أزمة المعنى وتطوّر مشاريع الهجرة في المجتمع التونسي: قراءة سوسيو- أنثروبولوجيّة
في قضيّة الهجرة، ترتكز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتونس حتى اليوم على اتفاقية الشراكة 1995 والتي دخلت حيّز التنفيذ سنة 1998 والتي تنص صراحة على مكافحة الهجرة “غير النظامية” وتوسيع إجراءات إعادة المواطنين التونسيين إلى وطنهم، وذلك في سياق “تعطّلت فيه حركية تنقل التونسيين منذ سنة 1995 حينما تمّ إنشاء منطقة “شنغن” وشريطة الحصول على تأشيرة… وبالتالي عملية “شنغنة” البحر الأبيض المتوسط “.[1]
من جهتنا، نعتبر أنّ سياسات الهجرة الأوروبية، وتشديد الرّقابة البحريّة والبريّة واعتماد مقاربة “أمننة” الهجرة وسياسات تصدير الحدود هي أهمّ وأوّل العوامل التي ساهمت في تدفق المهاجرين من دول الجنوب نحو الشمال بطريقة غير نظامية. ولكن لا يمكن أيضا نُكران العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والبيئية والمناخية والثقافية ودور شبكات التهجير وعلاقات القرابة والمجاورة والزّمالة وأبناء الحيّ الواحد والأسر في عمليّة اتخاذ قرار الهجرة سواء كان بطريقة نظامية أو غير نظامية[2].
وفي هذا السّياق لا تُشكّك هذه الورقة في العوامل سالفة الذكر، بل هي محاولة إضافة استنتاجات رصينة للمُدوّنة التحليليّة والتفسيريّة لظاهرة الهجرة في تونس. وهكذا فإننا سنعمل على تحليل قرار الهجرة من منظور فكرة اللاّمعنى والزمنية[3] المعطوبة وزمن اللايقين الذي يتشكّل في ظرفية لم تنجح فيها النّخبة السياسية الحاكمة في وضع سياسات رصينة وقيَميَّة متسّقة سياسيّاً وسوسيولوجيا وأيديولوجيا، لذلك فإنّ هذا المقال يبحث عن إشكالية مركزية مفادها:
كيف يمكن للخرائط الزمنية بعد سنة 2011 والتي هي في خطّ استمرارية قويّة مع الماضي أن يكون لها الدور الحاسم في تشكل قرار الهجرة في تونس؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار أنّ أزمة المعنى والمشاعر المختلطة لطقوس العبور وتشكل زمن اللايقين أن تكون لها الأدوار الحاسمة في اتخاذ قرار الهجرة؟
الثورة التونسية واستمرارية الخطاطة الزمنية
إنّ الطّريقة التي يتمّ بها تنظيم الوقت وإدراكه وإنتاجه لا تعتمد فقط على الفعل الجماعي الذي يؤدّيه أفراد المجتمع أو مجموعة اجتماعية، ولكن أيضا على الظروف الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن نجدها في مكان معيّن. ويفرض أيضا كلّ شكل من أشكال الإنتاج نظامَه وبِنيته الزمنية. فلأجل الإبحار في الوقت، ينتج الناس مجموعة متنوعة من “الخرائط الزمنية” Time-maps.[4] ولكن يمكن كسر هذه الخرائط في مراحل أو أحداث استثنائية مثل الثورات أو التحولات السياسية الكبرى التي تجلب معها في الغالب مفهوما جديدا للتوقيت، فمثلا غيّرت الثورة الفرنسية اسم الأشهر وفقا للأنشطة الإنتاجية، وقدّم الحزب الفاشي في إيطاليا “السبت الفاشي“.[5] فالإيقاع الزمني هو إيقاع نموذجي لنمط إنتاج معيّن أو إدارة بيروقراطية أو إنتاج حكومي إلخ. وهكذا فإنّ كسر الخطاطة الزمنية السابقة يعني تدمير شكل الإنتاج والسياسات الحكومية التي تدعمه.
انتفض العاطلون سنة 2008 في الحوض المنجمي[6] وفي ديسمبر 2010 انطلاقا من سيدي بوزيد[7] ضدّ روتين البطالة والأيام التي قضوها في المقاهي رافعين شعارات مضمونها أن يسافروا من فضاء المقاهي إلى عالم العمل، فهم باحثون عن كسر الممارسة اليومية المملّة والمقلقة. فالحياة في المقاهي في المناطق الداخلية والريفية والأحياء الحضرية الشعبية هي في الحقيقة ليست عادات محليّة بل نتيجة لسياسات اقتصادية انطلقت منذ عام 1986 أو ما يعرف بالإصلاحات الهيكلية التي نجحت في إنتاج جيش من العاطلين عن العمل، وهكذا تصبح المقاهي عادة محليّة ويومية، وفضاء لتشكّل العلاقات الاجتماعية بين العاطلين والعاملين في تشغيل هشّ.
من جهة أخرى، لا تنحصر شعارات التعبئة الشّعبية لعام 2008 أو ثورة 14 جانفي 2011 في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل طالب المحتجّون بتوفير كل المقومات السوسيولوجية للحياة من ماء وغذاء ومرافق عمومية وصحيّة وثقافية، لذلك فقد كانت الشعارات المرفوعة من “شغل حريّة كرامة وطنية” أو “التشغيل استحقاق يا عصابة السّراق”» تترجم مسألة الكرامة التي اعتبر المحتجون أنّها استبيحت وأنّهم عازمون على استرجاعها وهذه الكرامة لا تنحصر في الشّغل والسكن والأمن الغذائي، بل تتعدى ذلك كلّه إلى المقوّمات الثقافية الحديثة للحياة الكريمة. «[8]
بعد سنة 2011، وبعد 25 جويلية 2021، لم تنجح كل الحكومات المتعاقبة في تغيير الخطاطات الزمنية وابتكار أنماط إنتاج جديدة إلى الحدّ الذي صار فيه أغلب العاطلين وحتّى الموظّفون من الطّبقات الوسطى والعاملون في تشغيل هشّ بمختلف متغيراتهم العمرية والجندرية والتعليمية يرددون عبارة مفادها “نَفْسِ النَهَارْ يِتْعَاوُد” (نفس اليوم يتكرّر). وكأـنّه لا جديد لهم تحت الشّمس.
تُقرّ الفلسفة بأنّ الملل يثير تساؤلات عن المعنى، لذلك يجب أن تحتوي حياتنا على نوع من المحتوى. وفي هذا السياق يجادل الفيلسوف النّرويجي لارس سفندسنLars Svendsen أنّه من “الممكن تتبع نمط الملل مقسّما إلى ظرفية وجودية. يظهر الأوّل حينما نرى حالة معيّنة على أنّها مملّة “مزاج عابر”، والثاني يشهد على أزمة المعنى المنسوبة إلى الحياة، أو العالم أو حالة الفرد”. [9]
إنّ هذا الشّعور ب “اللامعنى” يتقاسمه العديد من التّونسيين العاطلين عن العمل والمهمّشين، حيث يحاولون الهروب من الملل من خلال الكحول والتدخين والأنترنات ولعب القمار الخاصّة بالرياضة[10]، أو ارتداد قاعات الرياضة أو القيام برحلات ترفيهية أو التخييم البرّي لمن يمكنه القيام بذلك، وحينما لا يحدث أي شيء من هذا فإنّ السماح بمرور الوقت هو نشاط حقيقيّ يُحدّد هوية العاطلين. وما يبدو أنّه مضيعة للوقت هو جهد متبادل يهدف إلى إدارة الحاضر. إنّ شرب القهوة والذهاب إلى قاعة الألعاب وممارسة الرياضة أو الأنشطة الفنية هي استراتيجيات لـ”قتل الوقت”. وبما أنّ هذه الأمور ليست أشكالا من العمل الرأسمالي، فهي مؤشرات لظاهرتين مترابطتين: “الأزمة الاقتصادية للبلاد التي حرمت الكثيرين من العمل بأجر، وجهود هؤلاء الأشخاص لتحويل الحياة اليومية إلى شيء آخر غير مجرّد مضيعة للوقت.”[11]
إنّ شقاء الشباب وأغلب الفئات الهشّة بتونس وتعاسته، “يتجلّى في المفاهيم والمشاعر أكثر من تجليه في الأرقام، بدءا بالشعور المتجذر والشائع بأنّ المستقبل مسدود.”[12] وهذا الشعور سينتج عنه سيكولوجيا حالة خوف من مستقبل ضبابي، فـ»”الخوف هو نواة القلق“، هذا ما قاله متخصص في معالجة المصابين بالقلق Jim Folk، فالإنسان يخاف من إمكانية حدوث أمر سيء أو من ضرر ما قد يصيبه في المستقبل. ومن ثَمَّ يتولّد لديه شعور بعدم الأمان وغياب السكينة بل وحتى بالتهديد الذي قد يحدق به في أي وقت. فتشتدّ حدّة الخوف شيئا فشيئا أمام شبح المجهول وغموض الظروف. «[13]
يتشكّل النظام الزّمني في المجتمع التونسي من خلال عجز السّاسة عن تدبير الأزمة السوسيو-اقتصادية ونجاحهم في تشكيل ثقافة اللاّمعنى وإفراغ الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية من كلّ القِيَم التي من شأنها أن تُيسّر عملية التنمية والتقدم والتّطور. وهكذا فإن المخططات الحكومية بعد سنة 2011 وبعد 25 جويلية 2021 والتي هي في خطّ استمرارية قويّة مع المقاربات الاقتصادية زمن الدولة التسلّطيّة (1956 – 2010) هي تذكير للعاطلين باستحالة الحصول على وظيفة، وبالتالي فإنّ فعجز العاطلين عن التوفيق بين حياتهم اليومية والإحساس بالتقدم، يجعلهم وكأنّهم جالسون في “غرفة انتظار التاريخ“.[14]
جدير بالذكر أنّ انتظار التغيير وإيقاف عجلة الزمن هما نتاج سياسات حكومية. ففي الفترة الانتقالية بعد الثورة التونسية التي تميّزت بعدم اليقين، “يثبت لنا أنّ الانتظار مسألة ترقيع وارتجال وأسلوب، يتمّ نسجه في التفاعلات اليومية وجها لوجه بين المسؤولين والسّاكنة. وفي ظلّ غياب الموارد المادية، يسعى المسؤولون المحليون إلى وقف غضب المحتجّين ونفاد صبرهم في العثور على الوظيفة أو حلّ عاجل لمشاكلهم بأسلوب فنّيّ يجعلهم ينتظرون.”[15] وقد التجأت كل الحكومات المتعاقبة تقريبا إلى حلول وقتية وغير ناجعة بغاية شراء السِّلْم الاجتماعيّة مثل التوظيف في الحضائر أو شركات البيئة والغراسة والبسْتنة والانتدابات الهشّة وغير المدروسة مع سياسة “الانتظار”.
وفي ظلّ غياب الموارد المادية وبرامج وتصورات متّسقة أيديولوجيا وسوسيولوجيا والتّعويل على التّشغيل الهشّ والتّرقيع والارتجال، تعتمد الحكومات على الاستخدام السياسي للزمن ويصبح “الانتظار عبارة عن أسلوب حكم في تونس[16]“. وهكذا ظلّ المجتمع التونسي “في انتظار غودو” بعبارة الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت في مسرحيته الشهيرة.[17] وبالتالي في انتظار المعاني التّي ستشكل الحياة وترسم الخرائط الزمنية، ولكنْ، يبدو أنّ المسألة تجاوزت الزمنية وصارت إحدى دلالات اللايقين التي أصابت فئات تونسية عديدة.
زمن اللاّيقين والمشاعر المختلطة لطقوس العبور
تُعتبر البلاد التونسية عشيّة الثورة “دولة شابّة”، حيث نما السكان التونسيون بشكل أقوى خلال العقد 1975-1985 وارتفع من 5.6 إلى 7.5 مليون وبالتالي فإنّ هذه الأجيال التي تتراوح أعمارها بين 25 و30 سنة في عام 2010 هي الأكثر عددا.[18] إضافة إلى ذلك فقد ارتفع عدد المتعلمين والحاصلين على شهادات جامعية زمنَ انتفاضة الرديف أو الثورة التونسيّة، وهذا ما يترك فرضية العلاقة بين التحولات الديموغرافية والاحتجاجات، والصلة بين التعليم والتمرّد. فقد استنتج المؤرخ البريطاني لورنس ستون أنّ القلاقل السياسية تبدأ ما إن تبلغ نسبة المتعلمين في صفوف الشبّان 50 في المئة من إجمالي السكان.[19]
يجد الاحتجاج بكلّ أشكاله من مظاهرات سلمية ونصب الخيام والاعتصام والمواجهات مع السلطات الأمنية تفسيراته في النظام التعليمي، وتنطوي أوجه القصور هذه على الإخفاق في الانتقال من المدرسة إلى العمل، ومن العمل إلى بناء أسرة. وتعبّر هذه السلسلة الثلاثية (المدرسة، العمل، تكوين أسرة) عن التمثّلات الاجتماعية المحليّة والمستوحى من مفهوم دوركايم عن التمثّلات الجماعية، ويتمّ تعريفه على أنّه “البناء الاجتماعي للمعرفة العادية والتي يتمّ تطويرها من خلال القيم والمعتقدات المشتركة بين مجموعة اجتماعية متعلّقة بأشياء مختلفة (أشخاص، حدث، فئات اجتماعية…) وتؤدي إلى رؤية مشتركة للأشياء والتي تتجلى خلال التفاعلات الاجتماعية”.[20] فالتمثلات الاجتماعية مفهوم مهمّ لفهم الفعل فرديا كان أم جماعيا.
لا يمكن حصر الشباب في فئة عمرية باعتبار أنّ “الشباب ليس سوى كلمة.”[21] ففي تونس تشمل حياة البالغين مغادرة منزل الوالدين، مرورا بالزواج، وبناء منزل لإيواء الزوجين والأطفال المستقبليين… والدخول في الحياة العملية أي كسب الدخل بنفسه.[22] ولكن كانت وظلت البطالة حاجزا أمام دخول الفرد للحصول على استقلاليته المالية ودخوله إلى مرحلة البلوغ عن طريق تأجيل مغادرة منزل الوالدين والزواج.
إنّ التوظيف هو مركز المطالب التي يعبّر عنها المحتجون سنوات 2008 أو 2010 أو في ربيع 2017 في “الكامور” وغيرها من التحركات الاحتجاجية برهانات اجتماعية، فالتوظيف والدخل الشهري يجعل من الممكن تحقيق الانتقال من الشباب إلى الرُّشد. مع العلم أنّ أغلب المحتجّين في المناطق التّي عرفت تناميًا للاحتجاج وغلق مؤسسات إنتاج الفسفاط مثل المدن المنجمية[23] هم عاطلون عن العمل وغير متزوّجين وتتراوح أعمارهم بين الخامسة والعشرين وصولا إلى الأربعين عاما وقد يكون أكثر من الأربعين في بعض الأحيان. حسب الدراسة الميدانية التي أجراها زهير بن جنّات في القرى المنجمية التي شملت 190 استبانة موجهة إلى الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و40 سنة، اتضح أنّ معدّل العزوبية يساوي 75% لنستنتج من خلالها أنّ تأخر سنّ الزواج هو حقيقة ملموسة. فلم يعد الزواج يهمّ الشباب دون العشرين عاما، ونادرا ما يتزوج الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاما فالأرقام كشفت بشكل كبير أنّ معدّل العزوبية في الفئة العمرية 20-25 حوالي 90%، ويتجاوز 50% بالنسبة إلى الفئة العُمرية 30-35 سنة، أما بالنسبة إلى الفئة العمرية 35-40 سنة فيقلّ عن 40%.[24]
يشهد انتشار العزوبية على أزمة نموذج الزواج التي لا تنبع من السّخط تجاه هذه المؤسسة بقدر ما تنبع من الصعوبات المادية والاقتصادية التي يواجهها الشباب. إذا كان الشباب “مرحلة انتقالية” transitional phase، فإنّه يصبح غير مؤكد مع تغيّر سن الزواج وزيادة مدّة الدراسة، وتصبح البطالة والانتظار هي القاعدة.[25] وفي سياق حزام الانتقال من حالة إلى أخرى فإنّ حقيقة العيش هي التي تتطلب المقاطع المتعاقبة من مجتمع خاص إلى آخر ومن حالة اجتماعية إلى أخرى، حيث تتكون الحياة الفردية من سلسلة من المراحل التي تشكّل نهاياتها وبداياتها مجموعات من نفس الترتيب: الولادة، البلوغ الاجتماعي، التقدّم والتدرج الطبقي، التّخصص المهني، الوفاة.[26] ولكن على ما يبدو فإنّ اتساق هذه المراحل أصبحت عسيرة في مجتمعنا المعاصر، وبالتالي تشكل اللايقين. فالمشاعر المختلطة حول طقوس العبور مثل التي يعيشها الشباب التونسي اليوم جعلتهم ينتظرون، وتفكك “حزام الانتقال” وكأنّها القطيعة بين المدرسة وآفاق سوق الشغل، حيث غابت سلسلة المراحل التطورية وكأنّ حياتهم وقفت لحظة الولادة، لذلك يردد عديد المواطنين التونسيين: “نَحْنُ مَوتَى بِالحَيَاة“. وتوقف عجلة الزمن وضبابية المستقبل هي في النهاية استراتيجية حكومية زمن مخالب التّبعية التي جعلتنا في رقم الصفر دون تقدّم. »ففي الصفر الكلي يتوقف الزمن عن دورانه : لا الماضي يمضي، ولا الآتي يأتي. والزمن لا يراوح مكانه. يتصدّع وينهار، ولا يتّضح غير المستحيل، من جهتين معا: ما كان يتكرّر لم يعد يتكرّر، والأفق بلون غامض، إنّه زمن مكسور من جهة الماضي، مبتور من جهة المستقبل، والحاضر فيه يتفتّت «.[27]
في سياقات شمال إفريقيا، عندما يكون من الصّعب بشكل متزايد تحقيق التطلعات الشّخصية، “تتّسع الفترة الزمنيّة بين الطّفولة والبلوغ، مما يجعل من المستحيل على جزء من السكان تولي دور الكبار. كما هو الحال مع الشباب، فمرحلة البلوغ هي مفهوم علائقي حيث لا يتمّ إدراك الشخص إلاّ في إطار علاقات القوّة مع الأفراد الآخرين.”[28] ليصبح تعريف الذات أشدّ الارتباط بالحالة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية. حيث طرح بن جنات سؤالا في دراسته:»”هل تعتبر نفسك شابا؟” ليجيب بين سنّ العشرين والثلاثين بكل يقين معترفين بذواتهم وأنّهم شبّان، أما الذين تجاوزت أعمارهم الثلاثين عاما فهم يرون أنفسهم شبانا لكن بأقلّ ثقة وأكثر حذرا. «[29]
تتركز آفاق مسار الحياة بشكل أساسي على الانتقال من المدرسة إلى العمل ومن العمل إلى تكوين الأسرة. في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية، مثل التي تعيشها تونس حاليا، أصبحت مسارات حياة الشباب أكثر تعقيدا ووصلت إلى طريق مسدود. لتختار الفئات الهشّة والمسحوقة الانخراط في عديد الأشكال المقاومة مثل التجارة غير المنظمة والهجرة والاحتجاج، ولكن ارتطم هذا الأخير باليأس والإحباط في سياق عجز فيها السّاسةُ عن الإجابة عن الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع التونسي، بل ونجح فقط في إنتاج اللامعنى.
اللامعنى وتشكل القرار الهجري
بعد سنة 2011، هبّت العاصفة “الشّعبوية” في الحياة السياسية التونسية. وعلى سبيل المثال فإنّ خطابات “الهاشمي الحامدي“[30] سنة 2011 تبيّن أنّ مناخ “الشعبوية” قد هبَّ منذ رحيل الدولة التسلّطيّة. كما أنّ انتخابات 2014 جاءت بشعبويّة “الباجي قائد السّبسي” لكنّه كان مختلفا عن شعبويّة “قيس سعيّد“، فالأوّل خلق تمفصلا بين اتجاهات ومطالب متنوّعة مكّنته من الفوز ضدّ الأيكونوكلاست الحقوقي محمد المنصف المرزوقي.[31]
وفي عام 2019، ومع تنامي الأزمة السوسيو-اقتصادية وانتشار اللّصوصيّة الاجتماعية خلال فترة الديمقراطية النيابية (22 نوفمبر 2011- 25 جويلية 2021) المريضة والمشلولة، تصاعدت أصوات “الشّعبوية” مع رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد (2019- 2024)[32]. ولهذه “الشّعبوية” خصائص عديدة من بينها “البنية الاستطراديّة”: في خطبه يهتف الزعيم الشّعبوي بأسلوب تعويذة الدّلالات الفارغة أو التّعويم ووفقا لإرنست لاكلو[33]Ernest Laclau تتمتع هذه الخاصيّة بالانفتاح والملء لصالح الإسقاطات وتحديد الهوية الجماعية، وفي حالة قيس سعيّد سنجد دلالات معوَّمة مثل الشعب والحرية وفلسطين.[34] وفي قضايا الهجرة نعثر على عديد الخطابات السيادية التي تؤكد على أنّ تونس لن تكون حارس حدود الدول الأوروبية في حين أنّ الوقائع تبيّن عكس ما تصدره حناجر الشّعبوية من أقوال.[35]
إنّ مثل هذه البنية الخطابية المُتّسمة بالتعويم والتكرار إلى حدّ المبالغة أحيانا تذكرنا بالمقولة الألمعية للداهية “تاليران” وزير خارجية نابليون وأسطورة الديبلوماسية الفرنسية» “كلّ ما يُبالغ فيه هو أمر غير ذي أهمية”. هذه فلسفة القيمة مُلخّصة في بضع كلمات، خادعة بمظهرها الاعتيادي «.[36] إنّ اللَّغو والتّكرار من قبل التيارات “الشّعبوية” اليمينة الحاكمة، واستخدام خطاب ينفصل فيه الدّالّ على المدلول لا بمعناه اللغوي وإنما بمعنى تجليه في حياتنا اليومية ينتج ثقافة اللامعنى أكثر من المعنى، لتتفشّى اللاّمعاني في حياة الأغلبية من الجماعات السكانية التونسية سواء كانت حياة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية، وبالتالي إفراغ الحياة من كل المعاني وقيم التطور والتقدم، ليصبح الإنسان عاجزا عن التقدم والتطوّر والانتقال من حالة إلى حالة: مثل فشل الانتقال من المدرسة إلى العمل ثم بناء الأسرة.
نجحت النُّخب السياسية الحاكمة بعد الثورة التونسية في تشكيل ثقافة اللامعنى، إذ عجزت عن بناء دلالات جديدة وقيميّة، بل وظلت في حالة استمرارية مع النماذج الاقتصادية ما قبل سنة 2011. وهكذا يتغذى نسق التّمثّلات والتوقّعات الآنية من زمن التاريخ الذي لم يُنصف العاطلين والمهمشين. فالتشابك بين الماضي والحاضر والمستقبل جعل من “الوقت” مصدرا لمشاكل واهتمامات الشباب. فهم عالقون في التكرار المستمرّ للإيماءات والعادات اليومية الموروثة من الماضي، ويتخيلون هروبا مستقبليا أو أسرة، وهي أهداف يصعب تحقيقها حينما يكونون عاطلين. وفي هذا السياق، يؤكد عالم الاجتماع الأسترالي جاك بارباليت على أنّ “تصوّر الشعور بالملل والوقوع في فخّ وقت الفراغ، يعتمد على حقيقة أنّ هذه عند وجودهما (الملل وفخّ وقت الفراغ) لا تحمل أي معنى.”[37]
إنّ تكرار التفاصيل اليومية والمملّة أمر يجب تدميره بالفعل، إمّا عن طريق الاحتجاج والتمرّد والثورة والانتقال من سياق العاطلين إلى سياق الشغالين، أو عن طريق الهجرة الخارجية بصرف النظر إن كنات نظامية أم غير نظاميّة. فتغيير الفضاء هي أحد الحلول للبحث عن معانٍ جديدة ووتيرة زمنية جديدة.
من جهة أخرى فإنّ حالة “انتظار الأمل” التي تعيشها أغلب الفئات الهشّة وتشكل زمن اللايقين هو نتيجة سياسات الإصلاحات الهيكلية التي انطلقت في ثمانينات القرن الماضي وظلت مستمرة حتى اليوم، فكان لها تأثير في تقليل مساحة استقلالية الدولة في التخطيط الاقتصادي وخلق فرص عمل. ويصبح الانتظار في قلب علاقة غير متكافئة موجهة إلى إدارة التوتّرات الاجتماعية والسيطرة عليها، حياةً بلا معنى. لذلك يصبح مشروع الهجرة أحد النوافذ الأخير لتحقيق آمال وأحلام انكسرت في موطن النشأة حالمين بها في موطن الاستقبال.
وحول تطور مشاريع الهجرة في سياق انتقالي معطوب، وصل حوالي 26710 مهاجر غير نظامي إلى السواحل الإيطالية سنة 2011 انطلاقا من الشواطئ التونسية،[38] دون احتساب عدد المفقودين في البحر الأبيض المتوسط.
وبين سنوات 2012 و2016، وفي سياق نجح فيه الاتحاد الأوروبي في تشديد الرقابة البحرية، ظل عدد التونسيين الواصلين إلى إيطاليا تقريبا بين 1000 و2000 سنويا خلال تلك الفترة. ولكن عادت وتيرة الهجرة إلى الارتفاع منذ عام 2017 حيث وصل 6151 مهاجرا تونسيا إلى الشواطئ الإيطالية، و5266 سنة 2018، 2690 عام 2019، 12883 سنة 2020 و15671 سنة 2021.[39] وجدير بالذكر أنّ البحر المتوسط لم يعد النافذة الوحيدة لهجرة التونسيين بطريقة غير نظامية. حيث هاجر مئات التونسيين عبر معبر مليلية الإسباني في سنوات 2018 و2019، وهاجر العديد أيضا عبر دول البلقان خلال سنوات 2020 و2021 والمعروفة بهجرة الكزاوي.[40] وفي السياق نفسه تُشير المعطيات التي وردت على سفارة تونس بفيينا من وزارة الداخلية النمساوية أنّ 7173 هو عدد طلبات اللجوء بالنسبة إلى التونسيين في النمسا بعنوان سنة 2022 إلى حدود شهر أوت 2022 من بينهم 150 طلبا يخصّ القُصَّر دون مرافقة.[41]
ساهمت ثقافة اللامعنى في تطور مشاريع الهجرة لدى عديد الكفاءات التونسية. فمنذ مطلع عام 2022 إلى شهر أكتوبر من نفس السنة تمكنّ حوالي 5474 تونسيا وتونسية من الحصول على تأشيرة للعمل في ألمانيا[42]. وما بين 2015 و2020 هاجر أكثر من 40 ألف مهندس وثلاثة آلاف طبيب نحو دول الخليج وأوروبا. وفي السياق نفسه، صرّح عميد المهندسين التونسيين “كمال سحنون” في مداخلة له على موجات “ديوان آف آم” وذلك يوم 08 ديسمبر 2022، إنّ 90% من المهندسين التونسيين من ذوي الخبرة والكفاءة يغادرون تونس.[43]
كما سجّلت نتائج التعاون الفني خلال الفترة الممتدة من غرّة جانفي إلى غاية 30 نوفمبر 2022 تطوّرا بنسبة 46% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، وبلغ عدد المنتدبين عن طريق الوكالة التونسية للتعاون الفني 3281 منتدبا مقابل 2248 خلال الفترة نفسها من سنة 2021.[44]
توضّح البيانات أعلاه، تطور مشاريع الهجرة في تونس بعد سنة 2011 سواء كانت بأشكال نظامية أو غير نظامية، كما تنوّعت معها ملامح المهاجرين سواء كان ذلك في المتغيرات الجندرية أو التعليمية أو الطبقية، بل وباتت مشاريع جماعية وعائلية. ولعل أزمة اللامعنى التي اخترقت كلّ المقومات الحياتية السوسيولوجية في المجتمع التونسي هي أحد العوامل التي تُيَسِّر تشكُّلَ مشروع الهجرة.
خاتمة
انطلقت الإشكالية المركزية لهذا المقال من رحم التساؤل عن كيف يمكن لتشابك زمن الماضي بالزمنية الحالية ولأزمة المعنى والمشاعر المختلطة لطقوس العبور أن تكون لها الأدوار الحاسمة في تشكّل وتطور مشاريع الهجرة. وقد توصل التّحليل إلى الاستنتاجات الجوهرية التالية:
لم تنجح النُّخب السياسية الحاكمة بعد سنة 2011 وبعد 25 جويلية 2021 في تغيير الخطاطات الزمنية التي انتفض العاطلون ضدّها زمن الدولة التسلطيّة. إذ ظلّ كل العاطلين والمهمشين واقعين في نسق الإيماءات اليومية والتكرار الممل لأشكال الحياة اليومية، لتكون روتينية الأيام وتشابهها أحد محفزات قرار الهجرة. فالهجرة بهذا المعنى هي بحث عن نسق وتمثّلات وأزمنة جديدة للحياة.
لم تُحطم الثورة التونسية النموذج الاقتصادي المتبع منذ سنة 1986، فقد ظلّت كل السياسات الاقتصادية بعد سنة 2011 خاضعة لهندسة الدوائر العالمية والامبريالية وعلى رأسها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، لتُعطّل هذه الخيارات انتقال المواطن من المدرسة نحو سوق الشغل ومن ثَمَّ نحو تأسيس أسرة، لتتشكل عن هذا مشاعر مختلطة في طقوس عبور ظلت فيه أغلب الشرائح الاجتماعية الهشّة منحصرة في زمن اللايقين. لذلك يصبح الإحساس بالعجز وعدم التقدّم والبقاء في الدّرجة الصّفر أحد العوامل التي تيسّر تشكُّل مشاريع الهجرة.
من خلال تشابك الأيّام وتشابهها، ووفقا لفكرة تشكّل زمن اللاّيقين، يتضّح أن المجتمع التونسي يمرّ بأزمة في المعنى، إذ تمّ إفراغ حياة المواطنين من كل معاني ودلالات القيم والتطور والتنمية العادلة. وهذه الأزمة ليست حالة عفوية، وإنما هي حالة نسقية ومنظومية نجحت في تصديرها النّخب السياسية الحاكمة وخاصة التيارات اليمينية و”الشّعبوية”. لتصبح رحلة البحث عن معانٍ جديدة للحياة أحد محفّزات اتخاذ قرار الهجرة.