الأبعاد المناخية و البيئية و تطوّر النوايا و المشاريع الهجرية: دراسة حالة الصيد الساحلي و الحرفي بمنطقتي جرجيس وبوغرارة
الترجمة من العربية إلى
اإلنجليزية: ألفة دربال
تحرير ومراجعة:
د. ايمان اللواتي
“البحر ليس غابة “. هكذا يصف س. خ.[1] الفضاء البحري بتونس وفي جرجيس. فللبحر الأبيض المتوسط معايره وتقاليده وثقافته وقوانينه التي تنظمه، فهو ديناميكية مجتمعية واجتماعية واقتصادية وحضارية، وهو سردية وتاريخ أوطان ومجتمعات. وحسب وصف المؤرخ الفرني فرناند بورديل فالسفر في البحر المتوسط “يعني العثور على عالم الرومان في لبنان، وآثار ما قبل التاريخ في سردينيا والمدن الاغريقية في صقليّة، والوجود العربي في اسبانيا، والإسلام كما خلّفه الاتراك في يوغسلافيا، ويعني المتوسط الانغماس في أعمق أعماق القرون الغابرة التي أقيمت خلالها البناءات الجلموديّة في مالطا والأهرام الفرعونية في مصر. ثم إنه يعني كذلك العثور على معالم قديمة جدّا ما تزال حيّة قائمة، تجاور معالم حديثة وعصرية جدّا….”[2] ورغم الحضارة التاريخية والمكانة الاقتصادية لهذا البحر، إلا أنّه قد تحوّل إلى غابة تحكمه شريعة الغاب: فكل شخص يتصرف كما يريد والقوي يأكل الضعيف. ففي سياق توسّع النيوليبرالية المعاصرة وتطور المجتمعات الصناعية التي تنتج الملوثات العابرة للحدود وللقوميات، صار البحر مرتعا للصيد العشوائي ومكبَا للنفايات.
كما أضاف سياق التغيرات المناخية، الطبيعية والمرتبطة بالتأثير البشري، تعقيدات لهذه الأوضاع. فمنذ سنة 1992، وقعت 190 دولة على أوّل معاهدة بشأن تغير المناخ والمدرج في جدول أعمال القرن الحادي والعشرين الناتج عن قمة الأرض الثالثة. وقد تم تطويرهذه الاتفاقية استجابة إلى الضغط السياسي الذي كان موجودا بالفعل لصالح تدخلات الدولة للحد من الارتفاع الحتمي في ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لأرض. ومنذ ذلك الحين سيتغير تعريف مصطلح تغير المناخ، منتقلا من المعنى المعتاد، أي “المناخ يتغيّر” إلى معنى جديد: «تغيّر المناخ مؤخرا بسبب البشر”[3]. ولن كانت أسباب تغير المناخ مرتبطة بأفعال البشر فإن نتائج وتأثر تغير المناخ تختلف اختلافا كبيرا ووفقا لعلاقات دول الشمال والجنوب، فسكان هذه الأخيرة يبدو أنهم الأكثر تأثرا بتغير المناخ في وقت يساهمون فيه بشكل أقل في تشكل هذه الظاهرة مقارنة بدول الشمال العالمي، وفقا للفئات الاجتماعية والطبقية والنوع الاجتماعي التي ينتمون اليها.
ففي المجتمع الصيدي، خلقت التغيرات المناخية والحالة التمييزية بن دول الشمال والجنوب، إضافة إلى التلوث وتكثّف ظاهرة الصيد العشوائي الذي يُسهم في تدمير قاع البحر والنظم البيئية طبقتان متناحرتان: الطبقة الفقيرة المتكونة من صغار البحّارة والطبقة الثرية المتكونة من كبار الصيادين، أو كما تحلو ل ش. ب. التسمية والتقسيم ب[4] “فقراء الصيد” ويعني بذلك الصيد الساحلي، و “إرهاب الصيد” ويقصد بذلك الصيد العشوائي، وغالبا ما يكون رواد هذا النوع الأخير من الصيد هم من كبار مالكي السفن. فقد أصبح البحر في جرجيس وبوغرارة مكبا للنفايات ومرتعًا لأصحاب السفن الكبرى وبعض القراصنة والمليشيات. أما التغير المناخي والبيئي في ظرفية يستولي فيها كبار مالي السفن على الثروة البحرية فسيُضاعف من مشاكل الفقر الموجودة مثل الإقصاء والتهميش وعدم إدماج المجتمعات المتضررة مثل صغار البحّارة في عمليات صنع السياسات الوطنية والدولية. إضافة إلى ذلك فإن التغيرات المناخية لها آثار على النظم البيئية والحياة البرية والبحرية، مما سيؤثر على الحماية والإدارة والاستخدامات المألوفة للأنواع والموارد البحرية والبرية المهمة ثقافيا واقتصاديا، ولا يتعلق الأمر هنا بمدى قدرة المجتمعات على التكيف وممارسة المرونة في مواجهة التغير المناخي، بل يتعلق الأمر أيضا بإعادة “توطين” البحر والحيوانات والنباتات للتكيف مع التغيير والتعامل مع تداعياته.[5] ولكن في ظروف قد تعجز فيها الدولة في عملية التكيّف أو مقاومة المناخ فإنّ الهجرة نحو فضاءات أخرى تكون أحد الحلول الممكنة ل “توطين” البحر في مكان يتجسد فيه ملامح الحُلم.
التغيرات المناخية واللاعدالة البيئية ليست قضيّة محليّة بل كونية، ففي كل أنحاء العالم أدخل العديد من السياسيون (أو السياسيون المحتملون) مفردات تغيير المناخ في حملاتهم الانتخابية أو التعبوية، واعتبروها من أكثر القضايا إلحاحا في عصرنا. ويتصدر تغير المناخ باستمرار قصص الصفحات الأولى للمجلات والصحف السائدة وفي شبكات التواصل الاجتماعي. ويساهم تغيرّ المناخ في التأثير على ظواهر اجتماعية عديدة ومتنوعة، لذلك فإنّ هذه الدراسة هي محاولة لتجنب التفسير والتعاطي السطحي لتغير المناخ وعلاقته بالهجرة.
بعد 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011، حلّقت شمس سياسية جديدة في سماء الديمقراطية التمثيلية التونسية والتي تآكلت وانتهت في وقت مبكر بعد 10 سنوات من تشكلها، وصارت أحد عنوانين اللصوصية الاجتماعية والخدعة السياسية. وفي عيد الجمهورية التونسية من سنة 2021 عمل الرئيس التونسي قيس سعيد على حلّ الهيئة البرلمانية وعبّد الطريق نحو مسار سياسي جديد بدستور وبرلمان وهياكل وقوانين جديدة. في كل هذه التحولات السوسيولوجية والسياسية العميقة، تعالت أصوات مجتمع الصيد الساحلي والتقليدي بجرجيس وبوغرارة مطالبين بتحسن ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والمهنية ووقف السفن التي تعمل على تدمير الثروة البحرية والنظم البيئية وإيجاد حلول لوقف بعض ممارسات القراصنة والمليشيات الليبية. وتأتي هذه المطالب الشرعية في ظروف تمر فيها أغلب دول العالم بتغيرات مناخية ألحقت الضرر بالثروة الفلاحية والبحرية وأصبحت فيها عديد البِحار والمحيطات متأثرة بفعل نفايات الشركات الباعثة للملوثات وتغيرّ المناخ.
رغم التحولات السياسية التي عاشها المجتمع التونسي بعد سنة 2011 وبعد 25 جويلية 2021، ورغم الحركات الاحتجاجية إلا أنّ مطالب المجتمع الصيدي لم تتحقق كليا أو جزئيا، وهكذا استمرت المعاناة وتوسعت ديناميكية وخارطة التهميش لتتصاعد مشاعر الخيبة والإحباط، حيث أن البحر المتوسط لم يعد يلبي الحاجيات الاجتماعية والاقتصادية لبحارة الصيد الساحلي والحرفي بجرجيس وبوغرارة في سياق أصبحت فيه التغترات المناخية واللاعدالة البيئية أحد العوامل التي تهدد الثروة البحرية والسمكية والتي تُشكل مورد رزق هذه الفئات الهشة والمسحوقة.
بناء على ما تقدم وربطا بعديد التساؤلات الفرعية والحالة البحثية فإن الإشكالية المركزية لهذه الدراسة هي الآتية:
إلى أي مدى يمكن اعتبار التغيرات المناخية واللاعدالة البيئية واستنزاف الثروة السمكية عن طريق الصيد العشوائي والغير القانوني عواملا ساهمت في تطور المشاريع والنوايا الهجرية سواء كان ذلك لبحارة الصيد الساحلي والحرفي أو لأبنائهم وعائلاتهم في سياق أصبح فيه البحارة محاصرين في صحراء بحرية جراء التقسيم غير العادل للحدود وجراء تحول البحر إلى مرتعِ لبعض القراصنة وفي ظرفية كانت فيها استجابة الدولة التونسية بطيئة وشبه منعدمة؟
إلى أي مدى يمكن اعتبار الازمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها مجتمع الصيد الساحلي والحرفي بجرجيس وبوغرارة عواملا أدت إلى تطور وتشكل القرار الهجري في سياق يتسم فيه هذان المجتمعان بتقاليد هجرية وبقوة الشبكات المجتمعية المحلية؟
ربطا بالإشكالية المركزية وبالخصوصية الثقافية والمجتمعية والاقتصادية لمجتمع الدراسة فإن فرضيات البحث مفادها:
تمثل التغيرات المناخية والأزمة البيئية التي تعيشها شواطئ جرجيس وبوغرارة عواملا أساسية أدت إلى تشكل وتطور النوايا الهجرية الفردية والعائلية في سياق أصبح فيه البحر مرتعًا للصيد العشوائي ولبعض القراصنة، وفي ظروف سياسية عجزت فيها الدولة عن حل الإشكاليات المتعلقة بقطاع الصيد الساحلي والحرفي.
إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بمجتمع الصيد الساحلي والحرفي بجرجيس وبوغرارة هي العامل الأساسي الذي عبّد الطريق نحو تشكل وتطور النوايا الهجرية في ظرفية يمر فيها البحر المتوسط بتغيرات مناخية وأزمة بيئية وفي سياق يتسم فيه مجتمع الدراسة بقوة ومتانة الشبكات الاجتماعية المحلية وبتقاليد وثقافة هجرية تاريخية.
بعد طرح الإشكالية وتقديم الفرضيات، وحول التحديات التي يوجهها القطاع الصيدي بتونس وتحديدًا قطاع الصيد الساحلي بجرجيس والحرفي ببوغرارة، جاءت هذه الدراسة لتعالج هذه التحديات وتبحث عن العلاقة بن التغيرات المناخية والتدهور البيئي وبين تطور المشاريع والنوايا الهجرية.
[1] مقابلة مباشرة أجريت يوم 8 ماي 2023 على الساعة العاشرة صباحًا بمقر جمعية البحار التنموية البيئية.
[2] فرناند بروديل، البحر المتوسط، ترجمة: عمر بن سالم، أليف، منشورات البحر المتوسط، تونس، 1990 ص 8.
[3] André Desrochers, Conserver le climat ? Penser la conservation de l’environnement, Les Presses de l’Université
Laval, 2022, pp 163-194. P 164.
[4] مقابلة مباشرة أجريت يوم 12 ماي 2023 على الساعة العاشرة والنصف صباحًا بالميناء الصيدي بجرجيس، مع ش. ب. صاحب مركب صيد ساحلي وفاعل بجمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس.
[5] Susan Carte, Mark Nuttal, Anthropology and climate change: From encounters to actions, Left Coast Press, Inc, California, 2009. P 12.