جوزاف عون رئيساً: تحديات لبنان الداخلية وعلاقاته مع دول الخليج وشمالي أفريقيا
مع انتخاب قائد الجيش السابق جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، انتهى الفراغ في موقع الرئاسة الأولى. المنصب الذي يشغله حسب الأعراف اللبنانية مسيحي من المذهب الماروني، بات بعهدة رجل مقرّب من الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، والذي أمامه مهام معقدة لتحسين الأوضاع في لبنان، الخارج للتو من حربٍ إسرائيلية مدمرة. انتهى الفراغ الرئاسي بعد أزمة حكم طويلة تجاوزت السنتين، وبعد فشل القوى السياسية والدولية في التوصّل إلى تسوية تؤدي إلى ملء السدّة الرئاسية.
وكانت الجلسة الانتخابية التي أُقيمت على دورتين في التاسع من يناير/كانون الثاني الحالي مثيرة، حيث برز ميل الكتل النيابية الوازنة للتصويت لعون، خاصة أن بعضها قد صوّت له بعد أن امتنع عن ذلك طوال سنتين، وتحديداً الكتل النيابية التي تدور في فلك “حزب الله”.
مع التغييرات الكبيرة في المنطقة والعالم، سواء في انهيار النظام السوري أو في قرب التوصل إلى تسوية بين إسرائيل و”حركة حماس”، بدا كأن لبنان بات جزءًا من هذا التغيير الذي شهد تصاعداً للنفوذ الأميركي والخليجي في المنطقة على حساب النفوذ الإيراني المتراجع. لم تكن سوريا أو إيران بعيدة عن التدخّل المباشر في الأزمة الرئاسية طوال الأشهر الماضية، حيث وضعت “فيتو” على أكثر من مرشح كان قد طُرح ليشغل منصب الرئيس. أما مهمّات العهد الجديد فكثيرة، والتي تبدأ بتحسين الواقع الاقتصادي والسياسي الداخلي وصولاً إلى تحسين العلاقات مع دول شمال أفريقيا.
رجل الغرب والخليج.. من هو جوزاف عون؟
يمثل انتخاب جوزاف عون تقدماً للنفوذ الأميركي والسعودي في لبنان، وهو الذي دُعِم منهما منذ أن استلم قيادة المؤسسة العسكرية عام 2017. فمنذ ذلك الحين، فُتحت أبواب واشنطن والرياض وسائر الدول الخليجية أمام الرجل، كما قُدِّمت المساعدات العسكرية واللوجستية وحتى المالية للجيش اللبناني، وذلك بشكل مباشر ودون المرور، غالباً، بالحكومة أو المؤسسات الدستورية اللبنانية الأخرى.
وعون هو من الجنوب اللبناني، حيث دارت رحى معارك شرسة بين الجيش الإسرائيلي و”حزب الله” طوال العام الماضي، بعدما فتح الحزب النار في معركة “إسناد غزة”، لتعود وتنتهي الحرب بتوقيعه على اتفاق وقف إطلاق النار ينص على نهاية عمل الحزب وتسليم سلاحه للشرعية اللبنانية ومؤسساتها الأمنية.
وعلى مدار السنوات الماضية، تميّز عون خلال قيادته للجيش بإدارته الناجحة للملفات الأمنية الحساسة، لا سيما في مواجهة التنظيمات الإرهابية قرب الحدود مع سوريا صيف عام 2017، حيث أطلق عملية “فجر الجرود” التي أفضت إلى تحرير بعض الأراضي اللبنانية التي سيطرت عليها جماعات إرهابية لفترة وجيزة. كما حافظ على سياسة النأي بالمؤسسة العسكرية عن الصراعات السياسية الداخلية، السياسية والحزبية والمذهبية، ما أكسبه احتراماً واسعاً بين مختلف الأطراف اللبنانية والإقليمية.
أما على الصعيد الإقليمي، يُعتبر عون شخصية مقبولة لدى دول الخليج العربي، خصوصاً السعودية، التي ترى فيه ضامناً لاستقرار لبنان بعيداً عن النفوذ الإيراني. وفي المقابل، تربطه علاقات عميقة مع الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، التي قدّمت دعماً مستمراً للجيش اللبناني خلال فترة قيادته، لتكسِبه هذه التوازنات غطاءً دولياً وإقليمياً ساهم في تأمين توافق داخلي حول انتخابه رئيساً.
بالإضافة إلى ذلك، لعون علاقات وثيقة مع معظم القيادات الدينية اللبنانية، وتحديداً مع البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي يُعد لاعباً أساسياً في السياسة اللبنانية، أكان بسبب علاقاته الوثيقة مع دول أوروبا وتحديداً فرنسا، أم بسبب قدرته على حشد أصوات بعض النواب المسيحيون لمرشح دون آخر.
منذ نهاية عام 2019، اندلعت مظاهرات واسعة ضد رئيس الجمهورية آنذاك ميشال عون وحكومة سعد الحريري. شملت المظاهرات مختلف المناطق اللبنانية، وانضم إليها عدد كبير من الجمعيات المدنية والأحزاب، ومارس بعضهم عمليات الشغب والعنف، فتصدى لهم الجيش اللبناني بقيادة جوزاف عون، ولكن ليس إلى درجة قمعهم بشكل كامل. وهو الأمر الذي خلق أزمة بين “العونين”: رئيس الجمهورية ميشال عون الذي أراد من الجيش حماية حكمه وشرعيته الشعبية، وجوزاف عون الذي لم يقمع المظاهرات بشكل كبير أو عنيف.
وهكذا، انتهى عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، وكتلته النيابية الموالية له “التيار الوطني الحر”، على خلاف مع قائد الجيش عام 2022. في المقابل، كسب هذا الأخير ود طيف واسع من أحزاب المعارضة، كما المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية، بالإضافة إلى تعزيزه لعلاقاته الشخصية مع الرياض وواشنطن.
سنوات الفراغ… إجهاض محاولات انتخاب رئيس
لا يملك أي حزب في لبنان أكثرية برلمانية، بل إن البرلمان مُشكَّل من حوالي 10 أحزاب وتكتلات نيابية صغيرة، وهي تُقسَّم بدورها إلى ثلاث فئات أساسية. الفئة الأولى هي المعارضة، المُكوَّنة بشكل أساسي من حزب “القوات اللبنانية” ذات الكتلة النيابية الأكبر، ومن كتلة حزب “الكتائب اللبنانية” وكتلة “التجدد” وغيرها من النواب والأحزاب والكتل الصغيرة، وتملك حوالي 50 نائباً من أصل مجموع عدد النواب البالغ 128.
في المقابل، لدى الموالاة حوالي 45 صوتاً، وهي مُشكَّلة بشكل أساسي من كتلة “حزب الله” النيابية كما كتلة “حركة أمل” التابعة لرئيس البرلمان، بالإضافة إلى بعض النواب المنفردين الذين يدورون في فلكهما.
أما الفئة الثالثة، فتضم نواب حزب “التيار الوطني الحر” الموالين لرئيس الجمهورية السابق، كما حوالي 20 نائباً مستقلاً يميلون في كل مرة إلى جانب إحدى الفئتين السابقتين، وبالتالي يكون تصويت هؤلاء مؤثراً جداً في اتخاذ القرارات وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
منذ نهاية عام 2022، حاولت الكتل النيابية التصويت لانتخاب رئيس للجمهورية، فعُقدت 13 جلسة تصويت من دون أن يتمكن أحد من الحصول على العدد اللازم من الأصوات. الفئة الأولى اختارت ترشيح جهاد أزعور، وهو وزير سابق وخبير مالي ذو علاقات جيدة مع فرنسا وقطر، فيما اختارت الموالاة التصويت لسليمان فرنجية، وهو بدوره وزير سابق ذو علاقات عميقة مع النظام السوري وإيران.
عملياً، لم يتمكن أي طرف من حشد الدعم النيابي اللازم لتحقيق هدفه، وذلك إلى حين اندلاع الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023. بعد ذلك، تراجع منسوب الاهتمام بانتخاب رئيس للجمهورية، وبات تركيز الجميع منصباً على المعركة العسكرية الدائرة.
لم يعنِ ذلك غياب النقاش أو الضغط من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، خاصة مع إبداء المعارضة وطيف واسع من النواب المستقلين رغبتهم بأن يتولى شخص عسكري رئاسة الجمهورية، وذلك بعد بروز الحاجة لوجوده في القصر الرئاسي نتيجة للحرب والأحداث التي رافقتها، وأيضاً بسبب الحاجة إلى رئيس يكسب ثقة الغرب ودول الخليج من أجل إعادة الإعمار، وذلك بعد تخطي الخسائر مبلغ 12 مليار دولار أميركي بحسب إحصاءات رسمية لبنانية.
ماذا يقول الدستور اللبناني؟
يحتفظ رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه برّي، بالقدرة على عقد جلسات للبرلمان اللبناني متى شاء، فيما ينص الدستور اللبناني في المادة 49 منه على أن للبرلمان السلطة وحده في انتخاب رئيس الجمهورية لولاية واحدة مدتها ست سنوات. كذلك، تنص المادة عينها على أنه لا يحق لأي موظف رسمي أن يُنتخب ما لم يستقل من عمله قبل سنتين، وهو الأمر الذي دفع عدداً من النواب لعدم انتخاب عون رئيساً، على اعتبار أن انتخابه يمثل مخالفة دستورية، وهو الأمر الذي يؤكده عدد من الخبراء في المجال الدستوري أيضاً.
أما عن الأكثرية المفترض أن يحصل عليها أي مرشح لرئاسة الجمهورية، فيجب أن تكون ثلث أعضاء البرلمان (86 نائباً من أصل 128 نائباً) في الدورة الأولى، أو في الأكثرية المطلقة (65 نائباً من أصل 128 نائباً) في الدورات التالية.
أما صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية، فهي ليست كبيرة حالياً. قبل إقرار “اتفاق الطائف” عام 1990، وهو الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية المندلعة عام 1975، كانت صلاحيات رئيس الجمهورية كبيرة، وله الحق في حلّ البرلمان وتشكيل الحكومات وغيرها من الصلاحيات الواسعة. ولكن، عدَّل “اتفاق الطائف” صلاحيات الرئيس ونقل بعضها إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، وترك له بعض الصلاحيات الأخرى المتعلقة برد القوانين وعقد الاتفاقات الخارجية وترؤس اجتماعات الحكومة ولكن دون القدرة على التصويت على قراراتها.
غالباً ما يُقال في الأدبيات السياسية اللبنانية بأن رئيس الجمهورية بعد “اتفاق الطائف” هو حكم وليس حاكماً، في إشارة إلى صلاحياته القليلة المتبقية له. ولكن، يمكن لأي رئيس جمهورية قوي، ذو شعبية أو دعم سياسي أو حزبي، أن يحصل على أكثر من ثلثي أعضاء مجلس الوزراء، ما يعطيه القدرة العملية – وليس الدستورية – على السيطرة على قراراته الأساسية، خاصة وأن التصويت داخل الحكومة يستلزم ثلثي أعضاء الحكومة، وهذا ما فعله معظم رؤساء الجمهورية منذ العام 1990 وإلى الأمس القريب.
انحسار نفوذ “حزب الله”
مما لا شك فيه أن الظروف الإقليمية تؤثر بشكل مباشر على لبنان، سواء على قراراته الأساسية أو على عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هذا “قدر” الدول الصغيرة الواقعة في أقاليم تتصارع فيها نفوذ الدول الأكبر منها، وهذا هو واقع لبنان منذ عشرات السنوات.
يمثل “حزب الله” امتداداً للنفوذ الإيراني في لبنان، ولكن خروجه من حرب شرسة مع إسرائيل خلخل التوازن الداخلي بينه وبين أخصامه الداخليين. ففي السنوات القليلة الماضية، مارس “حزب الله” السياسة الداخلية اللبنانية بشكل واضح، فحقق تقدماً ملفتاً من ناحية قدرته على صنع القرار أو رفع ورقة “الفيتو” في وجه أخصامه. هو من أتى بميشال عون رئيساً عام 2016، كما شكّل حكومات وكان له حصص مهمة داخلها. غير أن الحرب مع إسرائيل أبرزت معطيات جديدة، دفعته للنظر إلى السياسة المحلية بعين عقلانية، وتجنب المواجهات السياسية القاسية مع الآخرين.
خسر “حزب الله” الكثير من قوته التي بناها على مدار العقود الماضية. خسر معظم ترسانته الصاروخية، كما أبرز قيادييه العسكريين والدينيين، بالإضافة إلى أمينه العام وقائده التاريخي حسن نصرالله. ولزيادة الطين بلة، خسر الحزب في النتيجة أمام إسرائيل بعدما دُمر معقله في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما مداه الديمغرافي في البقاع شرق لبنان وفي الجنوب قرب الحدود مع إسرائيل. فيما انتهى الأمر بأن وقّع الحزب على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تضمن قبوله بالانسحاب من الجنوب اللبناني وتفكيك منظمته العسكرية وتسليم أسلحته للجيش اللبناني تبعاً للقرار الدولي رقم 1701.
الخسارة الميدانية أثمرت تواضعاً في الداخل اللبناني. فمع انتهاء الحرب، ما عاد “حزب الله” متمسكاً بإيصال فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، إنما أبدى ميلاً للتوصل إلى تسوية. حاول الحزب التواصل، طوال الشهر الأخير من العام المنصرم، مع قوى حليفة ومستقلة للاتفاق على اسم مرشح جديد، إلا أن محاولاته لم تُفضِ إلى تحقيق نتيجة حقيقية. لم يعنِ ذلك أن الحزب قبل بجوزاف عون للرئاسة، إلا أن تخليه عن فرنجية أعطى إشارات واضحة بأنه بات منفتحاً للتوصل إلى تسوية داخلية تفضي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
عُزّز هذا الاعتقاد مع عقد أحزاب وتكتلات المعارضة عدد كبير من الاجتماعات في شهر ديسمبر/كانون الأول، فعزّزت من صفوفها وزادت من ديناميكيتها، وبالتالي باتت جاهزة للتخلي عن اسم جهاد أزعور أيضاً، والانطلاق للتوافق على اسم جديد. لم يكن ينقص، عملياً، سوى إشارة من الخارج، وتوافق إقليمي ودولي يلاقي الحراك السياسي المحلي.
تبدّل موازين القوى الإقليمية وتأثيرها على الانتخابات الرئاسية
في رحلة البحث عن رئيس جديد للجمهورية، تبدلت أسماء مرشحي الدول مثل أسهم البورصة. سعت دولة قطر إلى التسويق لمرشحها الخاص في لبنان، اللواء إلياس البيسري، المدير العام للأمن العام اللبناني، وحشدت له بعض التأييد الداخلي من النواب المستقلين. كذلك الأمر، كان لفرنسا مرشحها الخاص، وهو وزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود، الذي تلقف ترشيحه “التيار الوطني الحر” لبضعة أسابيع. أما السعودية فراهنت، منذ البدء، على قائد الجيش جوزاف عون، وهكذا فعلت الولايات المتحدة الأميركية. أما إيران فكانت تؤيد سليمان فرنجية، وكذلك تفعل، من خلفها، سوريا.
إلا أن الحرب في سوريا وسقوط النظام هناك، كما خروج إيران منها، غيّرا المشهد اللبناني الرئاسي برمته. التغيير الأول كان تراجع النفوذ الإيراني في لبنان، وتهالك النفوذ السوري إلى حدّ الاضمحلال. بات عدد لا بأس به من الشخصيات المستقلة السنيّة الموالية لهما في حيرة من أمرهم، فالتحقوا بالخيار السعودي رئاسياً.
أما التغيير الثاني، فكان عودة السعودية للعب دورها المؤثر في لبنان، وذلك، ربما، لأنها ارتابت من دور تركي وقطري متقدم في سوريا، الأمر الذي دفعها للدفع نحو التعامل مع لبنان بشكل مختلف وأكثر حزماً.
مع تقدم النفوذ السعودي المتفاهم مع الولايات المتحدة، تراجع مرشحو قطر وفرنسا، فتم التخلي عنهما، والتحق الجميع بالخيار السعودي. وحده “التيار الوطني الحر” عاند الأمر، ولم ينتخب جوزاف عون رئيساً متحججاً بأن انتخابه مخالف للدستور، ولكن من دون أن يُغضب العهد الجديد، مكتفياً بالكلام عن لا دستورية الرئيس دون تقديم طعن في الانتخابات إلى المجلس الدستوري المختص في هذا الشأن.
بقي “حزب الله” في الساحة رافضاً لخيار جوزاف عون، لكن مع الظروف الجديدة التي أفرزتها الحرب دفعته للقبول بخيار لا يتوافق معه، فصوّت بورقة بيضاء في الدورة الانتخابية الأولى، ثم عاد وانتخب جوزاف عون في الدورة الثانية، فحصل الأخير على 99 صوتاً من أصل 128، مكنته من الوصول إلى السدة الرئاسية، منهياً فراغاً استمر سنتين ونيف مرّ بها لبنان كما المنطقة بالكثير من المصاعب والتغييرات.
تحديات العهد الجديد
يواجه الرئيس اللبناني المنتخب جوزاف عون تحديات جسيمة تتطلب إدارة دقيقة ومتوازنة في ظل أوضاع إقليمية ودولية معقدة. مع بداية عهده، يقف لبنان عند مفترق طرق يتطلب قرارات مصيرية على عدة أصعدة، أبرزها العلاقة مع سوريا وإعادة اللاجئين السوريين، كما تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل وإعادة الإعمار، إضافة إلى معركة مكافحة الفساد.
على الصعيد الاقتصادي، يواجه عون دولة تعاني من انهيار مالي غير مسبوق، مع أزمة مصرفية خانقة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة التي بلغت، عام 2024، 27.6% من مجمل القوى العاملة، أي أعلى بنحو 2.4 مرة عن المتوسط العام لمعدلات البطالة في كافة البلدان العربية، وفق منظمة “الاسكوا”. هذا ويقبع حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، في السجن حالياً، بعد اتهامات بالفساد وسوء الإدارة طالته وطالت الكثير من المسؤولين الماليين في لبنان. لذلك، يتعيّن على عون العمل على إعادة بناء الثقة بالمؤسسات المالية وتنفيذ إصلاحات اقتصادية بالتعاون مع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، كما جذب الاستثمارات.
أما على المستوى السياسي، فيواجه عون تحدي إعادة إحياء مؤسسات الدولة وتعزيز عمل الحكومة، خاصة في ظل الانقسامات السياسية والطائفية التي تعرقل الإصلاح، كما، والأهم، إرساء السيادة اللبنانية. فبعد الحرب المدمرة التي شنّتها إسرائيل على “حزب الله”، بات تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 وتثبيت وقف إطلاق النار مسألة حيوية. سيواجه الرئيس عون ضغوطاً دولية لضبط الحدود الجنوبية ومنع أي تصعيد، خاصة فيما يتعلق بسلاح “حزب الله”، مع ما يترافق ذلك من لجم تحركاته وتقويضها. وفي الوقت عينه، يجب عليه حماية السيادة اللبنانية وعدم الرضوخ للضغوط التي قد تمس دور وحق الدولة اللبنانية بتحرير أراضيها، خاصة وأن إسرائيل لا تزال تسيطر على عشرات القرى جنوب لبنان. وهنا يكمن التحدي الحقيقي في إدارة هذا التوازن الدقيق بما يحفظ الاستقرار الداخلي، يعيد الأراضي اللبنانية إلى كنف السيادة، ويجنب لبنان حرباً جديدة.
على الصعيد الإقليمي، سيكون على عون أن يقود لبنان بحنكة وسط المتغيرات في المنطقة، خاصة مع التطورات في سوريا وفلسطين والإدارة الجديدة القادمة إلى الولايات المتحدة وغموض ما تريده من لبنان، ومحاولة الحفاظ على سياسة النأي بالنفس عن صراعات المحاور، مع السعي لجذب الدعم العربي والدولي لإعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة. خاصة وأن ملف اللاجئين السوريين يشكّل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً على لبنان كذلك، ومع تجاوز أعدادهم المليون لاجئ، ليجد الرئيس عون نفسه يواجه ضغطاً داخلياً لإيجاد حلول فعالة لهذه الأزمة. التحدي يكمن في تأمين عودتهم الطوعية والآمنة إلى سوريا عبر قنوات دبلوماسية فاعلة، مع مراعاة المعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وهذا الأمر لا يمكن أن يتم من دون مد علاقات جيدة مع الإدارة السورية الجديدة.
من هنا، يُعتبر ملف العلاقات اللبنانية – السورية من أعقد التحديات أمام الرئيس جوزاف عون. فالتنسيق مع دمشق ضرورة في قضايا مثل أمن الحدود وعودة اللاجئين، إلا أن هذه العلاقة تثير حساسيات سياسية داخلية بين الأطراف المؤيدة والمعارضة. وسيكون على عون إيجاد توازن بين التعاون العملي مع سوريا لتحقيق مصالح لبنان الأمنية والاقتصادية، وبين الالتزام بالسياسات الدولية التي لا تتعاون بالشكل الكافي مع الجانب السوري، كما بعض الحساسيات الداخلية الرافضة لها، وتحديداً من جانب “حزب الله”.
منذ أشهر قليلة تعرضت مناطق واسعة في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية والبقاع لأضرار جسيمة جراء الحرب الأخيرة. ويُعد ملف إعادة الإعمار من أكبر التحديات التي تتطلب حشد دعم دولي وعربي، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها لبنان. وهكذا يُصبح لزاماً على الرئيس عون تأمين التمويل الضروري لإعادة بناء البنية التحتية والمنازل المتضررة، مع ضمان الشفافية في توزيع المساعدات ومنع استغلالها سياسياً. عملياً، لا إعادة إعمار أو تعويضات مهمة شهدها لبنان منذ انتهاء الحرب في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فيما يُحكى عن مساعدات قادمة من جانب السعودية، هذا في حال ضمان الدولة اللبنانية لحد أدنى من الأمن وتطبيق للقرارات الدولية المانعة لإعادة بناء “حزب الله” لقوته العسكرية.
يُعد الفساد المستشري في مؤسسات الدولة من أبرز العقبات أمام أي إصلاح حقيقي. يدرك عون أن أي محاولة للنهوض بالاقتصاد وإعادة بناء الدولة تمر عبر محاربة الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه. ومع وجود منظومة سياسية معقدة قائمة على المحاصصة الطائفية، يواجه عون تحدياً كبيراً في فرض سياسات إصلاحية تضمن استقلالية القضاء وتعزز الشفافية والحوكمة الرشيدة. أما الاصطدام بهذه المنظومة، فمتوقع، خاصة مع تشكيل الحكومة الأولى في العهد، إذ تبحث كل الأحزاب عن فرص تمثلها فيها بشكل قوي، وذلك تحضيراً للانتخابات النيابية القادمة عام 2026.
العهد الجديد والعلاقات مع دول شمالي أفريقيا
عدا عن الدول القريبة جغرافياً من لبنان، يواجه حكم جوزاف عون عدداً مهماً من الأزمات والعلاقات الشائكة التي ورثها عن سلفه. واحدة منها هي العلاقات مع دول شمال أفريقيا، وتحديداً العلاقة مع ليبيا التي لا يمكن وصفها بأنها جيدة، نظراً للكثير من الشؤون المرتبطة بآل القذافي، وبقضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، الزعيم التاريخي لـ”حركة أمل” اللبنانية.
يشكو لبنان، وتحديداً “الحركة” ذات الحضور الواسع في إدارات الدولة والحكومات المتعاقبة، من أن السلطات الليبية لم تبذل المجهود الكافي للكشف عن مصير الرجل الذي اختفى في ليبيا عام 1978 خلال زيارته لرئيس الدولة الليبية الراحل معمر القذافي. ومنذ ذلك الحين، تعتبر “الحركة” أن الإمام الصدر مخفي أو مغيّب، ولا تعتبره ميتاً، على الرغم من أن هذا الأمر هو المرجح، حيث إن عمره اليوم في حال كان لا يزال حياً، يناهز 96 عاماً.
في المقابل، يعاني بعض الليبيين القادمين إلى لبنان بغرض السياحة أو الاستثمار مضايقات جمّة بسبب هذه القضية تحديداً، فيما تطالب السلطات في طرابلس بتسليمها ابن معمر القذافي، هنيبعل القذافي، الموقوف في لبنان منذ عام 2015. قد يكون الحل المنطقي هو التوصل إلى تسوية محددة في هذا الملف، بربطه بملف الإمام الصدر، فتتم المقايضة بين تسليم هنيبعل لطرابلس مقابل كشف معلومات أكثر دقة عن الصدر.
مع وجود هذه المعضلة، يمكن للعهد الجديد العمل على حلها من خلال اتخاذ عدة خطوات مفصلية إضافية، في مقدمتها تشكيل لجان مشتركة للتحقيق في قضية الصدر بشكل موضوعي ودون تحيّز، مما قد يفتح باباً للحوار ويخفف التوترات. كما يمكن العمل على تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي لتخفيف الحساسيات السياسية، خاصة أن اقتصاد كل من لبنان وليبيا ليس في حال جيدة، والتبادل التجاري بينهما قد يكون مفيداً للطرفين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للرئيس الجديد التواصل مع القيادة الليبية والمنظمات الدولية لتوسيع قاعدة التفاهمات وتجاوز التراكمات القديمة، مما يطوّر علاقات الثقة والاحترام المتبادل.
أما فيما يتعلق بتونس والجزائر، فمن الممكن الاستفادة من الدور الإقليمي والتاريخي لهذين البلدين في دعم الاستقرار في المنطقة، وفتح آفاق جديدة للتعاون مع لبنان. إن التلاقي مع تونس قد يتم في إطار التفاهمات السياسية والتبادل الثقافي، نظراً لما لدى المجتمعين اللبناني والتونسي من حركة ثقافية وشبابية نشِطة ومؤثرة. أما لدى الجزائر. فإن لبنان في المقابل يحتاج في قطاع الكهرباء إلى الكثير من الموارد، خاصة أن الخزينة اللبنانية مثقلة بدين يقارب 40 مليار دولار متأتية من هذا القطاع فقط وفقاً لإحصائيات محلية. ويظل استيراد النفط والغاز من الجزائر أكثر ضمانة للبنان مقارنة باستيراده من العراق نظراً للمشاكل الأمنية في سوريا.
هكذا يبدوا من المؤكد أن مدّ شبكة من العلاقات بين لبنان ودول شمال أفريقيا يبقى أمراً مهماً للبنان في المقام الأول، لكنه لا يرقى، في الوقت الحالي، إلى أولوية عند العهد الجديد الذي يهتم بشكل أساسي بمدّ شبكة علاقات أكثر متانة مع الدول الخليجية.
ماذا تريد الأحزاب من حكومة العهد الأولى؟
مع بداية عهد الرئيس جوزاف عون، تتجه أنظار القوى السياسية اللبنانية إلى شكل وتركيبة الحكومة الأولى، التي ستكون المؤشر الأساسي على توجهات العهد الجديد. يسعى كل حزب لضمان حصته داخل الحكومة بما يتماشى مع مصالحه السياسية والطائفية، ما يفرض على الرئيس عون تحدياً كبيراً في تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ إصلاحات حقيقية وسط شبكة من المصالح المتشابكة.
يسعى “حزب الله” إلى ضمان بقاء نفوذه السياسي والأمني من خلال تولي حقائب سيادية وخدماتية تعزز حضوره في الدولة، خاصة الوزارات المعنية بالأمن والطاقة والخدمات الاجتماعية. أما “التيار الوطني الحر”، وبصفته حزب الرئيس السابق ميشال عون، فسيطالب بوزارات أساسية تعكس استمرارية نفوذه في الحكم، خاصة في ملفات مثل الطاقة والعدل، لضمان استكمال المشاريع العالقة، وحماية له من قضايا ترتبط بعمليات فساد ضخمة في الدولة.
أما “حركة أمل”، فستركز على حماية موقع رئيسها كرئيس للبرلمان، وتأمين حصة وازنة في الحكومة، مع الإصرار على إدارة ملفات حساسة مثل وزارة المالية. أما أحزاب مثل “القوات اللبنانية” و”الكتائب اللبنانية” القادمة من المعارضة، فستسعى للحصول على حقائب إصلاحية مثل العدل والأشغال العامة والاقتصاد والخارجية، لتحقيق أجنداتها في مكافحة الفساد وتعزيز السيادة الوطنية.
يكمن التحدي أمام الرئيس عون في قدرته على تحقيق توازن بين ضغوط الأحزاب السياسية الطامحة إلى تحقيق مصالحها الضيقة، وبين رؤيته لإصلاح الدولة وإنقاذها من أزماتها العميقة. سيكون عليه اتخاذ قرارات جريئة قد تصطدم بمصالح بعض الأطراف، مع الحفاظ على استقرار الحكومة وضمان الدعم الدولي والعربي. نجاحه في ذلك سيتوقف على قدرته على بناء تحالفات مرنة مع القوى السياسية واحتواء طموحاتها، دون التضحية بمبادئ الحكم الرشيد والإصلاح الجذري. كذلك الأمر، سيكون طموح عون ذاته حاضراً في تسمية عدد وازن من الوزراء بما يضمن له قدرة الحركة والتأثير في العمل الحكومي. ولتحقيق ذلك، قد يعتمد على استراتيجية تقوم على:
1- المحاصصة الواقعية: توزيع الحقائب الوزارية بشكل يُرضي القوى السياسية الكبرى مع الحفاظ على التوازن الطائفي الدقيق، فالحكومات في لبنان، حسب الدستور، تكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ونسبية بين مذاهبهما.
2- إدخال شخصيات تكنوقراط: تعيين وزراء مستقلين في وزارات أساسية لضمان تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بعيداً عن الضغوط الحزبية، وهؤلاء قد يكون عدد منهم من حصة الرئيس ويمثلون “رجالات العهد”.
3- ضبط النفوذ الخارجي: تحقيق توازن دقيق بين النفوذ الإيراني المتمثل في “حزب الله” والدعم العربي والغربي، خاصة من السعودية والولايات المتحدة، لتجنب عزل لبنان دولياً.
يتزامن وصول جوزاف عون إلى الرئاسة مع تصاعد الأصوات الشبابية والمستقلة المطالِبة بالتغيير، خاصة بعد الحراك الشعبي الكبير عام 2019 والعام الذي تلاه. هذه القوى باتت تطالب بدخول الحكومة عبر وزراء مستقلين يمتلكون كفاءة وخبرة بعيداً عن المحاصصات الطائفية والحزبية. إن إشراك هذه المكونات في الحكومة قد يُعتبر خطوة أساسية لاستعادة ثقة الشارع وفتح أفق جديد للإصلاح.
دور الخارج في لبنان.. سلاح ذو حدّين
منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية، كان التدخل الخارجي عاملاً محورياً في صياغة السياسات الداخلية وتوجيه المسارات السياسية. ومع تسلّم الرئيس جوزاف عون سدّة الرئاسة، أصبحت العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية أكثر تعقيداً، حيث يتعيّن عليه التعامل مع هذا التدخل بحذر لتحقيق التوازن بين الاستفادة من الدعم الخارجي والحفاظ على السيادة الوطنية.
يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادّة تتطلب دعماً دولياً لتأمين التمويل اللازم لإنقاذ الاقتصاد. يمكن لعهد الرئيس عون أن يستفيد من المساعدات الدولية عبر برامج دعم مباشرة، مثل قروض صندوق النقد الدولي، والمساعدات التي تقدمها الدول الصديقة كفرنسا ودول الخليج. هذه المساعدات قد تكون ضرورية لدعم الليرة اللبنانية، وتمويل مشاريع البنية التحتية، وتخفيف الأعباء الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك، يُشكّل دعم الجيش اللبناني أحد أبرز أشكال التعاون الدولي، خاصة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. يشمل هذا الدعم تزويد الجيش بالمعدات والتدريبات التي تعزز قدراته في مكافحة الإرهاب وضبط الأمن، ما يعزز الاستقرار الداخلي ويقلل من خطر الجماعات المسلحة. إن قيام عهد عون بتطبيق القرار الدولي 1701 واتفاق وقف إطلاق النار، وما يتضمنه من انتشار للجيش اللبناني على طول المساحة الجغرافية اللبنانية، بحاجة ماسّة إلى دعم عملي، لوجستي وتسليحي، لمؤسسة الجيش اللبناني.
إن الانفتاح على الدول العربية والغربية قد يُمكّن لبنان من استعادة دوره الإقليمي والدولي، خصوصاً إذا استطاع عون بناء جسور تعاون مع الدول الداعمة للبنان. هذا الانفتاح قد يُسهم في تخفيف العزلة السياسية وتحفيز الاستثمارات الأجنبية.
في المقابل، قد يتحوّل التدخل الخارجي إلى أداة ضغط سياسي تُقيّد خيارات لبنان السيادية. فبعض الدول قد تربط تقديم المساعدات بشروط سياسية تتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية، مثل الموقف من “حزب الله” أو العلاقة مع إيران أو سوريا سابقاً. وهذا النوع من التدخل قد يُضعف استقلالية القرار اللبناني ويدخل البلاد في لعبة المحاور الإقليمية بشكل أكثر عمقاً.
لقد أثّرت العقوبات الأميركية على “حزب الله” وبعض المصارف اللبنانية بشكل كبير على الاقتصاد الوطني، إذ أضعفت القطاع المصرفي وأثقلت كاهل الاقتصاد. كما أن التوتر مع بعض الدول الخليجية أدّى إلى تراجع الاستثمارات والتحويلات المالية، ما زاد من تعقيد الأزمة الاقتصادية، وهي كلّها أمور بحاجة إلى إعادة المراجعة من قبل العهد الجديد
سيواجه الرئيس عون معضلة كبيرة في كيفية تحقيق الاستفادة القصوى من الدعم الخارجي دون التفريط بالسيادة الوطنية. ولتحقيق هذا التوازن، يجب عليه:
1- التفاوض بشروط واضحة مع الدول والمؤسسات الدولية لضمان أن تكون المساعدات غير مشروطة بسياسات تمسّ بالسيادة الوطنية.
2- تنويع الشراكات الدولية لتفادي الارتهان لأي محور سياسي أو اقتصادي، مع فتح قنوات مع دول متعددة لضمان الاستقلالية في القرار.
3- تعزيز الموقف الداخلي الموحد عبر الحوار مع مختلف القوى السياسية للحد من تأثير التدخلات الخارجية وتقديم رؤية وطنية موحدة في التعامل مع الأزمات.
يبقى التدخل الخارجي في لبنان واقعاً لا يمكن تجاهله، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية المعقدة. على الرئيس جوزاف عون أن يُوازن بين استثمار الدعم الخارجي في خدمة لبنان وشعبه، وبين حماية السيادة الوطنية من الضغوط والابتزاز السياسي. نجاحه في هذا التوازن سيُحدد مدى قدرة عهده على تجاوز الأزمات وبناء دولة قوية مستقلة في السنوات الست القادمة.