الجزائر عالقة بين القمع المعادي للثورة وأمل اندلاع شرارة جديدة
المقاطعة الواسعة للانتخابات وتصاعد العنف الأمني يطغيان على الانتخابات التشريعية في الجزائر
دفعت موجات القمع في الأشهر الأخيرة حراك الجزائر إلى وقف احتجاجات الشوارع بشكل شبه كامل، إذ تستمرّ المظاهرات المدوّية المناهضة للنّظام في منطقة القبائل فقط. وتواجه المعارضة ضغوطا شديدة حتّى أنّه لا مفرّ أمامها. ولاشكّ أن محاولة النظام إستعادة شرعية القيادة السّياسية الحاكمة سابقا في البلاد من خلال انتخاب برلمان جديد قد باءت بالفشل. ومع ذلك ، تُظهر نتائج الانتخابات أن الطبقة الحاكمة لم تعد تعتبر القيام بتنازلات من أجل المعارضة أمرا ضروريّا. و التصعيد في أعمال انتقامية الدولة يلوح في الأفق. في ظل هذه الخلفية ، يحتاج الحراك بشكل عاجل إلى استرجاع الفضاء العام لكي يتجنّب الغرق في نهاية المطاف في السياسات المعادية للثورة التي ينتهجها الجيش الجزائري حاليًا.
يوجد عنف أمنيّ ضد المتظاهرين والمئات من النشطاء الموقوفين والصحفيين والمتظاهرين وإيماءات تهديد وترهيب تجاه المجتمع المدني، وانتقام من التعليقات الناقدة للنظام على وسائل التواصل الاجتماعي ، ودعاوى حلّ ضد ثلاثة أحزاب معارضة ومنظمة غير حكومية وحتىّ مزاعم تتعلق بالإرهاب ضد صحفيين ونشطاء. يبدو أنّ النظام الجزائري الاستبدادي المتزايد لم يترك أي شكوك في الأشهر الأخيرة حول رغبته في وضع حدّ لحركة الاحتجاج – التي غالبا ما يشار إليها في الجزائر باسم “الحراك”. فقبيل الانتخابات التشريعية المثيرة للجدل في 12 يونيو ، زادت السّلطات من الضغط على الحراك ومنظمات المجتمع المدني المرتبطة به.
فور حلّ الرّئيس عبد المجيد تبون البرلمان وإقرار انتخابات مبكرة في مارس / آذار ، كثّفت الشرطة والسلطات القضائية إجراءاتها ضد احتجاجات الحراك التي عادت لتكتسب تدفقات كبيرة مرة أخرى منذ فبراير 2021. ولا يعدّ هذا النمط بالجديد، إذ أنّ النّظام كان قد كثّف بالفعل أعماله الانتقامية في الفترة التي سبقت كلاّ من الانتخابات الرّئاسية لعام 2019 والإستفتاء الدستوري لعام 2020 ، بهدف ترهيب المحتجّين وإجبار الحراك على الخروج من المجال العام ، وبالتالي منع ما هو متوقع من أعمال تخريبية من قبل معارضي النّظام يوم الانتخابات. لكن على خلاف عام 2019 ، فإنّ الجنرالات الذين يتحكّمون بخيوط الدمى وراء الكواليس قد تركوا قوّات الشرطة تتسرب في وقت مبكّر قبل الانتخابات التشريعية لعام 2021.
دعا الحراك والمعارضة إلى مقاطعة الانتخابات ويرجع ذلك جزئيّا إلى الأعمال الانتقامية. وعلى إمتداد أسابيع، حاول نشطاء الحراك الصمود أمام عنف الشرطة المتزايد ومواصلة الضّغط على النّظام من خلال تنظيم إحتجاجات. لكن في مايو، نجحت قوّات الأمن في تفريق احتجاجات الحراك بالعنف ، بل ومنعها لأوّل مرة منذ اندلاع الاحتجاجات الجماهيريّة سنة 2019. و منذ ذلك الحين، وبشكل منهجيّ، يتم قمع مسيرات الطلاب الأسبوعية ومظاهرات الجمعة ذات الأهمية الخاصة والرّمزية للحراك – التي يتم تنظيمها في وقت واحد في العديد من الأحياء في جميع أنحاء العاصمة قبل أن تتقارب في وسط المدينة – حيث تقوم قوّات الشرطة إستباقيّا بتفريق الحشود في تلك الأماكن التي يتجمع فيها المتظاهرون. ونتيجة لذلك ، نجحت الشرطة في منع مسيرات الجزائر برمتها. و رغم ذلك ، تستمر الاحتجاجات المهمّة بنسق منتظم ، وإن كان ذلك فقط في بجاية وتيزي وزو وأجزاء أخرى من منطقة القبائل ، اللتي يسكنها في الغالب البربر والتي تمثّل معقلا للمعارضة.[1]
“لا إنتخابات مع عصابات المافيا“
على الرغم من الهجمات المضادة الشديدة على المتظاهرين، جرت الانتخابات في أجواء بعيدة كلّيا عن الهدوء والخلّو من المتاعب. فقبيل يوم واحد من الاقتراع ، اندلعت احتجاجات كبيرة خارج منطقة القبائل لأول مرة منذ أسابيع ، بما في ذلك سطيف ومستغانم. كما وقع استفزاز الشباب من خلال حملة اعتقالات ليلية واشتباكات مع الشرطة في عدّة بلدات في ولايتي البويرة وبجاية يوم الانتخابات.[2] في غضون ذلك ، استجاب الناخبون الجزائريون في الغالب لدعوات التصويت باللّامبالاة أوالمقاطعة. وقد اقتحم المتظاهرون عشرات مراكز الاقتراع في منطقة القبائل ، وسُرقت صناديق الاقتراع وأُلقيت أوراق الاقتراع في الشوارع أو حتّى أُشعلت فيها النيران. و بسبب هذه الأحداث ، لم يكن من الممكن إجراء الانتخابات عمليًا في تيزي وزو وبجاية. وعلى غرار الأصوات السّابقة ، تجمّع معارضو الانتخابات في الشّوارع في عدّة مدن حول الجزائر واصطفوا أمام صناديق القمامة وألقوا بشكل رمزي أوراق اقتراع مصنوعة شخصيّا في سلة المهملات.[3]
لكن مع التّصويت البرلماني ، تقدّم الجنرالات خطوة أقرب إلى استعادة الواجهة الديمقراطية الزائفة للبلاد بشكل رسميّ. ومع ذلك ، فإن المجلس الشّعبيّ “المنتخب” يفتقر إلى الشرعية لأن التصويت لم يكن لا حرًا ولا شفافًا. و تماشياً مع الشّعار البارز “مكاش إنتخابات مع العصابات” المتواجد دائماً في مسيرات الحراك لأسابيع، امتنع النّاخبون إلى حدّ كبير عن التصويت. وفقًا للأرقام الرسمية فقد بلغت نسبة التصويت 23 بالمائة فقط وانخفضت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. ولكن وفق ادّعاءات المعارضة الموجّهة إلى الهيئة الوطنية للانتخابات (Autorité Nationale Indépendante des Elections، ANIE) ، التي يتم تعيين جميع أعضائها من قبل الرّئيس دون أي رقابة مستقلة، فإنّ هذا الرّقم في حد ذاته يكون منمّقا. ومن غير المفاجئ أن تصف أحزاب المعارضة الاستطلاع بأنه “مهزلة”. وقد جاء في بيان صادر عن حزب المعارضة الليبرالي اليساري التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (Rassemblement pour la Culture et la Démocratie، RCD) أن “التحيّل الانتخابي هو الوسيلة المفضّلة للنظام لاستمالة عملائه وإبقائهم في السلطة”.[4]
عودة “تحالف رئاسي“؟
في غضون ذلك، كاد التزوير الانتخابي المتجدّد والمنظّم، وحملات المقاطعة الناجحة التي قام بها الحراك والمعارضة والأعمال الانتقامية التي تنهمر على نشطاء الحراك منذ شهرأن يحوّل نتائج الانتخابات إلى مسألة ثانوية. ومع هذا، فإن النتائج كانت مفاجئة تمامًا. حيث أظهر حزبان رئيسيان سابقان في النظام ،وهما جبهة التحرير الوطني (Front de Libération Nationale ، FLN) والتجمع الوطني الديمقراطي (Rassemblement National Démocratique, RND) ، بأداءٍ جيدٍ وغيرِ متوقعٍ على الرّغم من فقدانهما لمصداقيتهما بشدة في المجتمع الجزائري. حتى أن حزب الوحدة الوطني السابق ،جبهة التحرير الوطني، الذي ظل في السلطة بشكل شبه مستمر منذ استقلال الجزائر عن فرنسا في عام 1962 ، قد عاد إلى البرلمان كأقوى حزب وفاز بـ 98 مقعدا من أصل 407. وحصل التجمع الوطني الديمقراطي على 58 مقعدًا.[5] ومع ذلك ، فإن توقعات الأداء القوية للمعسكر الإسلامي المحافظ الذي اختاره النظام لم تتحقق. حتى أن رئيس حركة مجتمع السلم (Mouvement de la Société de la Paix، MSP) ، عبد الرزاق مقري ، كان قد أعرب عن أمله في تحقيق نصر انتخابي قبل التصويت. على الرغم من حصول الحزب على 65 مقعدًا فقط ، إلا أن الحزب – الذي كان سابقا في الحكومة في ائتلاف مع جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي بين عامي 2002 و 2012 – لم يصل إلى مستوى توقعاته الخاصة. وحصل كل من البناء المنبثق عن حركة مجتمع السلم على 39 مقعدًا وجبهة المستقبل الوطنية 48على مقعدًا والقائمات المستقلة على 84 مقعدًا.
لم تكن لمثل هذه النتيجة أن تفاجئ أي شخص قبل اندلاع الاحتجاجات الجماهيريّة ضد النظام الحاكم في فبراير 2019. ونظرا للسّمعة المدمَّرة فعليًا لجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي ، فإن نتائج الانتخابات مذهلة – بل وحتّى مقلقة. ويبدو أن النظام لم يعد يعتبر أنه من الضروري تقديم تنازلات سياسية. وفيما يتعلق بالحكومة الجديدة ، فإن هذا أيضًا يعني أن الأحزاب المستهدفة من قبل الاحتجاجات الجماهيريّة قد يتمّ تكليفها مرّة أخرى بتشكيل حكومة. و إحتمال إعادة إطلاق التحالف الذي يتألف من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم ، المدعوم في ذلك الوقت من قبل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ، ليس أمرا مستبعدا.
إمكانيّة تحقق هذا التوقّع من عدمه تظلّ غير واضحة ، ويعود هذا لحدّ ما لكون قاعدة السلطة السابقة لبوتفليقة تواجه منافسة في البرلمان. بعد أسبوع من التّصويت ، أعلن النّاطق باسم القائمة “المستقلة” الموالية للجيش “الحصن المتين” ،[6] ياسين مرزوقي ، في مؤتمر صحفي في الجزائر العاصمة ، تشكيل “تحالف برلماني” بعد محادثات مع ممثلي الأحزاب الأخرى والنوّاب. يعتبر هدف هذا التّحالف: “تسريع تنفيذ برنامج الرئيس”. وبحسب مرزوقي ، تحصّلت القائمة على 27 مقعدًا ، وتعتبر نفسها المنافس الرئيسي لجبهة التحرير الوطني و “قوة فعالة على طريق التغيير الحقيقي”.[7] وقد تمّ منح مرزوقي منصة على وسائل الإعلام الجزائرية التي تسيطر عليها الدولة منذ شهور، وهو لا يخفي موقفه المساند للجيش. لا يزال من غير الواضح أي جناح من النظام يدعم القائمة وأي طموحات تسعى إلى تحقيقها ، لكن منافسة شد الحبل حول منصب رئيس الوزراء الجزائري قد تؤدّي عاجلاً أم آجلاً إلى إستبصارصراع السّلطة الغامض المستمّر داخل النّظام.
انتفاضة جماهيرية ورد الفعل المضاد للثورة
في الأثناء ، لا تزال البلاد عالقة في مأزق سياسي. إذ توضح الانتخابات التشريعيّة والمقاومة المستمرة للحراك ضدّ النظام الاستبدادي المتزايد بوضوح أنّ الأزمة السياسيّة في الجزائر لم تنته بعد. لقد نشأت الأزمة بالفعل في فبراير 2019. فمباشرة بعد أن قام “التحالف الرئاسي” بقيادة جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي بترشيح رئيس الدولة بوتفليقة مرة أخرى بشكل غريب لولاية خامسة في الانتخابات الرئاسية ، اندلعت احتجاجات عفوية في منطقة القبائل والعديد من المدن عبر شرق الجزائر ضدّ تجديد ترشيح الّرئيس المُقعد منذ إصابته بجلطة دماغية في عام 2013. وفي غضون أيام قليلة فقط ، سرعان ما تحولت هذه الاحتجاجات إلى حركة جماهيرية مثيرة للإعجاب اجتاحت جميع أنحاء البلاد وحشدت جميع الطبقات الاجتماعية تقريبًا ، داعية إلى استقالة بوتفليقة الفورية وإنهاء النظام السياسي الغامض الذي تآكل بسبب الفساد والمحسوبية. تردد صدى “مكاش الخامسة يا بوتفليقة” بصوت عالٍ في جميع أنحاء الشوارع الجزائرية لأسابيع. وبعد ستة أسابيع من اندلاع التمرد الشعبي السّلمي المستمر،أُجبر الجيش بقيادة رئيس الأركان أحمد قايد صالح في ذلك الوقت على الاستقالة. ومع هذا ، استمرت الاحتجاجات في جميع أنحاء الجزائر ومنذ ذلك الحين كانت موجهة نحو القيادة العسكرية نفسها. لم يكن الحراك راضياً عن التعديلات التجميلية للقيادة السياسية العليا في البلاد التي روج لها قايد صالح. وأصبح “يتنحاو ڨاع” ( التي تعني “ليتنحوا جميعا”) هو الشعار الرئيسي الجديد للحراك.[8]
على الرغم من الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة ضد النّظام في جميع أنحاء البلاد، نظمت قيادة الجيش انتخابات رئاسية في ديسمبر 2019. ورغم قلّة الإقبال والتزوير الانتخابي الواضح ، نصب الجيش عبد المجيد تبون، وهو حليف قوي لقايد صالح ورئيس وزراء سابق، ليعتلي أقوى منصب في الدولة.[9] ومع ذلك ،فقد استمرت الاحتجاجات بلا هوادة في عام 2020 ولم توقفها إلا جائحة كوفيد-19. بعد أن أوقف الحراك احتجاجاته الأسبوعية في مارس 2020 استجابةً للأزمة الصحية، عزّزت السّلطات عملياتها الانتقامية ضد الحراك مرة أخرى[10]. لكن على الرغم من توقف الاحتجاج الذي دام 11 شهرًا وبعد عدّة موجات مباشرة من الاعتقالات ضدّ النشطاء ، تمكنت الحركة مرة أخرى من التعبئة بنجاح في الشوارع في الذكرى السنوية الثانية للحراك ، ممّا أدى إلى اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات. وبعد ذلك بوقت قصير، أعلن تبون إجراء انتخابات تشريعيّة مبكرة وأطلق العنان للشرطة والسلطات القضائية الجزائرية مرّة أخرى. وكشفت دعوات المقاطعة والاحتجاجات ضد الانتخابات أن الاقتراع كان بمثابة مناورة ديمقراطية زائفة على الرّغم من أن تلك الدّعوات ارتدّت من قيادة النّظام. ومع ذلك ، حاول تبون تقليل أهميّة مقاومة الحراك ضد التصويت وأخبر صحيفة لو بوان الفرنسية أن الحراك فقد شرعيّته. وقال إن أقليّة فقط ترفض الانتخابات[11]. وهذا الخطاب ليس جديدًا بأي حال من الأحوال. وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية لعام 2019 ، كانت قوّات الشرطة تقمع المتظاهرين في حين كان ممثلو النظام يتشاجرون بشأن الأغلبية الصّامتة الظاهرة التّي تدعم الحكومة. وعلى عكس مايحدث اليوم ، فقد اندلعت احتجاجات جديرة بالملاحظة في أجزاء كبيرة من الجزائر خلال انتخابات 2019. أمّا اليوم فيستغل النظام بدم بارد ضعف الحراك في الشوارع لوضع حد للديناميكية الثوريّة المتبقية في البلاد.
قمع منهجي ضد المقاومة المدنية
يبدو أنّ حظوظ الحراك تتضاءل في ظلّ هذه الموجة المستمرة من الأعمال الانتقامية. فبعد أن كشفت التعبئة الأخيرة والمحدودة للحركة نقطة ضعف الحراك مرة أخرى، لم يخف النظام منذ شهورأي شك في أنه ينوي استغلال هذا الضعف بأي ثمن. وأصبحت الأعمال الانتقامية أشدّ عنفًا حتّى أنّها باتت تستهدف منظمات المجتمع المدني القائمة أيضًا. وفي حين قوبلت الاحتجاجات بانتشار غير مسبوق وأكثر عنفًا للشرطة في الشوارع، فإن الاعتقالات المستهدفة للنشطاء والصحفيين[12] ورموز المعارضة تتزايد بقوة الآن. كما أصبح المحامون المنتظمون على مستوى تجمّعات شعبيّة لتقديم المساعدة القانونية للسجناء السياسيين هدفًا للسلطات.[13] ووفقًا للجنة الوطنية لتحرير السجناء (Comité National pour la Libération des Detenus, CNLD )، ارتفع منذ شهرمارس عدد السجناء السياسيين من بضع عشرات إلى إجمالي 261 (اعتبارًا من 22 يونيو 2021).[14] و حتى اللجنة الوطنية لتحرير السجناء تعتبر الآن مستهدفة من قبل انتقام الدولة، حيث ألقت السلطات القبض بشكل مؤقّت على العديد من نشطاءها لفترة وجيزة بعد الانتخابات[15]. كما زادت إضرابات الجوع من قبل المعتقلين السياسيين بشكل ملحوظ منذ بداية العام. ففي أوائل يونيو، دخل 80 سجينًا سياسيًا في إضراب جماعي عن الطعام في سجن الحراش سيئ السمعة في الجزائر العاصمة.[16]
في الأثناء ، يتعرض المتظاهرون المعتقلون بشكل متزايد للتهديد والترهيب بل وحتّى التعذيب في حجز الشرطة. و في حين أنه لم تكن هناك في البداية سوى حالات قليلة في عامي 2019 و 2020 حيث أبلغ فيها نشطاء محتجزون عن انتهاكات في أقسام الشرطة، فقد ارتفع عدد هذه التقارير بشكل كبير في عام 2021. ومن أبرز هذه الحالات وليد نكيش. إذ تمّ القبض على الطالب أواخر عام 2019 وكان قد بلّغ عن إعتداءات جنسيّة في مركز للشرطة مطلع عام 2021.[17] كما أن السلطات لم تعد مقيّدة فيما يتعلق بالمزيد من النشطاء البارزين. فقد صرّح الصحفي سعيد بودور الذي تم اعتقاله عدة مرات في مدينة وهران بغرب الجزائر منذ عام 2019 ، بعد فترة وجيزة من اعتقاله الأخير في أبريل بأنه تعرض للضرب والتهديد والإيذاء في حجز الشرطة[18]. منذ شهور و نواقيس الخطر تدق بالفعل في المجتمع المدني الجزائري، حيث تثير هذه التقارير ذكريات ممارسات التعذيب التي مارسها جهاز الأمن الجزائري خلال الحرب الأهليّة في التسعينيات.
وفي الوقت نفسه ، تقيّد السلطات بشكل متزايد حرية التعبيرالتي تنتقد النظام على وسائل التواصل الاجتماعي وتتخذ إجراءات ضد أحزاب المعارضة والمنظمات غير الحكومية المرتبطة بالحراك. فبعد أن داهمت الشرطة مكتب الجمعيّة الثقافيّة SOS باب الواد في حي من أحياء الطبقة العاملة بالجزائر العاصمة واتهمت المنظمة بالقيام ب”أنشطة تخريبية” و الحصول على”تمويل أجنبي”[19] غير مصرح به ، قدمت وزارة الداخلية طلبًا قانونيًا لحل منظمة تجمّع أعمال الشباب (Rassemblement Actions Jeunesse, RAJ)[20] البارزة و المنتسبة للحراك. وبالإضافة إلى هذا ، فإن ثلاثة أحزاب معارضة مرتبطة بالحركة مهددة الآن بالحظر، وتتمثل في كل من حزب العمال الاشتراكي التروتسكي (Parti Socialists des Travailleurs, PST)[21]، والحركة الديمقراطية والاجتماعية اليساريّة (Mouvement Démocratique et Social, MDS) بقيادة فتحي غارس والحزب الليبرالي الاتحاد من أجل التغيير والرقي (Union pour le Changement et le Progrès, UCP) اللذي تترأسه المحامية البارزة زبيدة عسول.
القمع “المقنن”
إن المقلق في الأمر لا يقتصر على التصعيد الهائل في الأعمال الانتقامية ضد المعارضة والحراك فقط، فالحكومة تضغط أيضا من أجل اعتماد أو تعديل العديد من القوانين في البرلمان منذ سنة 2020، و من شأن هذا أن يمهد الطريق لقمع أي شكل من أشكال المعارضة أو انتقاد للنظام على المدى الطويل. يبدو أن النظام يشدد بشكل منهجي قوانين معينة من أجل إضفاء الشرعية على حملة القمع المستمرة والمقبلة ضد الحراك والمعارضة، ويخلق أدوات جديدة للانتقام من منتقدي النظام. فبعد فترة وجيزة من تفشي فيروس كوفيد-19، أصدرت الحكومة الجزائرية تشريعين يمنحان السلطات وسائل إضافية للتعامل مع و تقييد الخطاب الحر الذي ينتقد النظام عبرالإنترنت. كما يمكن استخدام هذا القانون مبهم الصياغة والذي يحظّر التمييز و”خطاب الكراهية” ضد وسائل الإعلام الإلكتروني المعروفة بمواقفها الانتقادية تجاه الحكومة، نظرًا لأنه يؤدي إلى السجن لمدة تصل إلى عشر سنوات لنشرمحتوى تمييزي عبر”المواقع الإلكترونية أو الحسابات”.[22]
علاوة على ماسبق، فإن تعديل قانون العقوبات يجرم أي خطاب “يخل بالنظام والأمن العام” أو يهدد “أمن الدولة أو الوحدة الوطنية”. ويمكن معاقبة الجرائم المقابلة بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات. بينما يجرم القانون أيضًا تلقي الأموال الأجنبية إذا ما تبيّن أنّها تقوض “أمن الدولة” أو “الوحدة الوطنية” أو “المصالح الأساسية للجزائر”. و يُنظر إلى تعديل قانون العقوبات خاصّة على أنه انتهاك كبير لحرية التعبير وحرية الصحافة. وانتقدت منظمة مراسلون بلا حدود (Reporters sans Frontières, RSF) بشدة “هذا القانون المبهم والمتشدّد” وصرّحت في بيان صحفي أنه مصمم لـ”مراقبة وترهيب مستخدمي الإنترنت والإعلام الإلكتروني” و “تكميم أفوه الصحافة”.[23]
في الأثناء، من المرجح أن تكون هناك عواقب وخيمة لمحاولات السلطات الأخيرة تشويه سمعة الحراك والمنظمات والأفراد المرتبطين به عبر إثارة اتهامات تتعلق بالإرهاب. حيث أشار ممثلو النظام مرارًا منذ عام 2020 إلى وجوب اعتبار الجماعات النشطة في الحراك منظمات إرهابية. وعلى الرغم من أن هذا كان بلاغيّا في البداية، فقد اتهم المدعون العامون في وهران رسميًا في أبريل 2021 الصحفيين سعيد بودور وجميلة لوقي والحقوقي قدور شويشة وتسعة متهمين آخرين بالانتماء إلى منظمة إرهابية.[24] و في يونيو، وافق النظام على تعديل آخر لقانون العقوبات يوسّع تعريف الإرهاب في القانون الجزائري ويمهّد الطريق لإنشاء “قائمة وطنية للأشخاص والكيانات” التي يجب أن تصنفها الدولة على أنها “إرهابية”.[25] قبل فترة وجيزة ، كانت السلطات الجزائرية قد صنّفت حركة رشاد الإسلامية المتمركزة أساسًا في أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحركة من أجل تقرير مصير في منطقة القبائل (Mouvement pour l’Autodétermination de la Kabylie, MAK) ، التي تأسست في عام 2001 ويُزعم أنها اخترقت من قبل المخابرات الجزائرية ك”منظمات إرهابية” [26]. وفي حين أن مزاعم الإرهاب ضد الجماعات الإسلامية تبدو وكأنها مناورة تكتيكية، فإن استخدام النظام الموسع للاتهامات المتعلقة بالإرهاب موجه في المقام الأول نحو منطقة القبائل واحتجاجات الحراك القوية التي تستمر بلا هوادة في الولاية. إذ تستخدم قيادات النظام منذ عام 2019 وبشكل متزايد خطابًا طائفيًا يهدف إلى تقسيم الحراك والمعارضة على أساس الانتماءات العرقية من أجل التلاعب بالأمازيغ والعرب ضد بعضهم البعض. ويحاول النظام عن قصد استفزاز معارضة القبائل وجعلها متطرفة، مكرّرا بشكل صارخ التكتيكات التي كان يطبقها النظام الاستعماري الفرنسي في الجزائر
استمرار الصراع على السلطة داخل النظام
في حين ينقلب النظام العسكري بشكل متزايد و بالإجماع ضد الحراك ، تستمر الصراعات الشرسة على السلطة دون تروبين مختلف فصائل فئات الدولة المبهمة والمشرذمة. ولا يزال من غير الواضح إلى أي مدى قد أعادت النخبة الحاكمة تنظيم نفسها منذ الوفاة المفاجئة لقائد الجيش السابق قايد صالح في ديسمبر 2019. وسرعان ما تولى موالوه زمام المبادرة داخل النظام بعد الانتفاضة الجماهيرية التي تحققت في أوائل عام 2019 وقضوا تدريجيا على العشائر المتنافسة على النفوذ السياسي والامتيازات الاقتصادية في تيار الثورة. واعتبر قايد صالح القوة الدافعة وراء قرار الجيش عزل بوتفليقة والوفد المرافق له من السلطة وتحييدهم باعتقالات لا حصر لها ودعاوى فساد. في ذلك الوقت، قام القضاء أيضًا بقمع عشيرة محمد توفيق مدين، الرئيس السابق لجهاز المخابرات العسكرية الجزائري (Département du renseignement et de la Sécurité، DRS) الذي كان يُنظر إليه سابقًا على أنه لا يمكن المساس به، وقام بجره وبعض حلفائه الرئيسيين بحزم للوقوف أمام المحاكم الجزائرية.
مباشرة بعد تولّى تبون -حليف قايد صالح- رئاسة الجزائر في عام 2019، توفي قائد الجيش فجأة. و بعد فترة وجيزة، شرع القضاء العسكري في اتخاذ إجراءات ضدّ شخصيات النظام المحسوبة على قايد صالح. وأصبح رئيس الأركان أكثر قوة منذ إقالة بوتفليقة جاعلا مطالبته بالقيادة داخل طبقة الدولة أمرا واضحا لا لبس فيه ،لكنه لم يخل من إثارة المقاومة داخل الطبقة الحاكمة. ولاذ العديد من كبار الضباط العسكريين الذين يُعتبرون مرتبطين بجزء من نظام قايد صالح بالفرار من الجزائر إبّان وفاته، بينما يُحاكم آخرون في محاكم عسكرية منذ ذلك الحين.[27]
اليوم، ورغم أن طموحاته لا تزال غير واضحة، يمثّل رئيس الأركان الجزائري الجديد السعيد شنقريحة بلا شك الرّجل القوي الجديد للمؤسسة العسكرية. إذ تواصل السلطات القضائية الجزائرية تحت قيادته قمع حلفاء بوتفليقة السابقين[28]، بينما يتم إطلاق سراح وتبرئة شخصيات أخرى من النظام من جميع التهم المنسوبة إليهم.[29] في الأثناء، يبدو أن النظام التابع لمدين قد تمت إعادة تأهيله من وراء الكواليس – جزئيًا على الأقل – مما يمنح شنقريحة خيارات لمواصلة الضغط على تبون وحماية مصالح الجيش وأجهزة المخابرات. إن الانتخابات التشريعية والتشكيل الوشيك لتحالف جديد هي مفاتيح الضغط المستمرعلى السلطة داخل الطبقة الحاكمة لأنها تمهد الطريق فعليًا لهدنة جديدة بين مختلف عشائر النظام. وإذا لم يتم التوصل إلى حل وسط بين تبون وشنقريحة، فإن تدخل الجيش يعتبر ممكنا. وقد يدلّ ظهور شنقريحة مرارًا وتكرارًا بملابس مدنية في التلفزيون الجزائري أثناء علاج تبون في مستشفى ألماني لأشهر في عام 2020 على طموحاته السياسية.
[1] https://www.inter-lignes.com/alger-assiegee-la-118e-marche-du-hirak-interdite/
[2] https://twitter.com/SaidEpsilonov71/status/1403716026701914117
[3] https://twitter.com/SaidEpsilonov71/status/1403675046049202179
[4] https://www.inter-lignes.com/legislatives-le-rcd-denonce-un-gonflement-du-taux-de-participation/
[5] https://www.aps.dz/algerie/124026-legislatives-du-12-juin-le-conseil-constitutionnel-proclame-les-resultats-definitifs
[6] http://bourse-dz.com/hisn-el-matine-premiere-liste-a-avoir-depose-son-dossier-de-candidature-yacine-merzougui-explique-les-raisons/
[7] https://www.inter-lignes.com/apn-une-initiative-pour-la-formation-dune-nouvelle-alliance-presidentielle/
[8] https://www.youtube.com/watch?v=kYT-O4glR54
[9] https://www.rosalux.de/en/publication/id/41414
[10] https://www.rosalux.de/news/id/41937/zwischen-pandemie-bekaempfung-und-politischer-repression
[11] https://www.voanews.com/africa/algeria-prepares-legislative-elections-authorities-crack-down-dissent
[12] https://www.amnesty.org/en/documents/mde28/4064/2021/en/
[13] https://www.observalgerie.com/abderraouf-arslane-incarcere-appartenance-rachad/2021/
[14] https://www.facebook.com/comitenationalpourlaliberationdesdetenusCNLD
[15] https://radio-m.net/une-enseignante-membre-du-cnld-et-abdelali-rezagui-arretes/
[16] https://www.lavantgarde-algerie.com/article/la-lutte/80-detenus-la-prison-del-harrach-entament-une-greve-de-la-faim
[17] https://www.tsa-algerie.com/alerte-affaire-walid-nekiche-le-parquet-ordonne-louverture-dune-enquete/
[18] https://radio-m.net/said-boudour-a-t-il-ete-a-son-tour-torture/
[19] https://cihrs.org/algeria-change-within-continuity-the-2020-constitutional-revision/?lang=en
[20] https://www.inter-lignes.com/le-ministere-de-linterieur-engage-une-procedure-judiciaire-contre-le-raj/
[21] https://www.lematindalgerie.com/le-pst-menace-dinterdiction-par-le-pouvoir
[22] https://cihrs.org/algeria-change-within-continuity-the-2020-constitutional-revision/?lang=en
[23] https://rsf.org/en/news/fake-news-bill-will-tighten-gag-press-freedom-algeria
[24] https://www.frontlinedefenders.org/en/statement-report/joint-statement-algeria-terrorism-charges-brought-against-human-rights-defenders
[25] https://www.tsa-algerie.dz/code-penal-lalgerie-elargit-la-definition-de-lacte-terroriste/
[26] https://www.elwatan.com/a-la-une/haut-conseil-de-securite-le-mak-et-rachad-classes-organisations-terroristes-19-05-2021
[27] https://www.inter-lignes.com/le-general-bouazza-declasse-au-grade-de-djoundi/
[28] https://www.inter-lignes.com/arrestation-de-lancien-ministre-des-relation-avec-le-parlement-tahar-khaoua/
[29] https://www.tsa-algerie.com/cour-dalger-lex-sg-du-fln-mohamed-djemai-acquitte/
محتوى هذا النص لا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ