أرض، حرية وهوية: الأمازيغ الليبيون بين الماضي والحاضر
قبل سنتين، رُزقت انا وزوجتي بمولودنا الأول الذي قررنا تسميته “أكسيل” نسبة إلى القائد الأمازيغي التاريخي “أكسيل” أو “كسيلة”، توجّهت الى السّفارة الليبيّة في بروكاسال ببلجيكا من أجل تسجيله، ليتمّ إعلامنا بعد يومين برفض الطلب وضرورة تغيير اسمه إلى اسم عربي وذلك بسبب القانون الجديد الذي أصدرته حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، قمت بجميع المحاولات الممكنة ولكنّها باءت جميعا بالفشل واُضطررت إلى تسجيله باِسْمٍ عربيٍّ ، يتحدّث بهذا طارق، مواطن ليبي أمازيغي مقيم ببلجيكا بحنق شديد ويضيف؛ وما يزيد معاناتي أنّ هذه المأساة متكررة وليست المرة الاولى التي تحدث لنا، فعندما ولدت أراد والدي تسميتي “إيدير”، ولكنه فشل في ذلك بسبب القوانين التي أصدرتها السلطات الليبية خلال فترة حكم معمر القذافي والتي تمنع الأسماء غير العربية، كنت أظن أننا قمنا بثورة من أجل التغيير والاعتراف بنا باِعتبارنا مكوّنا ثقافيا وعرقيًّا ولكنّني اكتشفت أن كل ذلك وهم، تغيرت السلطات والتركيبة السياسية في ليبيا وبقي الأمازيغ مهمشين رغم الآمال التي علّقها طيف واسع منهم على الثورة وعلى التغيير الذي طمحوا إليه من خلالها.
حيث أنه وخلافا لباقي القضايا التي اُثيرتْ خلال الثورة الليبية والفترة التي تبعتها، فإن قضية الأمازيغ أقدم منها بسنوات، اقترن ذكرها بتاريخ طويل من النضال والقمع يمتد حتى قبل فترة الاستقلال، حيث شهدت قضيتهم توتّرا منذ الاستعمار الإيطالي لليبيا 1911 – 1951 ورغم الهامش الواسع من الحريات التي عاشها أمازيغ ليبيا خلال فترة الملك “محمد إدريس السنوسي”، إلا أنها ضاعت مُجدّدا خلال فترة حكم العقيد الراحل “معمر القذافي”، ولم يتمكّنوا من اِستردادها بعد الثورة رغم الحريّة التي بشّرت بها، لتختزل قصة الأمازيغ في ليبيا تاريخ القمع والقيود التي مارستها أغلب السلطات عليهم.
الأمازيغ، القصة منذ البداية
مثلهم، مثل باقي أمازيغ شمال إفريقيا، يعد الأمازيغ مكوّنا ثقافيا وإثنيا هاما في ليبيا، يمتد حضوره على عشرات القرون في مناطق مختلفة هناك، ولكن ذلك الحضور لم يكن يمثّل فرادة، على العكس تماما كان إندماج الأمازيغ مع باقي المكوّنات في ليبيا متناغما ولم تُطرح قضية الهوية كإشكالية فعليّة إلا مع بداية الاستعمار الايطالي.
ومع نهاية العقد الأول من القرن العشرين، كانت السلطنة العثمانية أشبه بجسد هزيل، تخوض حروبا لا تنتهي في مناطق مختلفة في محاولة إنقاذ آخر مواطئ قدم لها، وكانت ليبيا من بينها، إذْ حاول العثمانيون حينها الحفاظ عليها خاصة أمام الأطماع الإيطالية ولكنهم لم يستطيعوا الصمود أمامهم مليًا، خاصة وأنها كانت تحارب في البلقان للحفاظ على ما بقي من إمبراطوريتها هناك، لتتخلّى الدولة العثمانية عن تركتها مترامية الأطراف لصالح إيطاليا بعد توقيعهم معاهدة سلام في أكتوبر 1912 ومنح العثمانيون إقليمي طرابلس وبرقة الحكم الذاتي لتضمّهم الحكومة الايطالية لصالحها هناك.
في سبيل فهمها لتركتها الجديدة من أجل السيطرة عليها، اعتمد الاستعمار الإيطالي – شأنه شأن باقي المُستْعمرِين الغربيين – على الدراسات والبحوث التي تتناول الطبيعة الديمغرافية لليبيا من أجل تمثّلها بشكل أوضح وبسط نفوذها وتفكيك المقاومة وإرساء مصالحها.
في البداية انطلق الاستعمار في فهم التوازنات القبلية ومراكز النفوذ الاجتماعي والاقتصادي في أقاليم ليبيا الثلاثة، برقة وفزّان وطرابلس، الأقاليم التي تمثّل ليبيا الان، ولكنه أدرك لاحقا وخاصة بعد المواجهات الدموية والخسائر التي لاحقته من المقاومة الشعبية هناك، ضرورة الانغراس في جذور المجتمع أكثر. ومنذ تلك اللحظة انطلق في مقاربة أخرى في استعماره لا تعوّل فقط على الغزو العسكري، بل وعلى الفهم الديني وخاصة العرقي لليبيا من أجل استغلال الفوارق والاختلافات والعمل على تحويل التنوع العرقي والديني من أجل التغلغل وخلق ثغرات داخل جدار المقاومة المتصدّع من أجل إتمام احتلاله وترسيخه. لينطلق منذ بداية مرحلة الاستعمار في زرع مشاريع الكراهية بين الأمازيغ نفسهم من جهة، وبين الأمازيغ والعرب من جهة أخرى.
في البداية، كانت كل المكونات العرقية في ليبيا موحّدة وتناضل بشكل جماعي ضدّ الاِستعمار الإيطالي حتى سنة 1916 عندما نشبت حرب بين متساكني منطقة الزنتان و الرجبان من ناحية والأمازيغ من ناحية أخرى، يذكر الحاج احميدة التبعاني 83 سنة وقائع تلك الحادثة ويصفها بالفتنة ” عمل الطليان على خلق مشاكل وبث الفرقة بين العرب والأمازيغ، حتى وقعت الحرب الأولى بينهم سنة 1916، ولكن تم استيعاب تلك الحادثة، ولكن الضغائن بين الطرفين تزايدت.” يضيف التعباني؛ حتى دارت حرب كبرى في سنتي 1920 و 1921 بين الطرفين، خاصة عندما تم الهجوم على منطقة يفرن الأمازيغية، لقي المئات حتفهم هناك، واستغل الطليان القطيعة بينهم من أجل تعزيز الصراع وعدم إخماده”.
بدءًا من هناك، زرع الاستعمار مشاريع الكراهية بين شركاء الوطن وحوّلها الى حروب أهلية، خلقت تلك الحروب هوّة بين الأمازيغ والعرب خاصة في منطقة “جبل نفوسة” حتى منتصف العقد الثالث، عندما انطلقت الحركة السنوسية وهي حركة دينية إصلاحية كبرى في ليبيا على استيعاب مختلف الأطراف وفضّ النزاع بينهم ونجحت في ذلك، وانطلقت الحركة في مشروع وطني كامل نحو الاستقلال والإصلاح، خاصة وأن محمد ادريس السنوسي، أول ملك لليبيا بعد الاستقلال كرّس مجهوداته في الاعتراف بكامل المكوّنات الإثنية في ليبيا. لتشهد قضية الأمازيغ مرحلة من الاستقرار بعد سنوات من الخلاف والتوتر خلال الحقبة الاستعمارية، يبدو ذلك جليًا أكثر في إطلاقه اسم المملكة الليبية المتّحدة بدل المملكة الليبية العربيّة، حيث هدف السنوسي الى تخفيف وطأة التوتّرات بين “الأمازيغ والتبو والعرب” وتوحيدهم في ظل دولة موحدة تستوعب كل الخصوصيات الثقافية واللغويّة ولا تقصيهم، عاش الأمازيغ حينها اعترافا بهم وبهويتهم ساهم في إثراء النسيج المجتمعي وفنونه وثقافته، حتى هبّت رياح التغيير.