سياسات التأشيرة وصدمات منع التنقّل

يوليو 2024
بحث من قبل وائل القرناوي
تحميل المنشور

سياسات التأشيرة وصدمات منع التنقّل


الترجمة : سمر الرغندي
التصميم و الرسوم : ياسين الورغمي

 

يولد الإنسان حرًا. ولا يشيع هذا التأكيد في الفلسفات الحديثة والأديان القديمة وحسب، بل أيضاً في النقد السياسي لحالتنا الحديثة والمعاصرة.  ومما لا شك فيه انبثاق هذا التأكيد العام من «تلقائية» اعتبار كافة المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان حقّ التنقل حقّا أساسيا. بيد أنه لا بد من القول إن الدول الغنية التي استحالت حصونا تتجاهل البعد الذاتي للهجرة وتقمع النزوع الذي يدفع الإنسان إلى التنقل إلى مكان آخر. هذا هو ” دافع الرّحيل “** (Pulsion Viatorique) الذي عرّفه جيرار حداد Gérard Haddad على نحو دقيق بأنه النزوع الذي ”يدفعنا إلى السفر تلبية لنداء المجهول والآخر والأماكن“ والذي يستدعي المكان بوصفه قضية وجودية وناقلا للذاتية [1].

كان التونسيون في ما سبق الاستعمار الفرنسي لتونس في العام 1881 من رعايا إمبراطوريات ما قبل الدولة وكانوا يتمتعون بحرية السفر إلى المناطق المجاورة في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط وحتى الصين. وفقد التونسيون تدريجيًا منذ العام 1881 فصاعدًا “دافع الرّحيل” ذاك نتيجة التعقيدات البيروقراطية والبوليسية والحدودية. فأصبحوا بذلك محصورين أو محكومين بالحدود التي أنشأتها القوى الاستعمارية. وعلى الرغم من أن الاستعمار خلق حدودًا وطنية ثابتة بشكل متزايد، إلا أنه تم الحفاظ على شكل من أشكال الحرية من خلال واقع الانتماء إلى الإمبراطورية الاستعمارية التي لم تحظر التنقل بشكل نهائي داخل فضائها رغم انتقائها للسكان واعتمادها لتسلسل هرمي لأقاليمها. واستعاد التونسيون حريتهم في التنقل بين بلدهم والحواضر الاستعمارية السابقة عند حصولهم على الاستقلال؛ لقد أعادوا بذلك اكتشاف طبيعتهم الإنسانية المندفعة ليتمتعوا بحرية التنقل مع قيود إدارية أقل في شكل أسفار بغرض الدراسة بالخارج أو للعمل أو السياحة أو زيارة أحد أفراد العائلة، وكذلك السفر للتداوي أو [لحضور مناسبات] رياضيّة، وما إلى ذلك. وإنّه ليصير من الضروري التذكير بهذه العموميات عندما نعلم حقيقة التعقيدات والحظر المفروض على السفر اليوم؛ إذ تخضع الأسباب الأكثر شيوعًا للسفر من قبيل ”المشاركة في حدث رياضي“ أو ”الحصول على الرعاية الطبية“ للحظر.

تعطلت حركة تنقّل التونسيين منذ العام 1995 عندما تم إنشاء منطقة شنغن بسبب شرط الحصول على تأشيرة، وهو شرط مسبق ضروري للسفر إلى الضفّة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط. وأضحى شعار “بحرنا  Mare nostrum” بمثابة الغريب العظيم الطارد لسكان جنوب البحر الأبيض المتوسط. وتصير الحدود الطبيعية طبقة سياسية تتحول تدريجيًا إلى علامة تدنيس.  وحتى لو أمكن الحصول على هذه التأشيرة النادرة بمعجزة إدارية، فإن الدافع الطبيعي للرحيل سيكون قد تحطّم بشكل نهائي.

يتناول المقال التالي الأثر النفسي الذي أسميه ”صدمة منع التنقّل“ والذي يصيب المستعمرات القديمة عندما تُغْلَقُ الحدود السياسية. وتُعتبر الحالة التونسية مثالًا على العنف النفسي الذي يعاني منه المجتمع بأكمله في مواجهة الحدود في لحظة التسييس عبر إغلاق الحدود. وسأباشر هذه الصدمات من خلال منظور الروابط العائلية بين الأشخاص الذين هاجروا وأفراد عائلاتهم الذين بقوا في تونس ومُنعوا من السفر. كما سأشير إلى مقابلات أجريت كجزء من مشروع بحثي جديد حول سياسة الحدود الجديدة.

 

كيف تكشف سياسة الهجرة تلك عن الصدمات الفردية والجماعية؟ وكيف يصير نظام الحدود كائنًا يؤثر على الحميمية ويبدّل النظام الاجتماعي؟
التوتّر والصدمة والانسحاب والخجل والغضب والاحتجاج

 

ينبغي قراءة هذا المقال كتعليق على مقابلة. لقد اختيرت هذه المقابلة من بين عشرات المقابلات التي أجريت كجزء من دراسة جارية حول آثار تشديد الحدود La frontiérisation على سكان المستعمرات السابقة، أي تونس والمغرب في هذه الحالة. وتنقل [المقابلة] واقع الطبقات الوسطى التونسية في معاناتها مع إجراءات طلب التأشيرة؛ لتكون هذه المقابلة إلى ذلك محورية في تثبيت ما يسعى تحقيقنا الموضوعي في تونس إلى تأكيده حول عمليات استبطان الحدود. فهي تحدد المراحل الخمس التي تمر بها عائلات الطبقة الوسطى التي تُرفض مطالبها في الحصول على تأشيرات تمكّنها من زيارة فروعهم وأصولهم المستقرين في الغرب؛ التوتّر الناجم عن الانتظار والصدمة الناتجة عن الرفض والانسحاب والخجل والغضب وأخيراً الاحتجاج/اليأس. ويمكن الإشارة إلى هذه المراحل باسم ”صدمة منع التنقّل“. كما سنركز أيضًا على تأثير رفض التأشيرة على عائلات الطبقة الوسطى والثريّة في تونس[2].

وقد لاحظنا في أعمالنا السابقة كيف أن الرغبة في عبور حدود البحر الأبيض المتوسط كانت مدفوعة بظهور المنع والترتيبات البيروقراطية الجديدة التي تنظّم الهجرة[3]؛ إذ نادرا ما لُوحظت الرغبة في المغادرة والاستقرار بشكل دائم في أوروبا قبل العام 1995. وأفضت سياسة لمّ شمل الأسرة التي انطلقت مع بداية الثمانينيات إلى ظهور موجات كبيرة من الاستيطان واسع النطاق في الوقت الذي برزت فيه داخل البلدان المضيفة استعدادات لترسيخ الانغلاق والانتقاء في مواجهة الهجرة. ولم تظهر رغبة المهاجرين في الاستقرار بشكل دائم في أوروبا إلا بعد عملية شنغنة Schenguenisation[4] منطقة البحر الأبيض المتوسط وظهور ثقافة شنغن الأمنية[5].

وضع الاتحاد الأوروبي منذئذ سياسة الجوار الأوروبي التي قدّمت طريقة جديدة لإدارة الحدود، ممّا ساعد على تغيير التمثّلات من حيث الضيافة والغيريّة. وتؤيّد هذه السياسة المتناغمة مع الصعود الملحوظ للأحزاب اليمينية المتطرفة التي تنشط الآن في العديد من الحكومات الأوروبية رؤية يتم بموجبها اعتبار سكان المستعمرات السابقة أشخاصًا غير مرغوب فيهم (personae non gratae).
وتمثّل المراحل الخمس التي يمر بها التونسيون من الطبقة الوسطى الذين رُفضت تأشيراتهم صدمة تترسّخ على مقاييس يجب أن يقيسها تحقيقنا قبل التفكير في مخرج من هذه الوضعيّة. وتسم هذه المراحل الخمس وهي التوتر الناتج عن انتظار التأشيرة والصدمة الناجمة عن الرفض والخجل والغضب والاحتجاج تجربة جماعية وفردية في ذات الآن؛ فهي تجربة جماعية من حيث أنها معاشة من قبل جميع طالبي التأشيرات الذين تم رفضهم ومنعهم من التنقل، أي أولئك الذين استوفوا شروط الاختيار وتمكنوا من إثبات براءتهم من جريمة الحرقة. وهي تجربة فردية بمعنى أن كل ”مرفوض“ يواجه العواقب الوخيمة للرفض، ولا سيما العائلات التي تم فصلها عن أطفالها المهاجرين دون إمكانية أن يتنظّموا سياسيًا وجماعيًا.

لنذكّر أولا بالوضع العام ”للمشكلة“ في ما سبق سياسة الشنغنة الجديدة قبل إضاءة هذا الوضع من خلال المقابلة التي أجريت مع عائلة السنوسي[6]. لقد كان الحصول على التأشيرات متمايزًا وفقًا للفئات الفرعية والاجتماعية والاقتصادية في السابق؛ إذ سهّل حقّ لم الشمل الذي كان مكفولاً للمتزوجين التنقل رغم الشكوك المتزايدة في الزيجات الصورية. كما سيتم توسيع نطاق هذا الحق نفسه ليشمل الفروع والأصول دون صعوبات واضحة. وعلاوة على ذلك، لم يكن الحصول على التأشيرة صعبًا بالنسبة لجميع الفئات الاجتماعية، إذ لم تواجه الطبقات الوسطى بشكل خاص [مشاكل في ذلك السياق] وهي المتكوّنة أساساً من الموظفين الحكوميين الذين تربطهم صلات مؤسسية بالدولة التونسية، كما لم يكن للطبقات الميسورة ورجال وسيدات الأعمال بشكل عام مشاكل في الحصول على التأشيرة في هذا الإطار. بل سيؤثر  رفض طلبات التأشيرة بالأساس على الفئات الأكثر هشاشة والتي تمثّل رد فعلها في تبني ممارسة أضحت أكثر خطورة نتيجة للتدابير التكنولوجية والبوليسية القمعية المتزايدة، مما دفعها إلى سلوك طرق محفوفة بالمخاطر. وقد اختارت هذه الفئات المغادرة (الهجرة) السرية في حاويات الشحن أو السفن أو المراكب الصغيرة المتهالكة لبلوغ الضفّة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.

وتجدر الإشارة هنا إلى عامل رئيسي يضاف إلى مسار “الشّنغنة” schenguenisation الجاري بالفعل، ألا وهو الوضع الاستثنائي الدولي الذي فرضته إدارة جائحة الكوفيد ـ 19 في العام 2020؛ لقد كان لذلك أثر جد ّمهمّ أفضى إلى تفاقم عمليّات الفرز والمنع المفروضة على الحركة والتنقّل. ويتأثر السفر داخل الدولة إلى حد كبير بالتدابير الأمنية التي تقيد حرية التنقل في العموم. وينبغي فهم عمليات الإغلاق الشامل المفروضة في ربيع 2020 والاعتماد واسع النطاق للعمل عن بُعد فضلاً عن إغلاق عدد من المصانع وشركات الإنتاج لا بصفتها تدابير للسلطة الحيوية بالمعنى الفوكوي وحسب، بل أيضاً بوصفها مختبرا للسياسات العامة من حيث القدرة على إنتاج وتطبيق وتوسيع نطاق التدابير المقيدة للحركة والتنقّل؛ إذ تم تعطيل السفر لمسافات طويلة بشكل تدريجي بسبب إغلاق الحدود والقيود المفروضة على التنقّل. وقد دفعت هذه الفترة الاستثنائية العديد من الجهات الفاعلة إلى إلقاء نظرة متعمقة وفاحصة لنظام التنقل وأنماط حياتنا[7]. وظهرت سلوكيات فردية وجماعية جديدة ووُضِعَتْ سياسات عامة لاستباق التغييرات التي ستعقب الجائحة في إطار ما سَيُعْرَفُ بـ ”العالم ما بعد الجائحة“. ومع ذلك، فإن قضية الحدود بالنسبة للأجانب هي التي ستبرز في طليعة السياسات القمعية التي ظلت سارية بعد الجائحة والقيود المرتبطة [بحفظ] الصحة العامة.

 

وبالفعل، أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان في هذا السياق في 29 سبتمبر 2021 عن تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين التونسيين بنسبة 30% مقارنة بالعام 2020 وتخفيض بنسبة النصف بالنسبة للمغاربة والجزائريين وذلك بسبب رفض هذه الدول إصدار التصاريح القنصلية المطلوبة لعودة المهاجرين الذين تم إبعادهم من فرنسا. وهدفت الحكومة الفرنسية بذلك إلى ”دفع الدول المعنية إلى تغيير سياستها والموافقة على إصدار تصاريح قنصلية“[8]. وصرّح المتحدث الرسمي السابق باسم الحكومة غابرييل أتال في الوقت نفسه بأنهّ ”قرار صارم وغير مسبوق، بيد أنّه قرار صار ضروريًا بسبب عدم موافقة هذه الدول على استعادة مواطنيها من الذين لا نريدهم ولا يمكننا إبقاؤهم في فرنسا“[9].
يقودنا هذا الوضع غير المسبوق إلى تشكيك جماعي في فرضية التقييد المستمر لحركتنا الذي لطالما استندت إليه سياسة الهجرة. كما يجعلنا نعتقد أن رفض منح التأشيرة قد استحال إلى صدمة تؤثر على الأشخاص الذين كان لهم الحق في السفر والتنقّل سابقًا.

 

 

[1] Antonietta Haddad, Gérard Haddad, Freud en Italie : Psychanalyse du voyage (أنطونييتا حداد، جيرار حداد، فرويد في إيطاليا: التحليل النفسي للرحلة) Paris, Albin Michel. 1995.

[2] يكمّل هذا المقال أعمالا سابقة تتناول عواقب “شنغنة” (schenguenisation) البحر الأبيض المتوسط على الشباب التونسي. وهو يكمّل بذلك دراسة عائلات الموتى والمفقودين في البحر دراسة الدوافع اللاواعية لعبور البحر. انظر وائل القرناوي، ” الحرقة والرغبة في الغرب في زمن الجهاد” Harga et désir d’Occident au temps du djihad، مجلة Recherches en psychanalyse، المجلد. 33، العدد 1، 2022، ص 81 ـ 95. انظر أيضًا: وائل القرناوي، “تصدير الحدود الأوروبية وسياسات الهجرة التونسية: سيكولوجية التأثيرات الاجتماعية والسياسية Externalisation des frontières européennes et politiques migratoires tunisiennes : une psychologie des impacts socio-politiques ، مجلّة  Confluences Méditerranée،المجلد 125، العدد 2، 2023، ص 107 ـ 122.

[3] وائل القرناوي، الحرقة والرغبة في الغرب: دراسة تحليل ـ نفسية للمهاجرين التونسيين غير الشرعيين Harga et désir d’Occident. Étude psychanalytique des migrants clandestins tunisiens ، منشورات نيرفانا، تونس 2021.

[4] روبن زايوتي، “انتشار الأمن: أوروبا وإضفاء الطابع الشنغن على سياسة الجوار” Ruben Zaiotti, « La propagation de la sécurité : l’Europe et la schengenisation de la Politique de voisinage » ، مجلّة Cultures & Conflits، 66 | 2007، ص 61 ـ 76.

[5] نفس المرجع السابق.

[6] تم تغيير الاسم لأسباب تتعلق بإخفاء الهوية الحقيقية.

[7] وائل القرناوي وحسام بن لزرق، 2020، “مفارقة جواز السفر وعدالة منع التنقّل” The Passport Paradox and the Advent of Immobility Justice، جمعيّة Resetdoc، 8 جوان/يونيو 2020.

[8] صحيفة لوموندLe Monde : “تشدد فرنسا “بصرامة” منح التأشيرات للجزائريين والمغاربة والتونسيين” Immigration : la France durcit “drastiquement” l’octroi de visas aux Algériens, Marocains et Tunisiens، 28 ـ 09 ـ 2021.

[9] صحيفة ليبيراسيون Libération، “المغرب والجزائر وتونس: فرنسا ستشدد إجراءات منح التأشيرات” Maroc, Algérie et Tunisie : la France va durcir l’octroi des visas،28  ـ 09 ـ 2021.