب: الاستثمارات المرتبطة بالمواد الانشائية (710 مليون دينار)، الاستثمارات المرتبطة بالفلاحة (55 مليون دينار)، الاستثمارات المرتبطة بالصناعات التحويلية (6 مليون دينار)، الاستثمارات المرتبطة بالمجال البيئي (20.5 مليون دينار).
بالتالي فإن الاستثمارات الجملية الممكنة خلال الخمس سنوات القادمة، تقدر بحوالي 800 مليون دينار. مع خلق حوالي 3000 موطن شغل مباشر وأكثر من 4500 موطن شغل غير مباشر (دون احتساب العدد الحالي لعمال شركات الغراسة والبيئة والذين سيدمجون في إنتاج الثروة الحقيقي بدل منحة البطالة التي يتقاضونها حاليا وتساهم في امتصاص موارد شركة الفسفاط). وهو ما يمكن أن يدخل ديناميكية اقتصادية واجتماعية على مدن الحوض المنجمي، ويحولها من مدن طاردة لسكانها إلى مدن جالبة للسكان واليد العاملة من خارجها. كما يجعلها تتحرر تدريجيا من النمط التنموي المرتبط بالفسفاط فقط.
حتى يكون الحلم ممكنا في تنمية فعلية وحقيقية بالحوض المنجمي، تم اقتراح مجموعة من المشاريع في مجالات متعددة ومتنوعة، ولها ما يبررها طبيعيا وبشريا واقتصاديا وتنمويا واجتماعيا. ولعل تقييم كلفة الاستثمار بحوالي 800 مليون دينار دليل على ان الاقلاع التنموي لا يمكن أن يكون بأقل من هذا الاستثمار.
الخاتمة
ركزت هذه الدراسة على تشخيص واقع مدن الحوض المنجمي والمسار التاريخي لنشأته وارتباط هذه النشأة باكتشاف واستغلال الفسفاط. كما تم التعرض الى شركة فسفاط قفصة ودورها في نشأة وتطور مدن الحوض المنجمي والدور التنموي التي كانت تقوم به حتى منتصف الثمانينات. كما لعبت شركة فسفاط قفصة دور الدولة والشركة في نفس الوقت. فقامت بالتشغيل شبه الكلي لكل طالبيه من سكان الحوض المنجمي. وتحملت أعباء الصحة والتعليم والنقل وخدمات الكهرباء والماء ودعم الرياضة والثقافة والترفيه. كما كانت تقوم بصيانة التجهيزات العامة والجماعية في هذه المدن. انها شركة استثنائية في مدن استثنائية يصارع عمالها الجبال لإنتاج الثروة التي يسافر مردودها خارج الجهة.
لكن ومنذ منتصف الثمانينات، تخلت شركة فسفاط قفصة عن أدوارها الكاملة والتي كانت تقوم بها تجاه مدن الحوض المنجمي وسكانها، تطبيقا لبرنامج الإصلاح الهيكلي الذي شمل جل المؤسسات العمومية الناشطة في المجال الإنتاجي التنافسي. فكان هذا التخلي المفاجئ وغير المدروس لدور الشركة الأثر البالغ في خلق فراغ تنموي واجتماعي كبير. كما غابت الدولة واستثماراتها العمومية تماما بعد تراجع دور شركة فسفاط قفصة. فتحولت هذه المدن بداية التسعينات الى فضاءات كبرى للمتقاعدين والمهمشين والجريمة المنظمة وتجارة الحدود (الكنترة).
وحتى تبقى شركة فسفاط قفصة ارثا وطنيا قادر على الانتاج لصالح كل التونسيين من الشمال الى الجنوب، فانه بات من الضروري ان تتحرر المنطقة من سطوة الفسفاط وان تبحث لها عن إمكانات وموارد تنموية موازية له، وبذلك تصبح التنمية بالحوض المنجمي متوازنة ومتطابقة مع كل إمكاناتها بما فيها الفسفاط وليس الفسفاط لوحده.
وبعد استعراض البحوث والدراسات الجيولوجية والتنموية والاقتصادية التي أنجزت بالمنطقة، اضافة الى اللقاءات التي شملت كل الأطراف المتدخلة في المجال التنموي بمدن الحوض المنجمي، ومن خلال الاستبيان الميداني الذي أنجز في إطار هذه الدراسة، تبين ان الامكانات الطبيعية متوفرة وان المنطقة تزخر بالطاقات البشرية. الا ان التخلف التنموي كان إفرازا حتميا للقرارات السياسية الظالمة تجاه المنطقة من طرف السلطة طيلة عقود، في تحالف واعي وغير واعي مع النخب المحلية الانتهازية، والسلوكيات النقابية الزبونية، والبنية العروشية ومبدأ الروابط الدموية. مما حول التخلف التنموي بمناطق الحوض المنجمي الى معضلة هيكلية متعددة الأطراف والأبعاد.
رغم كل ذلك، فإن السكان أكدوا من خلال الاستبيان على أن التنمية بدون الفسفاط ممكنة، وأن الجهة تمتلك مقومات طبيعية وبشرية هامة تجعلها قادرة على أن تكون قطبا تنمويا متنوعا ومنفتحا على البلاد وعلى دول الجوار في إطار تصور تنموي جديد تكون الدولة ومؤسساتها العمومية والمالية قاطرة لهذه التنمية. ذلك أن القطاع الخاص في الحوض المنجمي ليس موجودا وليس له تقاليد الاستثمار.
كما تؤكد هذه الدراسة على أن الفسفاط في المرحلة القادمة لن يكون نقمة على المنطقة بل يجب ان يتحول الى نعمة ودافعا لتنمية بدونه. حتى تتحرر شركة فسفاط قفصة من صورتها النمطية الشركة – الدولة، وتعود الى وظيفتها كشركة عمومية تعمل من اجل ان توفر الثروة لميزانية الدولة. وعلى الدولة ان تقوم بدورها كاملا في الجهة كما تقوم به في جهات اخرى من البلاد.
فتنمية مع الفسفاط وبعده ممكنة، إذا كانت الإرادة السياسية موجودة وإذا غير حكام تونس نظرتهم لشركة فسفاط قفصة من شركة بقرة حلوب إلى شركة عمومية تعمل في قطاع تنافسي مطالبة بأن تنجح وتراكم الثروة للشعب كله من الجنوب الى الشمال.