«منتصف الليل في القاهرة» : سَرديّةٌ أخرى عن تشكّل النَّسويّة المصريّة
غالبًا ما يُنظرُ إلى الحركات النّسويّة في العالم العربي على أنّها حركات تقودها نُخبةٌ ما تُمثّلُ “الثّقافة العالمة” وترفع شعارات تحرّريّة أو نضاليّة ضمن أُطرٍ تنظيميّة مُعلنة، ولها رموزها القياديّة وأيقوناتها وحتّى نُصوصها التّأسيسيّة، ونادرًا ما يتمُّ الإشارة إلى الحراك النّسوي الذي ينتمي إلى فضاءات أخرى “هامشيّة” أو تلك الأقلّ شأنًا على الصّعيدين الثّقافي والاجتماعي. وتبدُو هذه سمةً مُشتركةً في مُعظم الكتابات التاريخيّة التي تبحثُ في مواضيع الحركات النّسويّة العربيّة.
في مصر، مثلاً، التي شهدت تشكّل أولى الحركات النسويّة في العالم العربي، منذ بدايات القرن الماضي، يتّم الإشارة دومًا (وأساسًا) إلى الاتحاد النسائي المصري وإلى ناشطات بارزات ينتمين في معظمهن إلى الطبقات المتوسطة والعليا من المجتمع وإلى “الثقافة العالمة” مثل هُدى شعراوي ونبوية مُوسى وغيرهما من اللّواتي يعتبرن الأيقونات والمُؤسسّات الفعليات للحركة النّسوية في البلاد. غير أنّ هناك سرديّةٌ مُختلفة يطرحها الباحث البريطاني رفاييل كورماك حول تاريخٍ آخر للحراك النّسويّ في مصر كان ” يُكتب في الملاهي الليليّة والمسارح والكباريهات في القاهرة” منذ نهايات القرن التاسع عشر.
يتناول كورماك هذه السّرديّة، بالبحث والتّحليل، ويطرحها بشكلٍ مُفصّلٍ وواسع في كتابه “منتصف الليل في القاهرة: نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة” والذي يحكي فيه “قصّة حركة نسائيّة موازية، حدثت في طبقة النّساء المشبوهات في وقت متأخّر من الليل بعد أن خلد نُقّاد الطبقة العليا إلى النّوم” (ص 16).
وفي الواقع، فإنّ الكتاب لا يتناول فقط “التأريخ” للحركة النسويّة في مصر ضمن هذه السرديّة “المُوازية” للسّرديّة “الرّسمية” السائدة. بل هُو أيضًا يضيء جوانبَ واسعة جدًّا من التاريخ الاجتماعي والثقافي (وحتّى السياسي) المصري الحديث، عبر رصد تحوّلات منطقة “الأزبكيّة” في القاهرة وشارع “عماد الدّين”. يسردُ كورماك بشكلٍ قصصي مُمتع فصول هذه التّحوّلات التي عاشتها تلك المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى خمسينات القرن الماضي مع “حريق القاهرة” ثمّ قيام “ثورة يوليو 1952″، مركّزًا بشكل خاص ورئيسي على فترة العقيدين الأوّلين من القرن العشرين.
يحكي الكتاب عبر تتبّع سِيَرِ حياةِ فنّانات ومُمثّلاتٍ وراقصات برزن منذ تسعينات القرن التاسع عشر، وحكاياتٍ متشّعبةٍ ومكثّفةٍ وغزيرة عن منطقة الأزبكيّة في العاصمة المصريّة. هناك حيث وُلدتْ وازدهرت “صناعة التّرفيه” وانتشرت المسارح وقاعات الأوبرا والسينما والكباريهات والرّقص والموسيقى والدّعارة والحشيش وتجارة الجنس وخيالاتُ المستشرقين عن نساء الشّرق وسحر الغواية وغطرسة الاستعمار وعالم الليل والجريمة والثّروة والبذخ والذّكوريّة والنهايات الحزينة لقصصٍ مُعمّدة بالكفاح.
ورفاييل كورماك هو باحث بريطاني حاصل على الدكتوراه في المسرح المصري من جامعة إدنبرة، ويعمل باحثًا وزائرًا في جامعة كولومبيا. صدرت النّسخة الأنجليزيّة من الكتاب عامَ 2021 عن دار السّاقي، بينما صدرت التّرجمة العربيّة عامَ 2024 عن دار “كتب خان” المصريّة بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ. وقد تَرجَمَ الكتاب، الذي يقعُ في 394 صفحة من الحجم المتوسّط، الباحثُ المصري علاء الدّين محمود المتخصّص في دراسات الأدب المُقارن.
يُشير كورماك في المُقدّمة إلى أنّ فصول كتابه “منتصفُ الليل في القاهرة” تحكي حكاية منسيّة عن المسرح والغناء والرّقص، تُظهر “الشّرق الأوسط الحديث” من زاوية مُختلفة، يصفها بأنّها “زاوية لا تُهيمن عليها الحُروب أو ‘المثقفون’ أو ‘الرجال العظماء’ أو السياسة العليا، بل ليالٍ متأخّرة في الكباريهات وموسيقى صاخبة ونساء يُطالبن بالتغيير” (ص 18). غير أنّه يُمكننا، في المقابل وبشكل عام، وضع كتاب رفاييل كورماك ضمن تيّارٍ منهجيّ جديدٍ وصاعد في كِتابة التاريخ (الحديث والمُعاصر) والذي يُطلق عليه أكاديميًا “التأريخ من الوسط”. وهو على نقيضِ “التأريخ من الأعلى” الذي يكتب السّرديات من منظور القادة والفاعلين السياسيين ومن منظور المركز والسّلطة، ويُقابلهُ “التأريخ من الأسفل” الذي يجنحُ للكتابة التاريخيّة من منظور المهمّشين والهامشين والطبقات السّفلى اجتماعيًا، ومن منظور المحكومين والأطراف. تتمُّ الإشارة في مصر دومًا إلى خالد فهمي وكتابه “كُلّ رجال الباشا” بوصفه النّموذج الأكاديمي الأكثر أيقونيّة في اعتماد “التأريخ من الأسفل” في إعادة كتابة سيرة محمّد علي مؤسّس الدّولة المصريّة الحديثة في مواجهة السّرديّة الوطنيّة الرّسميّة التي كرّسها عنه “التّأريخ من الأعلى”. غير أنّ منهج “التّأريخ من الوسط” الذي يندرجُ ضمنه كتابُ كورماك يعتمدُ نوعًا آخر من الكتابة التاريخيّة، تميل إلى تنويع المصادر واعتماد أرشيفات الصّحف والأفلام التسجيليّة والسّينما والفنون والإعلانات الإخبارية والإشهارية والسّير الذّاتية والصّور الفوتوغرافيّة والموسيقى وغيرها من المصادر التي تُتيح نوعًا من السّرد التاريخي الأكثر قَصَصيّةً وكثافةً في الوصف.
قصّة “الأزبكيّة”: قصّةُ مصر الحديثة كُلّها
يتتبّع كروماك، في هذا الكتاب، مسارَ تشكّل تقاليد التسليّة الجماهيريّة في مصر، وخاصة منذ بداية القرن التاسع (انطلاقًا من ثلاثينات ذلك القرن تحديدًا) وهي تقاليد تتنوّع بين مسرح خيال الظّل والأراجوز وعروض “المحبظين” المتجولة، وبين سرد السّير الشفاهيّة في المقاهي (مثل السّيرة الهلاليّة والسيرة الظّاهريّة)، كما كان هناك أيضًا (وخاصةً) المغنون والرّاقصون. وبالعودة إلى مذكّرات الرحالة الذين زاروا مصر في تلك الفترة، وخاصة المستشرق إدوارد لين فقد كان هناك ثلاثة أنواع من الفنانين الموسيقيين حينذاك: “الآلاتي” وهو عازف موسيقي يقدّم عروضًا في معظم مناسبات التّرفيه، وهناك “العالمة” وهي “مغنيّة تقدّم عُروضها بشكل شبه حصري في منازل النّخبة”، أمّا النّوع الثالث فكانت “الغوازي” أو “الغازية” وهي فتاة راقصة “تُقدّم عُروضها إمّا في الشوارع أو في الحفلات الخاصة للنّاس العاديين”.
يؤكّد كورماك أنّ “القاهرة تمتّعت بحياة ثقافيّة ثريّة بالنسبة لسكّان المدينة في بداية القرن التاسع عشر” (ص24). غير أنّ التّطوّرات السياسيّة اللاحقة التي طرأت على البلاد، ستنعكسُ على الحياة الثقافيّة في القاهرة وحياة الليّل وتقاليد التّرفيه، حيث ستتطوّر مصر من ولاية “مُهملة” من ولايات الإمبراطوريّة العثمانيّة إلى دولة حديثة ومهمّة سياسيًّا (مع محمّد علي باشا) وقوّة صناعيّة صاعدة ما لبثت أن تحوّلت إلى محميّة شبه رسميّة للإمبراطوريّة البريطانيّة. و”مع تشكّل مصر الجديدة ستسيطرُ المسارحُ ودور السينما والكباريهات والتياترات على القاهرة كما كان شائعًا في جميع أنحاء العالم”.
ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت الحياة الليلية في القاهرة تتركّز في حي “الأزبكيّة” الذي سُمّي على اسم “أمير مملوكي يُدعى أزبك كان يمتلكُ قصرًا هناك في يوم من الأيّام”. يصوّر الكتاب في تلك المنطقة انتشار أماكن الترفيه وأعدادا لا تُحصى من المقاهي والبارات، والكثير من الأماكن التي تُقدّمُ عروضًا للمغنيات أو الراقصات في “غرف مليئة بالدخان والخُمور” وكانت هناك صالات للقمار وأوكار للحشيش، وعديد الفنادق التي “تلبّي احتياجات المسافرين الأوروبيين”. ويعود ازدهار الأزبكيّة بالأساس إلى فترة الخديوي إسماعيل وهو حفيد محمّد علي باشا مؤسسّ “مصر الحديثة”. أفاد الخديوي إسماعيل من فائض عائدات القُطن الذي ازداد عليه الطلب العالمي كثيرًا بسبب الحرب الأهليّة الأمريكيّة. أنفق الخديوي تلك الثّروة الطائلة من فائض عائدات القطن على البناء والتشييد وتحوّلت الأزبكيّة في التسمية الدّارجة بسبب أنماط بنائها الحديث إلى “الحي الأوروبي”، وفي “أزبكيّة إسماعيل، وُلدت حياة اللّيل والترفيه المصريّة الحديثة واستمرت في الازدهار” (ص 68).
ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، وحتى خمسينات القرن العشرين، كانت المنطقة تعيش حراكًا اجتماعيًا وثقافيًا، “ليليًا” بالتّأكيد، بلغ ذروته في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. حراكٌ تداخلت فيه السياسة والفنون والموسيقى والدراما والسّينما والدسائس والدّعارة والرّقص والصّحافة والعساكر والمخبرون والشّعر. صَوّرت تحوّلات الأزبكيّة تحوّلات القاهرة وتحوّلات مصر الحديثة نفسها. وكانت دومًا تعبيرًا صغيرًا عن تلك التّحوّلات الوطنيّة (وحتى الدّوليّة) “الكبرى” وساحةً لها. وربّما يبدو -للكثيرين- أنّ هذا هو الجانب الأكثر إمتاعًا في كتاب كورماك، وهي قدرته على سرد تاريخ مصري شامل و”كبير” عبر رصد تحوّلات هامشيّة داخل منطقة صغيرة في أطراف القاهرة.
وفي ذلك العالم الليلي المليء بالترفيه و”الدّخان والخُمور” كانت هناكَ قصصٌ تُنحت لفنّانات وممثّلات وراقصات ومغنيات، يحاولن تجاوز عالم الذّكورة والمحرّمات والوصم لبناء نجاحاتهن الذّاتيّة المليئة بالشّغف والكفاح. فبدت تلك القصص والسّير لكورماك كأنّها جزءٌ من نضالٍ نَسويّ في مصر، كان يحدث على هامش الحركة النّسويّة “الرّسميّة”، وهو كذلك دون شك. هنا يظهرُ أيضا تميّز الكتاب وفكرته الرئيسيّة، وتحديدًا من هذه الزاوية التي تنظرُ إلى سيرورة تشكّل الوعي النّسوي والتأريخ لحركة نضال النّساء في مصر، من خلال قصص كفاح نساء ينتمين إلى عوالم الفن والرّقص واللّيل والتمثيل. وهي عوالمُ مسيّجةٌ بكثير من الغموض وبالكثير من الوصم كذلك.
وتَميّزُ الكتاب لا يظهر فقط على مستوى الفكرة أو زاوية النظر إلى الموضوع، بل في القدرة على النّفاذ إلى المصادر وتجميعها وبناء “الحبكة” من شتاتٍ واسع للمعلومات والصّور والمقالات وما يمكن العثور عليه من تفاصيل متناثرة ومجتزأة ومُقطّعة حول سير بعض الفنّانات اللواتي لم يتركن مذكّرات أو شهادات حول حياتهنّ ومسيرتهن المهنيّة والفنيّة. يبدو هذا كأنّه الجزء الأكثر صعوبة في العمل كلّه. وقد أفرد كورماك في نهاية الكتاب حديثًا عن مراجعِ كلّ فصل من فصول الكتاب وأغنى القارئ بتوجيهات مهمّة نحو المصادر التي يُمكنه أن يعثر فيها على المزيد من قصصِ حياة ومسيرة تلك النّساء.
نجماتُ الأزبكيّة: نَسَويّةٌ مصريّة مُوازية ومُناضِلة
تُعرف هُدى شعراوي على أنّها أيقونة النّضال النّسوي في مصر، ومُؤسسة الاتحاد النسائي، وتُعتبرُ واحدة من أشهر وأهمّ النّسويات العربيات على الإطلاق. في كتاب كورماك تظهر شعراوي وقصّة كفاحها وصُعودها، ضمن سياق ثورة 1919 ضد الأنجليز التي قادها الزّعيم الوطني سعد زغلول. يُفصّل كورماك أحداث تلك الفترة ودور النّساء في الثّورة ونشاطاتهنّ المناهضة للاستعمار والدّاعمة لحقوق الشّعب المصري، وللنّساء. بدأ اسم هُدى شعراوي التي تنتمى إلى عائلة أرستقراطيّة ومتعلمّة وثريّة، بالظّهور والتأثير، وتكثّفت نشاطاتها مع مجموعة من نساء الطّبقات العليا والمتوسّطة. وحسب كورمالك فقد أصبحت شعراوي “نموذجًا نسائيًا من سعد زغلول” (ص 106).
كان لشعراوي دورٌ كبير في الكفاح الوطني السياسي وفي النّضال النّسوي. وهي دون شكٍّ واحدةٌ من تلك النّساء اللواتي تركن بصمةً مؤثّرة في التاريخ المصري. غير أنّ صُورة أخرى ستظهر لهُدى شعراوي في أحد فُصول الكتاب، حين يفصّل كورماك -لاحقًا- مسيرة الفنانة فاطمة سري التي دعتها شعراوي في أبريل عامَ 1924 لتغنّي في حفلة عامة في بيتها. في تلك الحفلة ستبدأُ قصّة حبٍّ بين ابنها محمّد شعراوي بك والفنّانة الصّاعدة في ذلك الوقت فاطمة سري.
يعرضُ الكتاب تفاصيل تلك العلاقة بشكل مُمتع وتفصيلي، وهي القصّة التي انتهت (كما معظم قصص زواج فنّانات تلك الفترة) بالطّلاق. غير أنّ ما حدث بعد ذلك هو الأكثر أهميّة ضمن “السّرديّة” التي يُريد أن يُنجزها الكتاب، وهي تلك المُتعلّقة بالنّضال النّسوي “المُوزاي”، ولكن هذه المرّة حين يتصادم هذا “المُوزاي” فعليًّا مع النّضال النّسويّ “الرّسميّ” مُمثّلاً في هُدى شعراوي. وإن كنّا لا نعرفُ وجهة نظر هذه الأخيرة من الأحداث أو روايتها للقصّة، فإنّ ما يحكيه كورماك نقلاً عن فاطمة سري، من خلال ما قام من تجميعه من المصادر، فسنعرفُ أنّ فاطمة تزوّجت من محمّد شعراوي زواجًا عُرفيًّا وأنجبت منه ابنتها ليلى، لكنّه رفض الاعتراف بعد الطّلاق بزواجه منها وبابنتهما. وقبل أن تدخل فاطمة سري في معركة قضائيّة طويلة ضدّ محمّد شعراوي بك، من أجل حُقوقها وحقوق ابنتها، وهي معركة طويلة سردها كورماك بكثير من التشويق والحبكة القصصيّة المُثيرة، قرّرت فاطمة سري التواصل -عبر رسالة- مع والدته هُدى شعراوي “من امرأة إلى أخرى”، إذ اعتقدت أنّه يمكنها “إقناع سيّدة النّسويّة المصريّة الكُبرى التي أمضت حياتها في حملات من أجل النّساء، بمساعدة أم فقيرة في حاجة للمساعدة، حتى لو كانت مجرّد مغنّية في ملهى ليلي” (ص 208). غير أنّ الأمور لا تسير كما هو متوقّعٌ وسنعرفُ تفاصيل نهاية الأحداث وموقفَ هُدى شعراوي “سيّدة النّسويّة المصريّة الكُبرى” من تلك القضيّة التي تضمنها الفصل السابع من الكتاب والذي عَنْونه كورماك (أو المُترجم) “المغنّية والبيبي والبِيْه”.
ستظهر لاحقا قصّة كفاح فاطمة سري من أجل حُقوقها وحُقوق ابنتها ليلى، في فيلم مشهور من بطولة أم كلثوم عامَ 1948 بعنوان “فاطمة”. وأم كلثوم واحدة من أهمّ نجمات تلك الحقبة وإحدى اللواتي تتبّعَ كورماك قصّة كفاحهّن ومسيرة حياتهنّ المهنيّة والشّخصيّة. سردَ كورماك فُصولاً طويلاً من سيرة “كوكب الشّرق” (كما عَنون الفصل الخاص بها)، منذ بدايتها الأولى وحتى وفاتها، متوّقفًا بشكلٍ رئيسي عند مرحلة العشرينات والثلاثينات في الأزبكيّة. ينظرُ كورماك نظرة نقديّة وأكثر تنسيبًا للصّورة التي رُسمت لاحقًا لأم كلثوم وخاصةً لبدايتها في القاهرة. مُشيرًا إلى أنّه توجد “أسباب للاعتقاد أنّ بداية أم كلثوم المهنيّة في القاهرة كانت أكثر تعقيدًا وتنوّعًا مما أفصحت عنه رواياتها اللاحقة” (ص220). فقد تضمّنت “القصص حول بداية حياتها، كثيرٌ منها كُتبت بعد عدّة عقود من حدوثها، على الأقل عُنصرًا من عناصر الأسطرة” (نفس الصفحة). مشيرًا -مثلاً- إلى أنّ إحدى أغنياتها (المشهورة على كلّ حال) التي حقّقت نجاحًا كبيرًا في تلك الفترة المبكرة كانت “بعيدةً عن التحفّظ” وكان عنوانها “الخلاعة والدّلاعة مذهبي”. غير أنّ أم كلثوم التي تقرأُ الأدب العربي القديم والكلاسيكيات الشّعريّة وتطوّر معارفها ومهاراتها الموسيقيّة بكلّ عزيمةٍ واحترافيّة، كانت ومنذ بدايتها، وخاصة في مرحلة الأزبكيّة وعقديْ العشرينات والثلاثينات، تكتبُ وتنحتُ قصّة أكثر اختلافًا عن فنّانات جيلها. قصّة عن “مُغنيّة الكاباريه المثقفة والشريفة”. وبطبيعة الحال، فقد كان على أمّ كلثوم أن تخضع للمقارنات مع نجمات جيلها، وخاصةً منيرة المهديّة. وككل الكتب التي تناولت تلك الفترة من حياة أُم الكلثوم، لم يشذّ كتاب كورماك أيضًا عن استحضار تلك المقارنة مع نجمة تلك الحقبة، منيرة المهديّة تلك “المرأة التي كانت ملكة الحياة الليلة في القاهرة لأكثر من عقد من الزّمان” (ص 224). وقد كانت الاختلافات بين النّجمتين وفق كورماك “صارخة”. يسردُ الكاتب فصولاً من ذلك “الصراع” بين النّجمتين، ويجمع بعض تلك القصص التي تتحدّثُ عن “غيرة منيرة ومحاولاتها تخريب مسيرة أم كلثوم المهنيّة” (ص 226).
عندما يُقيم كورماك هذه المقارنات بين النّجمتين، فإنّه لا يُشير إلى كتاب رجاء النقّاش “لغز أم كلثوم” من ضمن المصادر التي اعتمدها، وهو الكتاب الذي يعتبر فصله الأوّل -خصوصًا- من أهمّ المراجع (بل وأهمّها على الإطلاق) في فهم ظاهرة أم كلثوم، وتحليل أسباب نجاحها وتميّزها عن منيرة المهديّة بالتّحديد. قد لا يكونُ كورماك قد اطّلع على الكتاب، رغم سعة اطّلاعه الكبيرة على الكتابات التي تعود إلى تلك الفترة، بما فيها كتاب آخر للنقّاش وهو “صفحاتٌ من مذكّرات نجيب محفوظ”. يقدّمُ كورماك ما يُشبه الخُلاصة عمّا تبقّى اليوم من أثر النّجمتين ومن آثار صراعهما الطّويل والمُثير، فاليوم “النّجمة المحترمة أمُّ كلثوم، وليست منيرة هي من تحظى بالتّبجيل والاحترام كسُلطانة المُوسيقى العربية” (ص 258).
غير أنّ منيرة المهديّة كانت قصّة “كبيرة” من قصص الأزبكيّة وعصر العشرينات والثلاثينات الصاخب، وجزءًا رئيسيًا أيضًا من تاريخ الفن المصري. أفرد كورماك فصلاً طويلاً لمنيرة المهديّة ولقصّة صعودها ونجوميتها، وحضَرت مرّات في فُصولٍ أخرى من الكتاب. فصّل الكَاتب أيضًا محطّات مثيرة من كفاحها ونضالها النّسوي والفنّي. كانت منيرة المهديّة فنّانة فاتنة، ذات علاقات متشعّبة وواسعة حتى في صفوف النّخبة السياسيّة. تتبّع كورماك تفاصيل حياتها الخاصة، العاطفيّة منها خاصة، وطقوس حياتها الغزيرة والثريّة.
ميزة الكِتاب أنّه يبني قصّة كلّ فنّانة من فنّانات ذلك العصر، من خلال تنقيب واسع في المصادر ثمّ تصفيتها. يستمتعُ القارئ كثيرًا -دون شكٍّ- بالحبكة والأسلوب القصصي الذي يكسر حدّة الصّرامة العلميّة والنّقد الموضوعي اللّذين لا يغيبان عن الكتاب. ومن خلال تلك القصص تتشكّل صورة عن نساء كافحن في عالم مليء بالدّسائس والمكر والعنف والوصم ونحتن مسيرات فنيّة استثنائيّة وخالدة. ويمكن القول إنّ ميزة الكتاب تكمن تحديدًا في قدرته على “تركيب” الحكاية تركيبًا يجعلها مُنسابةً فوق خيط ناظمٍ بين جميع القصص والفُصول، وهو ذلك الخيط الذي يشيّد سرديّة النّضال النّسوي المُوازي في مصر.
نتعرّفُ في الكتاب على قصص فاطمة رُشدي، وعن مسيرة روز يُوسف الفنيّة والصحفيّة والسياسيّة وعن عزيزة أميرة وقصّة بداية السّينما في البلاد، وعن سفيقة القبطيّة ومريم سماط وعن تحيّة كاريوكا ونضالها الاجتماعي والسياسي اليساري، تلك الرّاقصة التي فتنت إدوارد سعيد وكتب عنها كثيرًا. غير أنّ قصصَ رجالٍ أيضًا ستتقاطع مع قصص هؤلاء النّسوة الفنّانات. خاصةً قصّة يوسف وهبي وأدواره الكبيرة في المسرح المصري وفي السينما لاحقًا، ويعقوب صنّوع الذي يُحبُّ أن يُطلق على نفسه “مُوليير مصر” وقصص عن نجيب الريحاني وعزيز عيد وطلعت حرب بمواقفه المُتصلّبة من قضايا تحرّرِ المرأة، وغيرهم من رجال الفنّ والموسيقى والمسرح والسّلطة والمال.
تتداخل في الكتاب قصصٌ كثيرة ومثيرة ومُمتعة. وثمّة “لذّة” ما كامنة بين الصفحات والفُصول يخلقها الأسلوب وتقنيات الحبكة ومهارة التّركيب، والغوص في سير الحيوات الكثيرة لنساء ورجال تلك الفترة. لذّة أيضًا في استكشاف خبايا ذلك العالم الليلي الغامض والمُثير للخيال. وفي المُجمل تتشابه حدّ التّطابق أحيانًا، تفاصيلُ كثيرةٌ في حياة نساء الأزبكيّة في النّصف الأوّل من القرن العشرين، الطفولة المعذّبة في طبقة فقيرة أو عائلة مفكّكة أو والدان منفصلان أو أب ميّت، كما أنّ النهايات، باستثناءات قليلة، تبدو متشابهة إلى حدّ كبير. “نهاياتٌ مأساويّة” في الغالب، بالشّكل الذي تحوّلت معه إلى “كليشيه” حسب تعبير كورمالك، إذ “تمتازُ مشاهدُ التدهّور أو الإهمال أو المعاناة التي هي سمة من سمات قصص حياتهنّ جميعًا تقريبًا” (ص 340). مع هذا فقد كتبْن قصص نجاحٍ مُبهرة وخضْن نضالاً حقيقيًا من أجل افتكاك مواقعهنّ الخاصة، أو واقع للنّساء عُمومًا، في عالم مليء بالذّكوريّة والقوّة والعنف والطّبقيّة والمحاذير والخوف والوصم والعار.
في الختام، يحيلُ الكاتبُ إلى جملة من المصادر المتنوعّة والمراجع التي يُمكن أن تُغني معارف القارئ عن تلك الفترة، وعن جزء كبيرٍ ومهمّ من تاريخ الثّقافة المصريّة (والعربيّة) الحديثة. وأيضًا من وراء كلّ ما يتركهُ الكتاب -مع نهايته- من صُورة أخرى عن الأزبكيّة والتاريخ المصري الحديث برُمّتهِ، وعن السّرديّة الأخرى “المُوازية” و”غير الرّسميّة” للنّضال النّسوي المصري كانت تُكتبُ في اللّيل وفي الكباريهات والمسارح والبارات، فإنَّه يُتيحُ الفرصة -أيضًا- للقارئ لاستكشاف أرشيفات ممتعة للموسيقى العربيّة والمصريّة عبر استحضار عناوينَ نادرةٍ جدًّا وإحالات أرشيفيّة إلى موادَّ موسيقيّةٍ لم يعد يذكرها الكثيرون.