حرية التعبير في ليبيا؛ أصبح الصبح
حرية التعبير في ليبيا؛ أصبح الصبح
“في تلك الفترة اضطررت حينها للهروب إلى تونس بعد أن وصلتني تهديدات جدية باعتقالي وربما قتلي، قبلها بيوم تم اختطاف كاتبان ممن ساهما في الكتاب ووقع تعذيبهم بشكل وحشي”. يتحدث “علي” اسم مستعار لكاتب ليبي ساهم في كتاب شمس على نوافذ مغلقة الذي وقعت مصادرته وواجه جميع المساهمين فيه مآلات كارثية. ويضيف بوجع وألم؛ “لم أعد إلى ليبيا إلا بعد سبعة أشهر عندما طوى النسيان الحادثة، وحتى هذه اللحظة، لا أحس بالأمان، أشعر أنني مهدد مع كلمة أكتبها أو كتاب أطبعه أو مقال أنشره، نحن نعيش وسط فوضى، ولا يمكننا التنبؤ بأي شيء”.
بهذه الكلمات يصف علي، كاتب وناشر ليبي ما واجهه من عواقب وخيمة بعد مساهمته بقصة في كتّاب “شمس على نوافذ مغلقة” الذي وقع إصداره سنة 2017 بهدف نشر مدونة لقصص تحتفي بإبداعات كتاب ليبيين وليبيات. إلا أن مقطع من الكتاب يحمل عبارات اعتبرها البعض “استفزازية” وقع تداوله ونشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي حال دون ذلك وأدى الى سلسلة من التهجّم على الكتاب، ليقع سحب الكتاب وحجبه واعتقال عدد من المساهمين فيه وهرب الباقي منهم خارج ليبيا بعد فتاوي دينية وحملة اعتقال شنّتها الميليشيات وسط صمت أجهزة الدولة، لتكشف هذه الحادثة عن واقع حرية التعبير في ليبيا، الذي لم تفلح لا الثورة ولا فترة الانفتاح النسبي التي شهدها المجتمع بين سنتي 2011 و2013 في خلق واقع مغاير للذي كان قبل الثورة.
حرية التعبير في ليبيا؛ التاريخ يعيد نفسه
تبدو الرقابة والصنصرة والحجب سياسات ملازمة لتاريخ ليبيا الحديث، فعلى الرغم من المجهودات التي بذلتها المملكة الليبية في عهد الملك إدريس من أجل نشر التعليم والثقافة، إلا أن حرية التعبير والصحافة بقيت خارج اهتمامات الدولة وأولوياتها حيث كانت محدودة ومهمّشة ولكن حتى ذلك الهامش الضئيل الذي سمحت به المملكة اندثر بعد سنوات وابتلعه ثقب الديكتاتورية الأسود، خاصة في عهد العقيد الراحل معمر القذافي، الذي أحكم قبضته بشكل كامل على ليبيا، قبضة طالت كل المجتمع، ولم تكن الثقافة بمعزل عنها.
نهاية سنة 1969، ومع تولي القذافي زمام السلطة في ليبيا قام بإصدار الكتاب الأخضر الذي يمثل أيديولوجيا الدولة الرسمية، خلق الكتاب الأخضر حدودا لما يجب الكتابة أو الحديث عنه وقام بترسيخ أطروحاته بشكل جلي في النظام التعليمي بهدف خلق جيل موالٍ له بشكل كامل، في سبيل تحقيق ذلك، قام النظام بحملات تطهير ضد ما أسماهم “الخونة”واستهدف منذ البداية النخب السياسية والثقافية، سواء الطلبة او المعلمين أو الصحفيين، وتم اعدام الكتاب والنشطاء والشعراء في محاكمات شعبية، حتى أن بعضهم وقع إعدامهم وسط الجامعة وأمام أنظار الطلبة. دخلت حينها ليبيا نفقًا مظلمًا من الديكتاتورية والقمع والحجب والصنصرة، وباتت طباعة الكتب تخضع بشكل مسبق لموافقة مؤسسات الدولة ودفع جيل كامل من المثقفين الليبيين حياتهم ضريبة تعبيرهم عن آرائهم.
تدريجيا بنى القذافي جيلا من الموالين والمتعصبين له، خاصة في صفوف الناشئة وصغار السنّ وذلك بسبب الدغمجة الممنهجة التي تعرض لها الليبيون في المدرسة والمؤسسات التعليمية، تستحضر الصحفية والناشطة النسوية الليبية غدي كفالة ذكريات المرحلة الابتدائية والاعدادية والدغمجة التي كان يقع تسليطها عليهم من قبل النظام التعليمي؛ “أسوأ ما تعاني منه ليبيا هي نتائج تعليم القذافي، لا يتعلّق الأمر بجودة التعليم ولكن بمضمون التعليم، في السابق وخاصة سنوات الاستقلال الأولى، كانت لدى المملكة الليبية ملامح نظام مؤسساتي واضح التفاصيل كان التعليم متنوع وثري مع تخصصات مختلفة، من مساوئ تعليم المملكة أن التعليم خلق فوارق واضحة ولكنها فوارق اختيارية، أي أنك مسؤول عن اختيارات في مواصلة تعليمك أو الحصول على تعليم غربي بدل تعليم الدولة، ولكن مع وصول القذافي خلقت اشتراكية الدولة مجتمع متساوٍ، في الجهل والتعصّب، كل شيء كان مصدره الدولة، التعليم والثقافة والفنون والملابس والأكل، يمكن أن تجد شخصًا من غرب ليبيا وشخًصا أخر من شرق ليبيا من خلفيات اجتماعية مختلفة وفئة عمرية مغايرة يحملون نفس الوعي السياسي، لأن الدولة كانت المصدر الوحيد للوعي والثقافة والذي كان مصدرها تحديدًا الكتاب الأخضر”. تتسائل كفالة؛ “مذا تنتظر، الأطفال فئة هشة للغاية بأدمغة اسفنجية ضف عليها سياسات التلقين اليومية التي نتلقاها من المعلم”.
فكرة يؤكدها الروائي الليبي محمد النعاس حيث يقرّ بذلك؛ في عام 1996 التحقت بمدرسة حكومية. أول شيء تعلمته كان “الهتاف للعلم الأخضر”، وهي ترنيمة ننشدها قبل رفع العلم الليبي الأخضر. ينصّ الهتاف على “حقيقتين” بطريقة أورويلية: الألوان الزرقاء والحمراء والصفراء والسوداء هي ألوان الدمار واليأس، أما اللون الأخضر فهو لون الأمل، الحياة، وحتى الجنة. لا توجد إشارة إلى ما تعنيه الألوان الأربعة الأولى: بينما الأخضر يعني الجماهيرية. إذا كان لي أن أخمن، فإن اللون الأزرق قد يشير إلى الرأسمالية الأمريكية، والأحمر إلى الشيوعية السوفيتية، والأصفر إلى الشيوعية الصينية، والأسود إلى الدولة الإسلامية.
يضيف النعّاس في ذات السياق؛ كل يوم بعد تدريب صباحي يشبه تدريب الجنود، بينما نهتف بأننا ثوار ومناضلين من أجل الحرية، يتم اختيار طفل بشكل عشوائي لتوجيه “الهتاف للعلم الأخضر”، بينما كان الأطفال الآخرون يقفون ويحيون العلم الأخضر. كان الطفل المختار يسألنا “من نحن؟”، لنجيب، “نحن جيل الفاتح العظيم” – تشير عبارة الفاتح العظيم إلى انقلاب 1969 – وننطق بهتافات ثورية أخرى تدربنا على ترديدها. يجب حفظ هذا لأنه في يوم من الأيام سيتم اختيارك أيضًا.
القمع يكشّر عن أنيابه
على مدار عقود نجح القذافي في بناء جيل موالٍ له بشكل نسبي، ابتلعت الدولة كل شيء ورسمت خطوطا لا يمكن تجاوزها، يوما بعد يوم، شهر بعد شهر وسنة تلو الأخرى، كانت تلك الخطوط تتقلّص وما كان مسموحًا به قبل سنوات في حكم القذافي بات ممنوعًا، عاش قطاع النشر تدهورًا كليًا. “كان يكفي أن يكون العنوان الكتاب غير متناسق مع مزاج اللجان الشعبية أمرًا كافيًا حتى يتم الزج بك في السجن” يتحدّث عثمان، كاتب وناشر ليبي خيّر التحفّظ على هويته.
بدأت اللجان الشعبية والمخابرات تمارس قيود قاتلة على النشر والثقافة، منعت من خلالها الصحف والإذاعات الخاصة من الإنشاء والظهور، وقيدت الأقلام في الصحف العامة وامتلأت السجون بالصحافيين والكتاب، وبات من المستحيل نشر رواية أو كتاب إلا بعد أن تمر على الرقابة، مرة قبل طباعتها، ومرة أخرى قبل إصدارها، وفق أحكام قانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972، قانون قام بإصداره الأمن الداخلي رفقة رجال من المخابرات ولجنة الأوقاف ومشائخ متشددين.
لاحقًا سجن العشرات من الكتّاب والروائيين بسبب أعمالهم، بحسب ما رصدته الصحفية نهلة العربي التي تعدد أمثلة على ما يتعرض له المبدعون في ليبيا، مثل الشاعر محمد الشلطامي الذي كان ضيفا دائما في سجون القذافي، فسجن أكثر من مرة نتيجة لقصائده الثورية الداعية لسقوط انظمة الاستبداد والطغيان والممجدة لثورات الشعوب. كما سجن الكاتب منصور بوشناف 14 عام بسبب كتابته لمسرحية « عندما تحكم الجرذان »، ومنعت روايته « سراب الليل » عام 2008 والتي حملت اسم « العلكة » بعد ترجمتها إلى الإنجليزية العام 2014. أما القاصّ أحمد يوسف عقيلة فقد طال الحظر قصة من مجموعته القصصية « الخيول البيض » العام 1999 وهي بعنوان « نظريات ».
ويقول عقيلة عن سبب المنع “هو العنوان « نظريات »، لم يكن هناك في ذلك الوقت سوى نظرية واحدة”، في إشارة إلى النظرية العالمية الثالثة لمعمر القذافي وحتى الروايات التي تشهد نجاحا عالميا وتكتب باللغة الإنجليزية كلغة أولى للكاتب وتكتسب جوائز رفيعة طالها المنع والإقصاء. فرواية « في بلاد الرجال » للكاتب هشام مطر التي ترشحت ضمن ست روايات للقائمة النهائية لجائزة «بوكر» الأدبية لعام 2006 و ترجمت ل 29 لغة، كانت محظورة من التداول في بلاده كونها تتحدث عن اختطاف والده من قبل مخابرات القذافي.
أما الكاتبة الليبية نجوى بن شتوان فتسببت قصتها «فخامة الفراغ» في استدعاؤها للتحقيق معها في نيابة الصحافة. ولم تنج الكاتبة رزان المغربي أيضا من التحقيق حيث كان العام 1998 هو تجربتها الأولى مع الرقابة بسبب قصتها الساخرة «فئران التجارب». ولم تمنح الرقابة موافقتها أيضًا على كتاب « سجنيات » للقاص والمترجم عمر الككلي العام 2010، وهو عبارة عن نصوص سردية حول تجربة الحياة داخل السجن، وقضى الككلي ما يقارب عشر سنوات في سجون الرأي في عهد القذافي. وأيضا منع مجلة عراجين الثقافية من التداول في ليبيا.
“كلفّني النشر والكتابة بيع منزلي أواخر سنة 2009” هكذا تتحدث الروائية الليبية نجوى بن شتوان، وتتابع؛ “كل شيء كان كارثيًا للغاية، نعيش في وسط غابة ثورية يستغل فيها الأشخاص سلطاتهم كما يريدون، تم زرع طلبة من المخبرين والجواسيس في المحاضرات التي القيها، والمضايقات استمرت في عملي في الجامعة، حيث منعت من استلام رئاسة القسم وسلمت لشخصية أخرى موالية للنظام، بعد أن قام وزير الإعلام والثقافة حينها نوري الحميدي بتقديم شكوى ضدي، لم يكفهم ذلك فتم منعي من تقديم المحاضرات وأغلقت أبواب علي انا وطلبتي فقط، حاولت حينها التظلّم للكلية التي أشتغل فيها، ولكن عميد كليتي كان شخص بارز في حركة اللجان الثورية أو ما يطلق عليهم “دفعة وارسو” وهم الطلبة الثوريون الذين كافأهم النظام بإرسالهم للدراسة في الدول الشيوعية للحصول بسهولة على مؤهلات عليا يتقلدون في ضوئها بسهولة المناصب في ليبيا. أغلبهم اشترى شهادات الدكتوراه بدون أي رصيد علمي وجاؤوا لليبيا ونصبوا الكراسي والمسؤوليات”.
هكذا إذن، بُنيت دولة العقيد على أسس واضحة جداً، هي الفكر الواحد واللون الواحد والمنهج الواحد الذي لا بديل عنه، دولة العقيد التي ألغت الدستور وأفرغت مؤسسات الدولة، عطلت الأحزاب السياسية والتعددية الفكرية، وغيّبت مؤسسات التنمية المكانية والاقتصادية والحقوقية، واستبدلتها بأجسام هزيلة تخدم النظام وحده
2011، بداية التغيير
لحظة 2011، تجرّأ الليبيون على الكلام، لأول مرة رفعت الأصوات عاليًا وتحدث الليبيون بحرية خارج الضوابط التي يفرضها النظام، واجه العقيد تلك المظاهرات بالأسلحة الثقيلة، تحولت الثورة السلمية التي طالبت بالحرية إلى سلسلة من العنف الجماعي والحرب الاهلية والمجازر، حاول حينها النظام تخوين المتظاهرين، في ذات الوقت كان اعلام القذافي في فترته الاخيرة يحاول ترويج صورة حول الشعب الليبي على صعيد لا فقط محلي ولكن إقليمي ولدى باقي الدول العربية، أن الليبيين جاحدون لنعمة القذافي وما كان يوفره من رفاهية لهم وأن حرية التعبير لن تفييدهم بشيء، ولكن كسر الليبيون تلك الصورة وكسروا العزلة التي فرضت عليهم، في تلك اللحظة بالذات اكتشف الليبيون بعضهم بعضًا، واكتشفوا أن هناك كتب ووعي سياسي آخر وثقافة مغايرة وهويات اثنية متنوعة مثل الامازيغ والتبو، يشبّه ادريس، ناشط سياسي ليبي تلك اللحظة بأنها أشبه بالنشوة “كانت حلمًا، اكتشفت ان الجيران الذين يقطنون قبالة منزلنا أنهم أمازيغ ويتحدثون اللغة الامازيغية” بات الليبيون يكتشفون بعضهم، والأهم من ذلك يكتشفون اختلافهم، على ضوء ذلك أصدرت الكتب وتأسست الاذاعات والمجلات، عاشت الحياة الثقافية زخمًا حينها، ولكن لم يدم ذلك طويلًا “مثل الحلم الذي ينتهي سريعا، انتهت أحلام الليبيين سنة 2013” بحزن وأسى يصف ادريس ذلك”.
تحولت تلك الثورة الى حرب أهلية، رفاق الأمس تفرقوا بين أيادي سبأ، وأصدقاء المظاهرات تحولوا الى أعداء والمثقفون الذين دافعوا عن الحرية ودفعوا ثمنها باتت أبواق لسلط مختلفة، انقسمت ليبيا وباتت مساحة البلاد الشاسعة جغرافيا غضب وقمع، كل رأي كان بالضرورة يعجب أحد الأطراف ويثير سخط أطراف اخرى وعاد القمع ولكن هذه المرة ليس قمع دولة، ولكن قمع الميليشيات والقبائل والتنظيمات الارهابية. وبات الكتاب الذين يعانون من قمع الدولة سابقًا، يعانون معاناة مضاعفة هذه المرة، قمع الدولة وقمع المجتمع واسست ليبيا ما يمكن أن نطلق عليه “الاستثناء الليبي” حيث باتت استثناء في مسألة حرية التعبير لا فقط مقارنة بالدول المحيطة بها، وإنما على مستوى أوسع، رغم أن القمع والرقابة هي سمة ثابتة في المنطقة العربية، إلا أنّ ليبيا تؤسس نهجًا مغايرًا في الرقابة، وهي الرقابة المجتمعية، رغم مساوئ المدونة القانونية والتي تقيّد بشكل واضح حرية التعبير إلا أنها – على مساوئها- توضّح حدود حرية التعبير وأي المواضيع التي يجب عدم الخوض فيها مثل المسألة الدينية أو باقي التابوهات، ولكن الرقابة الاجتماعية بمكوّناتها المختلفة تأتي كجسم سلطاوي هلامي، لا يمكن التنبؤ بردود فعله، تشير غدي كفالة بأن هذا من أكبر مشاكل ليبيا الحالية؛ أحيانا أكتب مقال حول ظاهرة سياسية تمسّ السلطات ولا تشكّل أي خطر على سلامتي ولكن عندما اكتب عن موضوع محلي للغاية أواجه حملة من التشويه وسيل من التهديدات، تضيف كفالة؛ عندما نتحدث عن موضوع حرية التعبير في ليبيا، فهو شيء متغير وغير ثابت ويخضع لعوامل اجتماعية وسياسية، حيث أن المسألة معقدة للغاية وتتقاطع مع عنصر مهم جدا وهو الهيكلية القبلية. الهيكلية القلبية هنا ليست مثلما يقع الترويج لها في الإعلام كأنها تركيب بدوي يقوم على الأشخاص بدون نظام، على العكس من ذلك، القبيلة هي مجتمع يمتلك قرارات مصيرية وغطاء اجتماعي مهم جدا، والعنصر القبلي ساهم بشكل سلبي للأسف في تأثير حرية التعبير وهذا ما عشته شخصيًا عندما ساهمت في كتاب شمس على نوافذ مغلقة.”
شمس على نوافذ مغلقة؛ عندما تكون الكتابة جريمة
يعد كتاب شمس على نوافذ مغلقة عنوانًا لواقع حرية التعبير في ليبيا بعد الثورة حيث كان من المفترض أن يكون هذا المنجز الذي بلغ حجمه أكثر من 500 صفحة والذي ضمّ الرواية والقصة والشعر وساهم فيه 25 شاعرا وأديبا كوثيقة تدون الالم والوجع الذي عاشه الليبيون خلال فترة الحرب، ولكن خلافا لذلك، عاش الكتاب على وقع الخوف والتشويه والاعتقال والتعذيب والمنفى. تحولت منابر المساجد إلى محاكم تفتيش بعد أن خصصت عديد المساجد خطبة الجمعة للتأليب على الكتاب وتشويه الكتّاب، فيما تمت مصادرة الكتاب وغلق المركز الثقافي الذي احتضن حفلة توقيع الكتاب، هرب عدد من الكتاب إلى تونس وأوروبا، بعضهم استقر هناك بشكل مؤقت فيما قام آخرون بلجوء سياسي ومن لم يسعفه الحظ في الهروب من ليبيا تم اعتقاله وتعذيبه. “ما حدث كان كارثي للغاية” يوضح الكاتب والأستاذ حسام الثني أحد المساهمين في الكتاب ”
فيما تعبّر غدي التي ساهمت بدورها في الكتاب عن خيبة أملها من الذي حدث ” لم أتوقع أن يكون تفاعل الليبيين بهذه الطريقة السلبية، لقد كانت نصوص شغوفة وجادة الجرأة في الطرح، كتبنا النصوص بلغة الشارع ونقلنا أحوال الناس بدون تجميل، لقد كانت نصوص خالية الشوائب، بدون تجميل أو تخفيف، الواقع كان مقرفًا، سواء في بيوتنا أو في عملنا أو في الشارع والاقتصاد والسياسة، كان الوضع مقرفًا لذلك كتبنا نصوصا بلغة شعبية، توقعت أن يحدث ضجة ولكن ضجة محدودة، لا بهذا الشكل.” تواصل كفالة الحديث؛ “كل يوم لا نتكلم فيه عن مشاكلنا ونختار الصمت، لذلك تتفاقم المشاكل، ولكن نحن قررنا الحديث، وقررنا الحديث عن مشاكلنا تحديدا، عن العنف والوجع والتحرش الجنسي والاغتصاب والحريات والفقر والحاجة والمنفى، انا اخترت الكتابة بالعربية الفصحى، فيما اختار مساهمون آخرون الكتابة بالعامية، وهذا ما خلق صدمة للعديد، لأن الكتابة كانت بالعامية والتعبيرات البذيئة بالعامية لا بالفصحى”
ورغم أن الجزء الذي أحدث الضجة، هو مقتطف من كتاب سبق وأن أجازته هيئات الدولة للنشر حيث أن هذين المقطعين للكاتب أحمد بخاري سبق أن تضمّنتهما روايته المنشورة في طرابلس عام 2012، وكان ذلك النص بالذات قد مرّ على أجهزة الدولة الرقابية وحصل على رقم إيداع ورقم تسلسلي إلا أن ذلك لم يشفع لهم، حيث تنصّلت الهيئة التي نشرت الكتاب من مسؤوليتها وطالبت بسحبه ووضعت حياة الكتاب في خطر.
دفع ذلك العديد إلى السفر خارج ليبيا لأن الموضوع بات غير آمن، وتعرض آخرون للعنف لا فقط من قبل الميليشيات ولكن من قبل أهاليهم أيضًا “تم تعنيفي من قبل أخي ووالدي، وتدهورت علاقتي الاجتماعية بزملائي في العمل وفي المدينة” قررت حينها التوقف عن الكتابة، وإلى الآن اكتب باسم مستعار دون علم الجميع” تصف مريم، إحدى المساهمات في الكتاب وقائع ما حدث لها.
لم تكتفي مؤسسات الدولة الثقافية بالصمت فقط، بل تنصلت من مسؤوليتها وتركت المساهمين في الكتاب يواجهون مصيرهم بأنفسهم، وهو الأمر الذي واجهه الروائي محمد النعاس بعد فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» عن «كتابه خبز على طاولة الخال ميلاد » ، حيث قامت وزارة الثقافة بتهنئته وتشجيعه، ولكن بعد الحملة التي واجهها بسبب بعض التراكيب المدرجة في روايته، قامت الوزارة بسحب التهنئة وتنصّلت من الروائي ورفضت محتوى عمله.
يلاحظ حسام الثني هذا التنصّل حيث يرصد تحوّلات حرية التعبير في ليبيا فترة ما بعد الثورة؛ “تفتت السلطة القامعة أدى الى بروز سلطات قامعة أكثر. في السابق كانت مشكلتك مع اجهزة سلطة واحدة، هذه السلطة تفتت لدى تنظيمات مختلفة، في السابق عندما يتم اختطاف شخص، أول سؤال يتبادر الى الذهن لماذا؟ ولكن الآن أول سؤال يطرح من اختطفه، كانت مشكلتنا في السابق مع نظام سلطوي ولكنه نظام واحد يحكم الدولة، الآن مع أنظمة متعددة، هذا التفتت جعل من الخطوط الحمراء متفاوتة، ما يمكن كتابته في طرابلس لا يمكن كتابه في بنغازي، والمسموح به في سبها قد يكون ممنوعا في مصراته”. يضيف الثني في ذات السياق “هناك عمل للروائية الليبية وفاء البوعيسي والذي يحمل عنوان للجوع وجوه أخرى والذي كتبته خلال فترة حكم القذافي، جوبه هذا العمل برفض واسع من قبل المجتمع، ولكن السلطة لم تحرّك ساكنا بشأنه ولم تكن لديها مشكلة مع هذا العمل، لم تواجه البوعيسي حينها مشاكل مع السلطة، ولكن الأن تغيّر الحال، حيث مازالت تواجه مشاكلًا من قبل المجتمع والذي بات قادرًا على أحداث العنف الذي كانت الدولة تحتكره سابقًا، الخطير في الأمر أن هذا القمع بات ممنهجًا، خاصة مع التيّار السلفي الوازن في ليبيا والذي لم يعد يكتفي بالتهجم بشكل فردي على الكتاب ولكنه الآن يسعى إلى إحداث نصوص قانونية تحرّم وتجرّم حرية التعبير”.
قمع حرية التعبير، شجرة تخفي غابة من التسلّط
لا تنتهي أوجه الديكتاتورية والتسلّط عند كتم الأراء المغاية وحرية التعبير، تتجاوز ذلك لتخلق حالة من التسلّط تمسّ المجتمع في جميع مجالاته، انطلاقا من حرية الاختيارات الشخصية، التنقل، حرية ابداء رأي سياسي او ديني، او المعتقدات الدينية وصولا إلى حرية الملابس والتنقّل والهوية الاثنية، “منذ بداية وعيك سوف تجد نفسك تعيش وسط أغلال وقيود ليست قانونية فقط، ولكنها اجتماعية، لا يوجد قانون يمنعك من إبداء رأيك ولكن المشكل يتعلق بالرقابة المجتمعية والقبلية بالأساس” هكذا تشرح غدي.
المنفى، الاعتقال، القتل، التعذيب أو الاختفاء، هي المصائر الوحيدة التي تواجه المبدعين في ليبيا، في الوقت الذي تسود فيه الفوضى جغرافيا البلاد الواسعة، مازال هناك جيل يمن بالكتابة والإبداع في وجه العنف.
وضع الليبيون آمالا كبيرة على الثورة لتكون بوابة لحرية لم يعشوها من قبل، ولتكون أداة إزالة لقيود فرضت على الأقلام وعلى الأصوات وعلى كافة أشكال التعبير ولكن يبدو أن كل ذلك لم يحدث حيث لا مفردات يسمح بها سوى تلك التي تصدر عن قاموس العنف والخوف والتي تتراءى الوشائج بينها وبين الوصم والقمع.
لا يمكن اقامة مقارنة بين زمنين مختلفين، قبل الثورة الليبية أو بعدها عصفت التغيرات الاجتماعية بكل شيء، ولكن الثابت الوحيد هو قمع حرية التعبير، وفي ظل الأوضاع القاسية الراهنة، تعود الصورة -التي كان القذافي يحاول ترسيخها بأن الشعب الليبي غير جدير بالحرية- للظهور في أذهان كثيرين داخل ليبيا وخارجها، من خلال أسئلة حول دواعي إسقاطه أصلاً، حتى أن كثيرين ممن يعرفون ديكتاتورية نظام القذافي، يتحسّرون عليه لأنه رغم أنه ديكتاتور إلا أنه وفَّرَ عيشاً كريماً لشعبه، وأن الشعب الليبي لم يعرف الحرمان مثل غيره من شعوب المنطقة، وعلى وجه الخصوص دول ثورات الربيع العربي.
“زمان تتكلم تموت، بس توّ تتكلم لين تموت” كلمات كتبت على أحد الجدران في مدينة طرابلس تعبر عن حقيقة عميقة يتردد صداها في قلوب الشعب الليبي وتعكس حجم الوجع والقمع الذي عاشه ومازال يعيشه الليبيون، ورغم أن الشعار يبدو في قفاه المقلوب تعبيرًا يجسّد سخرية من الواقع، ولكنه يوثّق الخوف الكامن عن التعبير بحرية وضعف استحقاق هذه القيمة، ولكن، وحتى الأن، مازال هناك ليبيون وليبيات، يكتبون ويصرخون بصوت أعلى من أي وقت مضى من أجل حرية التعبير في ليبيا.
هوامش؛
- تم تغيير بعض الأسماء الواردة في المقال حماية لهوية أصحابها.
- أصبح الصبح هو عنوان قصيدة للشاعر السوداني محمد الفيتوري، استلهم القذافي مطلع القصيدة في خطاب له يوم 3 مارس من سنة 1988 عندما أطلق حملته لتحطيم وهدم السجون وإطلاق سراح المساجين والعفو عنهم بشكل تام حيث قام في ذلك اليوم بهدم أبواب سجن “أبو سليم” والهتاف بأبيات القصيدة “أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقٍ” وبات ذلك الشعار عنوان مرحلة جديدة في ليبيا.
- الى حدود هذه اللحظة، مازالت الكاتبة والروائية نجوى بن شتوان تعيش صراعا قانونيا مع السلطات الليبية حيث لم تقفل قضيتها بعدها بسبب قصة كتبتها انتقدت فيها المؤسسة العسكرية بطريقة ساخرة، يجدر الذكر أن قضيتها كانت من بين القضايا القليلة التي رُفعت ضد السلطات الليبية قبل الثورة، حيث تولى الدفاع عنها المحامي والناشط السياسي جمعة عتيقة الذي ينتمي بدوره إلى مؤسسة القذافي لحقوق الإنسان التي يرأسها سيف الإسلام القذافي والتي كانت تهدف إلى خلق ديناميكية ثقافية وحقوقية في ليبيا والمنطقة العربية والافريقية.
- ينبه حسام الثني الى تدهور حرية التعبير في مدينة بنغازي شرقي ليبيا خصوصًا، حيث شكلت مؤخرًا لجنة تضم أشخاصا من لجنة المطبوعات ووزارة الثقافة وهيئة الأوقاف وجهاز الأمن الداخلي وجهاز آخر لمكافحة “الظواهر السلبية” قررت هذه اللجنة أن تكون من بين مسؤوليتها الإشراف على المطبوعات والمنشورات، وبدأنا نلاحظ رفض إجازة طباعة كتب، مثل رواية “المكحلة” لأحمد يوسف عقيلة، وهذا بسبب تأثيرات الجماعات الدينية المتشددة التي تسللت إلى مفاصل الدولة.
- حتى بعد اجازة الكتب وطباعتها، تخشى بعض المكاتب والمؤسسات الثقافية توزيع بعض الأعمال خوفا من ردة فعل الجماعات الدينية المتشددة والميليشيات، أثر هذا بشكل كبير على حركة النشر والطباعة.