المنشورات

فيضـــــانـــات درنــة؛ الوجـــــه المخيـــــف للتغيــــرات المنــاخية

بحث من قبل أسامة سليم
تحميل المنشور

فيضـــــانـــات درنــة؛ الوجـــــه المخيـــــف للتغيــــرات المنــاخية

 

منازل مدمرة بالكامل، أحياء بأكملها جرفتها السيول وأجزاء من المدينة اندثرت، ولا شيء يلوح في الأفق سوى ركام المنازل والمباني التي دمرها فيضان دانيال، هذا هو المشهد في مدينة درنة أقصى شرقي ليبيا.تلك المدينة التي كانت تمثل قبل أسابيع قليلة قلب ليبيا البيئي ومركزا للتوازن البيئي وموطنا للحيوانات والنباتات النادرة باتت اليوم غير صالحة للعيش بسبب الفيضان الذي دمّرها، لتصبح شاهدا على مخاطر التغيرات المناخية، وانها ليست فقط مجرّد سيناريوهات في المستقبل البعيد، وإنما باتت حقيقة نعيش على وقعها، وتسلط الضوء على مدى هشاشة البنية التحتية في المدينة.

 

درنة؛ القصة منذ البداية

 

من الجبل حتى البحر، يشق واد قلب مدينة درنة ويجعلها تقبع بين جبل من ناحية الجنوب وبحر من ناحية الشمال.يسمى الوادي الذي يقسم درنة الى شطرين بوادي درنة، وهو أحد أكبر الأودية في ليبيا، ويمثّل الشريان الأساسي لمئات العائلات اللاتي تتزوّد بالمياه من خلاله والركيزة الأساسية في الفلاحة والغطاء النباتي للمدينة، ولكن لا تنتهي مهمة الوادي هنا، حيث يشكّل القلب النابض للتوازن البيئي في سلسلة الجبل الأخضر الذي يضم عددا من مدن شرق ليبيا مثل سوسة والبيضاء ودرنة وشحات. وعلى مدار التاريخ، تميّز الجبل الأخضر التابع لإقليم برقة إداريا بارتفاعه عن أغلب مناطق ليبيا وارتفاع معدلات هطول الأمطار به مقارنة بباقي جغرافيا ليبيا الصحراوية، ولكن رغم كل هذه الميزات الطبيعية والبيئية التي تمتاز بها منطقة درنة، إلا أن البنية التحتية للمدينة لم تتماشى مع امكانياتها البيئية. “كان فيضان الوادي أمرا مألوفا، عندما كنت طفلًا تعرضت درنة لفيضان كبير من الوادي وتسبب في كارثة، لقي العديد حتفهم ودمرت المباني والطرقات” يستحضر علي الماجوري، أحد سكّان مدينة درنة ذكريات الفيضان الذي شهده عندما كان طفلًا، يضيف في مفارقة “دفع ذلك الفيضان المملكة الليبية حينها إلى بناء وتشييد سدود، نفس السدّ الذي تم بناءه لحمايته حينها تسبب في هذه الكارثة هذه المرّة”.

قبل الحديث عن الكارثة التي حلّت بمدينة درنة منذ أسابيع، وجب العودة الى الماضي قليلا، وتحديدا سنة 1959 في مطلع شهر أكتوبر، عندما ضرب فيضان مدينة درنة. بحسب شهادات شفوية متطابقة لأهالي مدينة درنة الذين واكبوا تلك الفترة، تعرضت المدينة إلى تقلبات جوية دامت ساعات، ومن ثم تساقطت كميات كبيرة من الأمطار بشكل مسترسل تجاوزت الثلاث مئة ملم من الأمطار خلال يومين فقط. وقد أدى تكدس مياه الأمطار في الوادي إضافة إلى جغرافيا المدينة غير المنبسطة، إلى فيضان وادي درنة الذي تسبب في تدمير الطرقات والجسور وجرف والمباني كما تسبب في إغراق المدينة وغلق الطرقات المؤدية لها وفي وفاة المئات.

وصف ذلك الفيضان بأنه الأعنف والأقسى في تاريخ ليبيا الحديث حينها، وبات وضع سياسة عمرانية جديدة تتماشى مع احتياجات المدينة ضرورة ملحّة وبناء سدود لحماية المدينة مطلبًا مجتمعيًا. وتكمن هنا مصادفة تحمل في طيّاتها تنقاضًا صارخًا وموجعًا، حيث أن السد الذي وقع  بناؤه بدأ بسبب كارثة وانتهى بكارثة أكبر.

تحرّكت المملكة الليبية الوليدة حينها في تشييد سدّين في مدينة درنة، يشير عبد الباهي الوليدي، مهندس مدني ليبي بأن ” الدراسات الخاصة ببناء السد ومواصفاته وموقعه تطلّبت سنوات من الدراسة والنقاش، ولكن بعد سنوات تم الاتفاق على بناء كل واحد من السديّن على حدى وفي مواضع مختلفة من الوادي الذي يمتد على مسافة تتجاوز الستين كيلومترًا، كان هذا من أجل تعزيز قدرات السدود على تحمّل الكميات الهائلة من الأمطار المتوقع تجميعها في الوادي عبر المصبات السبعة التي تربطه بالجبل الأخضر، حيث أن كمية المياه التي يتم تجميعها بعد التساقطات تتجاوز في بعض الأحيان العشرين مليون متر مكعب، وقد ترتفع أكثر خلال السنوات الممطرة “.

ولكن لم يكتب لهذا المشروع أن يرى النور بسرعة، فبعد  سنوات من الإجماع على المواصفات الفنية والتقنية للسدّ وتحديد موضعه، انتهى عهد الملكية وتولّى معمر القذافي زمام الحكم في ليبيا سنة 1969. وانشغل القذافي في السنوات الأولى من حكمه في ترسيخ نظام حكمه والترويج لأيديولوجيته الجديدة “الكتاب الأخضر” وشنّ حملة تطهير ضد السياسيين والكتّاب، ولكن نضال أهالي درنة و مطالبتهم المتكررة بتشييد سدود، دفع النظام إلى التسريع في إنشائها، حيث تولت شركة “هيدروتينيكا – هيدرونيرجيتيكا” اليوغسلافية تشييد سدّين على مدار خمسة سنوات، ليتم افتتاحهما سنة 1977 بعد أن تم بناؤهما من خلال طبقة من الطين المضغوط وضعت فوقها طبقة أخرى من الصخور المضغوطة. السد الأول وهو “سد البلاد” ويأتي في محاذاة قلب مدينة درنة حيث لا يبتعد عنها إلا بمسافة كيلومتر واحد بسعة تخزينية في حدود 1.5 مليون متر مكعب، أما السد الثاني فهو “سد بو منصور” ويبعد حوالي 13 كم جنوب السد الأول، ويعد السد الأكبر بسعة حوالي 22.5 مليون متر مكعب. ساهم بناء السدّين في تخفيف مخاطر الفيضانات وتقليص أضرارها إن حصلت، خاصة وأن مدينة درنة شهدت بعد ذلك بسنوات فيضانات، مثل الذي جدّ منتصف سنة 1986 أو 2011، ولكن حتى حينها، كانت الأضرار قليلة ولم تمتلئ السدود الى هذا الحدّ. يشير علي امعيلف، أحد العاملين في الادارة العامة للسدود ومياه الوديان التابعة لوزارة الموارد المائية “لم أشهد على مدار العقود التي اشتغلت فيها بإدارة السدود على امتلاء سدّ بو منصور، فقد كانت قدرة استيعابه ضخمة للغاية ولا يمكن تخيّلها” ولكن ما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية فاق جميع التوقّعات.

 

عاصفة دانيال؛ ما الذي حدث؟

 

تعد عاصفة دانيال من بين أكثر العواصف دمارًا في حوض البحر الأبيض المتوسط خلال التاريخ الحديث، فقد شكّلت العاصفة نظام ضغط منخفض يوم 4 سبتمبر وأثرت على عدد من دول الحوض المتوسطي مثل اليونان وبلغاريا وتركيا وتسببت في فيضانات واسعة النطاق. صُنِّفت العاصفة بعد ذلك بأنها منخفض في البحر الأبيض المتوسط وسُمّيت باسم دانيال، وسرعان ما اكتسبت خصائص شبه استوائية وتحركت نحو ساحل ليبيا، في البداية لم تعر السلطات الليبية ولا حتى الأهالي العاصفة اهتماما كبيرًا،فقد كان مألوفا لدى سكان الجبل الاخضر عموما وسكان مدينة درنة خصوصًا تساقط كميات كبيرة من الأمطار. “ظننت أنها مجرد تساقطات وفيرة من الأمطار” يصف أحد سكان مدينة درنة وقائع الليلة الأولى، ولكن تدريجيا تطورت الأمور بشكل متسارع حتى الليلة الفاصلة بين يومي 9 و10 سبتمبر، عندما تحولت العاصفة التي كانت مجرد منخفض استوائي فرعي الى عاصفة استوائية فرعية، حيث يوضّح صالح بورزيقة المدير العام لمنظمة الحياة لحماية الكائنات البرية والبحرية أنه وابتداء من يوم 9 سبتمبر بدأت سرعة الرياح في الارتفاع، حيث سُجلت سرعة الرياح بواقع 45 عقدة أي 83 كيلومترًا في الساعة؛ 52 ميل في الساعة. ثم ضربت العاصفة ليبيا في 10 سبتمبر، بدء بمدينة بنغازي وهي ثاني أكبر مدن ليبيا بعد العاصمة طرابلس، ومن ثم بدأت تتجه نحو الشرق، لتجتاح كامل منطقة الجبل الأخضر، بداية من البيضاء مرورا بشحات ثم المرج وسوسة. بلغت الأمطار في مدينة البيضاء على سبيل المثال 414 ملم، بحسب هيئة الارصاد الليبية فإن الأمطار التي تساقطت في مدينة البيضاء وحدها خلال يوم واحد يعادل ما يهطل خلال سنة كاملة..وقد أدى تكاثف الأمطار وجريان الأودية والمجاري المائية الى قطع الطرق الرئيسية المؤدية إلى الجبل الأخضر، ثم بدأت كثافة الأمطار وسيول الفيضانات في التضخّم والتجمع في وادي درنة عبرمصبّاته الأربعة ولكن كثرة السيول وتدفقاتها حالت دون أن يقدر سدّ بومنصور على استيعابها، حيث تجاوز في أقل من ست ساعات طاقة استيعابه، ومع مرور الوقت وأمام حيرة السكان وتخاذل السلطات، دوى صوت انفجار كبير هزّ مدينة درنة. عند الثانية صباحًا، انهار سدّ بو منصور الذي كان متماسكًا طيلة خمسة عقود، خلّف انهياره سيلانا قويًا من المياه أدى إلى انهيار سدّ البلاد، وفي ظرف دقائق فقط، جرفت المياه كامل المدينة وابتلعت عشرات المباني والعائلات والسيّارات والأشجار، فقدغطّت المياه كامل المدينة وباغتت المتساكنين في منازلهم عندما انطلقت ملايين الأمتار المكعبة من المياه على حواف الوادي وضربت كامل المدينة. يشرح صالح بورزيقة أن “كمية سقوط الأمطار لا يمكن تحملها والدليل أنها جرفت أشجار عمرها مئات السنين، مثل العرعر والزيتون التي يبلغ عمرها ألفي سنة على الأقل، ولكن كان يمكن تخفيف آثار الفيضان، حيث كان يجب أن يكون السد خرساني علاوة على ذلك وجب اضافة سد ثالث في المنتصف، من الخطأ تجميع المياه في نهاية الواد وغير بعيد عن البحر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تخطيط المدينة لم يكن متماشيا مع خصوصيتها الجغرافية، نفس الأمر ينطبق على موقع بناء السدود الذي كان خاطئًا بشكل فاضح، فالوادي كان في قلب المدينة، مما  جعلها تحت رحمة السد لمدة عقود حتى آتت الكارثة.