الحق في التنقل وعنف سياسات الحدود (قراءة في كتاب Harga et désir d’Occident للباحث التونسي وائل القرناوي)
الحق في التنقل وعنف سياسات الحدود
قراءة في كتاب Harga et désir d’Occident للباحث التونسي وائل القرناوي
– إذا لم نفكر في هاته المسألة ، سترتفع حصيلة الموتى – وائل القرناوي متحدثا في اللقاء الحواري الذي نظمته مؤسسة روزا لوكسمبورغ – مكتب شمال إفريقيا بتاريخ 15 أفريل 2023
في مقدمة كتابه طوبولوجيا العنف يكتب الفيلسوف بيونغ شول هان ” ثمة أشياء لن تختفي من الوجود العنف هو واحد منها. وإذا كان من الشائع القول بأن الحداثة اتخذت موقفا عدائيا من العنف، فذلك ادعاء غير صحيح، حيث كل نظام اجتماعي يستدعي شکلا خارجيا للعنف يتناسب معه. غير أنه في عالم اليوم يتحول العنف من المستوى المرئي إلى اللامرئي، من الواجهة إلى الانتشار الفيروسي الواسع، من القوة الغاشمة إلى القوة الوسيطة، من الحقيقي إلى الافتراضي، من البدني إلى النفسي، من السلبي إلى الإيجابي، والانسحاب إلى ما تحت الجلد؛ ما يختفي تحت السطح وداخل المساحات الشعرية الدقيقة والعصبية، مع خلق انطباع خاطئ بأنه غير موجود. يصبح العنف لا مرئيا تماما في الوقت الذي يتحد فيه مع نقيضه؛ الحرية.”
بناء على مقدمة صاحب كتاب ” مجتمع الإحتراق النفسي “ يمكننا الحديث عن “ Harga et désir d’Occident “ للباحث التونسي وائل القرناوي ، باعتبار أن الحرقة هي احتراق نفسي بالأساس تصيب الخاضع كما نوه فرانز فانون لذلك عندما أشار إلى ” إن الحرب الاستعمارية فريدة حتى في الأمراض التي تسبّبها» حيث سنبين ذلك لاحقا عند التعرض للبعض منها كصدمة عدم الحركة « traumatisme de l’immobilité » ، صدمة رفض التأشيرة « traumatisme de refus de visa » وصدمة الولادة « le trauma de la naissance » وهي أمراض مؤسساتية تجعل من رغبة حيوية مثل الحركة والتنقل شرطا إداريا.
إذن بالعودة إلى المؤلف الذي هو بالأساس أطروحة دكتوراه تمت مناقشتها في جامعة باريس بتاريخ فيفري 2021 ، سنحاول في البداية وضعه في سياقه الإبستمولوجي.
من جهة أولى ينتمي إلى فئة النقد الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة والتداعيات الأخلاقية للممارسات المؤسساتية من خلال نقد أكثر تحررا واتساعا لكونه يرتكز على مقاربة التحليل النفسي كما يمزج بين اختصاصات عدة منها السوسيولوجي والتاريخي والفلسفي وغيرها …
من جهة ثانية يندرج الكتاب في فئة دراسات ما بعد الإستعمار ( أو الإستعمار الجديد ) كونه يفكك العلاقة بين ثنائية ( شمال – جنوب ) لإظهار علاقات السلطة والهيمنة، من خلال تقويض كل التراتبات الطبقية التي أسست لثنائيات ضدية جائرة ، سعيا لخلق عالم وجهه الاختلاف والتعدد، ومن ثم رد الاعتبار لكل الهوامش والحواف بوصفها هويات قابلة للانوجاد ( Dècoloniser la penseè p 178 ).
وليس من المصادفة أن تهتم نظرية ما بعد الاستعمار اهتمامًا خاصًا بتجارب الهجرة والمواطنة التي مرّت بها نخبة مثقفة تنتمي لعصر ما بعد الاستعمار، فقد كان إدوارد سعيد وهومي بابا وجيتري سبيفاك ( الثالوث المقدس للنظرية ما بعد الكولونيالية بتعبير كارل يونغ ) من المهاجرين الذين تلقّوا تعليمًا جيدًا ومن الميسورين الذين هاجروا من الشرق الأوسط أو جنوب آسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا.
من جهة ثالثة وأخيرة ينخرط في دراسات الحدود ، باعتبارها استمرارًا للأدوات المادية والرمزية التي تولد مع الاستعمار وتطيل تأثيره في صمت مثل اللاوعي ( Colonialitè qui travaille silencieusement, comme l’inconscient p 279 ) وباعتبار دراسات الحدود أيضا روايات مضادة لخطابات العولمة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ( عقد التفاؤل الساذج كما وصفه جورجو أغامبين ، بعد اختفاء صورة الحروب الكبرى والصراعات السياسية الجذرية وجعل العالم بمثابة قرية كونية تختفي معها الحدود المادية ) وهنا يشتغل وائل القرناوي ضمن الحالة التونسية في العشرية الأخيرة ( عقد التفاؤل التونسي بعد “الثورة” إن صح التعبير )
حراقة أو معارك اللغة
لا يمكن الفصل بين ما نخضع له وما نتذوت في الصراع معه، لذلك لا يمكن نقل معارك الحرية خارج التربة التي فرضتها ( جوديث بتلر من كتاب قلق الجندر )
منذ اهتمام إدوارد سعيد بالأسس الخطابية للاستعمار الجديد، بدأت تتشكل حساسية تجاه اللغة بشكل خاص بما أن اللغة ذاتها أدّت دورًا رئيسًا في عملية الاستعمار.لذلك يشتغل الباحث ما بعد الكولونيالي على قضية الكتابة الرجعية (Réécrire) أو إعادة الكتابة (Réécriture) أو إعادة القراءة (Relire).وبناء على هذا إختار وائل القرناوي أن يستعمل لفظ ” حرقة/حراقة “ بدلا من إستعمال ” المهاجرين غير النظاميين أو السريين أو خلسة “ التي تنتمي إلى منظومة تجريم الحق في التنقل. منتقدا الباحثين في الجامعات الأوروبية الذين يفكرون سلفا بتجريم الحرقة ضمن خطاب أوروبي يسعى نحو التملّص من مسؤوليته في الكوارث الإنسانية التي يتحملها، بل وتبريرها، بدل محاولة فهمهم ( أي الحراقة ) واعتبار الحرقة احتجاجًا على أوضاع سيئة تسبب فيها الاستعمار القديم والجديد، مثلما نظر إليهم إدوارد سعيد من قبل، كجماهير غير مسلحة تجاوزت بقدر بعيد نقطة القدرة على تحمل الحرمان المفروض.
يُدلل الفيلسوف جورجيو غامبين على هذا الأساس في كتابه “الإنسان المُستباح” شخصية من القانون الروماني القديم. فمهدرور الدم أو مستباح الدم “هومو ساكر Homo Sacer “، هو الفرد الذي قد يقتل على يد أي شخص دون إدانته بجريمة القتل لأنه قد حُظر من المجتمع القانوني السياسي. وفي حين أن المجرم قد يحظى بضمانات قانونية معينة وإجراءات رسمية.وهنا يعود بنا وائل القرناوي إلى كتابات فرانز فانون والانتهاكات التي رصدها من قبل مؤسسات الطب النفسي والأطباء النفسيين الاستعماريين في عشرينات القرن الماضي ( مدرسة الجزائر على وجه التحديد ) ، الذين روجوا لدونية السكان الأصليين الأفارقة من خلال وصمهم بغير المتحضرين ، العنيفين ، الهستريين إلخ …
يجري فهم التاريخ على أنه سيرورة غائية وسلسلة يسمها التراكم والتطور والترقي، بوصفه تقدمًا بشريًّا حميدًا. لكن والتر بنيامين يقدم نقدًا عنيفًا يطاول هذه الرؤية التاريخانية ؛ فهو يرى أن التاريخ ليس ثابتًا أو منتهيًا، بل يُبنى من جديد في حياته اللاحقة إلى ما لا نهاية. فمن وجهة نظر المضطهد «التقدم» هو فقط تحسين الوسائل التقنية لصالح الاستغلال المتفاقم للطبيعة والبشرية والسيطرة عليهما أكثر فأكثر.
وعلى هذا فإن مهمة الباحث تكمن في تفجير استمرارية التاريخ الزائفة ، وتحرير صوره المتعددة، وإعادة تأليفها على شكل تراكيب نقدية في الحاضر، لذلك يرصد الكتاب الممارسات العنصرية التي تطورت من خلال السياسات البيو-سياسية وعن طريق الأجهزة الحدودية مثل القنصليات و TLS Contact و Campus France ومراكز الاستقبال ، التي تنتفي فيها مقومات حفظ الكرامة البشرية. كما تكشف لنا سولين فورغيت Solène Forget ( مساعدة تمريض بمركز الاحتجاز الإداري بباريس CRA de Vincennes ) في مدونتها الشخصية ، حيث أن الحراس في المركز يطلقون على المهاجرين من شمال افريقيا بالجرذان ( Un retenu administratif, un RAT p 292 ) دون أن ننسى ظروف الترحيل القسري التي تتم ، حيث يقع تخديرهم وإلجام أفواههم مثل الكلاب، بالإضافة إلى أكذوبة الترحيل الطوعي والإحباط الذي يشعر به المهاجرون العائدون جراء الوعود الكاذبة.
التأشيرة والمصيدة الحدودية Visa et piège des frontières
مات رجل…
وكان عليه أن يدخل الجحيم.
وانتظر أمام باب كبير.
انتظر يوما.. يومين..
انتظر أسابيع.. وشهورا..
ثم سنوات.
واخيرا، مر رجل بجواره.
فسأله الرجل الذي ينتظر:
” ألا يمكنك مساعدتي؟ المفروض أن أدخل إلى الجحيم”.
فنظر الرجل الآخر إليه من رأسه إلى أخمص قدميه..
وقال:
” لكن يا سيدي، هذا الانتظار هو الجحيم”.
– مشهد من فيلم Transit للمخرج كربستيان بيتزولد، مأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للروائية الألمانية آنا سيغيريس.
يعد نظام التأشيرات ” شنغن ” العقبة الرئيسية الأولى أمام حرية التنقل لمواطني جنوب البحر الأبيض المتوسط ، على الرغم من أن هذا الترتيب يقدم نفسه كإجراء عادي يتعلق بالتنظيم الضروري للهجرة ، لكنه في الواقع يقوم بالرقابة الصارمة على تدفقات الهجرة والتعسف الكلي تجاه مطالب المنح، دون الخضوع لأي منطق أو مبرر ، وهو ما تؤكده حقيقة أنه حتى الأشخاص الذين يتمتعون بمجموعة من الامتيازات التي تضعهم في مرتبة عالية في التسلسل الهرمي الاجتماعي قد يتم رفض منحهم التأشيرة. بدون أي سبب. فعندما يستلم جواز سفره من مركز TLS Contact للتأشيرات يذكر الأخير القرار القنصلي بالشكل التالي: “لا يمكن إثبات نيتك في مغادرة أراضي الدول الأعضاء قبل انتهاء صلاحية التأشيرة” ، ما أسماه وائل القرناوي في كتابه Juger l’intentionnalitè et la ” volontè ” de retour ( p 289 ) أي بقول آخر غير منطوق طالما أنك تونسي فأنت كذاب ، متحيل ، وغير متحضر إلخ من أنواع الإزدراء stigmatisation p 47 في مواصلة للممارسات الدونية التي لا تفرق بين أحد.
تأثير رفض مطلب التأشيرة ( l’impact de refus du visa ) وأمراض سياسات الحدود ( Frontièrisation )
ماذا لو أنّ الغرب لم يكن مجرد عدوّ سياسي بل هو “مستوطن” ميتافيزيقي، إستغلّ خاصة في حالتنا ، وجوه القرابة التوحيدية معه، كي يعمق ما سماه باديو ” رغبة الغرب داخلنا “. ( فتحي المسكيني من كتاب حروب المعنى )
هذا الحدث الصادم évènement traumatique ( 119 p ) كما يقف عنده وائل القرناوي ويحاول اكتشاف تداعياته النفسية ، يترتب عنه شعور بالنبذ وعدم القيمة ( La honte d’ètre soi- mème p 28 ) والإخصاء الرمزي ، وهي عنصرية مؤسساتية تسببت فيها سياسات الحدود وأفرزت أمراض سيكوباتية منها : صدمة رفض التأشيرة « traumatisme de refus de visa » وصدمة عدم القدرة على الحركة والتنقل «traumatisme de l’immobilitè » بحيث يصبح مكان الولادة إنتماء معيقا يحول الرغبة من السفر العادي ، إلى رغبة مضاعفة في ” الهجة ” و ” الحرقة “( Un désir redoublé de déracinement p 294 ) فتصبح أوروبا هي الخلاص كما يأتي على لسان الكثيرين ” نحن نختنق هنا ، أوروبا أفضل ، إن لم أغادر سأرتكب جريمة ما ، تموت في البحر وتأكلني الأسماك أفضل من البقاء في أرض العار والإهانة ، السجن في أوروبا أفضل لي من العيش في تونس : العبارة الأخيرة وردت على لسان نجم الدين : حراق تم إيقافه في إيطاليا وتعرض إلى كافة أشكال العنصرية ، قبل أن يتم ترحيله قسريا ( Le harrage idèalise l’occident p 149 ) ”
يتفاعل النقص الوجودي الأساسي في الذات الذي يفرضه النظام الرمزي مع التماهيات الخيالية ومواضيع الرغبة (أي الغرض التي تسعى إليه الرغبة) فيما بينها، في جدلية معقدة ومتغيرة باستمرار. إذ إن تلك العناصر تتبع الحركة الدائرية المستمرة والمستحيلة للرغبة في الوقت الذي تسعى فيه إلى تعويض النقص في جوهرها.
أكذوبة الهجرة ووضعية المهاجر Le mensonge migratoire et les conditions de l’immigration
يا الرَايح وين مسافر تروح تعيا وتولي
شحال ندموا العباد الغافلين قبلك وقبلي
( من كلمات أغنية يا الرايح وين مسافر للفنان رشيد طه )
في هذا الجزء من الكتاب ينقلنا وائل القرناوي إلى الضفة الأخرى ، مستعيرا من المحلل النفسي التونسي محمد غربال ما سمّاه في مقالة كتبها سنوات السبعين عن المهاجرين الجزائريين بأكذوبة الهجرة ، التي تتمثل ببساطة في الوضعية التالية ” إن الفرد الموجود هنا ( في تونس مثلا ) سيسمع أشياء عن اوروبا قد قيلت له من قبيل من مثل أن الظروف هنالك جيدة حيث تتوفر الضمانة الإجتماعية والعلاج المجاني إلخ إلخ فتختمر في ذهنه فكرة المغادرة نحوها ، عند وصوله يكتشف أنه لا وجود لما قيل ، ولكنه لا يتجرأ على كشف الواقع ، بل يضطر للكذب عن عائلته وأصدقائه من خلال تكريس أسطورة “إل دورادو الأوروبي”. ويعيد هو ذاته نفس الأكذوبة لبقية أقرانه المتواجدين في بلدانهم وهكذا دواليك. فالذي يعيش خيبة أمل هناك لا يقر بها صراحة خوفا من إتهامه بالفشل في تحصيل العيش الكريم كبقية المهاجرين ، ولماذا المجتمع يحكم عليه بالفشل! لأن المجتمع هو ذاته لا يستطيع معرفة الواقع هناك أي أنه لا يرى بحكم منعه من التنقل، لذلك فإن الحدود تخلق نوعا من الأوهام والفانتازمات التي تغذي الرغبة في الغرب Désir d’Occident.
يؤرّخ شهرام خوسرافي في مقالته البحثية “ما الذي نراه عندما ننظر إلى الجهة الأُخرى من الحدود؟” للمُمارسات الأوروبية المُعاصرة في صناعة الآخَروية، وبحسبه فإنّ المعنى الإيتيمولوجيي “الفيزا” تأتي من الكلمة اللاتينية Videre والتي تعني “حتّى ترى”.
فالحقيقة أن المهاجر يعيش أزمة هيكلية ( السكن في الغيتوهات ” الأحياء الموصومة بالعار ” ، مشكلة الأجور المنخفضة مقارنة بالمواطنين الأوروبيين ، العنصرية وكراهية الإسلام والاجراءات الروتينية لتجديد مطلب الإقامة ) فيما يعيش الحراق أزمة مضاعفة من التهميش الهيكلي ( صعوبة الحصول على الأوراق ، مشكلة السكن ، والبطالة أو الإقتصاد السري … ) لذلك سيجد نفسه عرضة للإستغلال والعمل في حقول العنب أو الخضر مقابل 20 اورو ، بعد أن كان يعتقد أنه سيصبح غنيا ويرسل أموالا لعائلته. وحتى يتم إخفاء هاته الجروح النفسية يقوم العديد من الحراقة ، فور وصولهم إلى باريس ، بإلتقاط صور سيلفي مع برج ايفل “القضيب الغربي” ونشرها على الفايسبوك ، حتى يهدؤون من قلقهم وإحباطهم في علاقة بالآخر الذي ينتظره ويتوهم سعادته ونجاحاته.
Le Dealergrant
“إن كل المواطنين في العصر الحديث يظهرون افتراضيا منبوذين مُستباحين داخل حالة من الحظر السياسي، وهنا تبدأ المرحلة التالية من السياسة”. (جورجو أغامبين من كتاب حالة الاستثناء “الإنسان الحرام” )
يطور وائل القرناوي مصطلحا مركبا يجمع فيه بين مروج المخدرات Dealer وبين المهاجر L’Émigrant لنكون أمام وضعية ال Dealigrant ، الذي هو نتيجة لعنصرية ممنهجة وتهميش هيكلي . فالحراق عندما يصل إلى هناك من أجل العمل ، وتغلق الأبواب في وجهه بسبب الصعوبات التي أشرنا إليها منذ منذ قليل. فإنه يجد نفسه بالضرورة بائع مخدرات ويحكم عليه بالعيش في في بيئة مرتبطة بالجريمة والانحدار الاجتماعي والإقتصاد الغير شرعي.
نقرأ من الكتاب ” فوجئت بوجود حوالي عشرين تونسيًا من بائعي المخدرات ، ينفقون يوما كاملا في Kleinen Tiergarten (حديقة بالقرب من محطة مترو أنفاق Turmstrasse في برلين) تتراوح أعمارهم بين 17 و 40 سنة ، غالبًا ما ينام الأشخاص الأكثر هامشية وهشاشة قرب الحديقة مباشرةً. بينما يأتي الآخرون في وقت متأخر قليلاً من الصباح ويبدؤون عملهم من الساعة 11 صباحًا. إلى حوالي الساعة 6 مساءً ، تبدو الحديقة وكأنها سوق ، قال لي أحدهم: “أنا هنا منذ عشر سنوات ، أبيع المخدرات … الآن لست خائفًا من أي شيء ، لقد فقدت كل مشاعري وأصبحت حيوانًا بريًا”
من الرغبة في الغرب إلى الرغبة في داعش ( Le passage d’une identification a une autre )
“فاز الغرب بريادة العالم، ليس لتفوُّق أفكاره أو قيمه، بل لتفوُّقه في تطبيق العنف المُنظَّم، وغالبا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا ينسونها أبدا”. ( صامويل هنتنغتون من كتاب صدام الحضارات )
ينتهج وائل القرناوي النظرية التحليلية اللاكانية لمفهوم الرغبة ، باعتبارها رغبة أن تكون الآخر ، حيث إن ديالكتيك الرغبة في اللاوعي الفرويدي ، كما قدمه لاكان، هو عملية معقدة تتضمن التفاعل الديناميكي بين إحساس الذات بالنقص الأساسي، ومطالبها الموجهة نحو الآخر ، كما تتضمن كون الرغبة نفسها ” تمثل ” ، يمكن استبداله ، أي استبدال دال بآخر ـ في حركة انتقالية لا تتوقف، فمن دال إلى دال تنتقل الرغبة في عالم الأبارتايد (الفصل العنصري) وتلتقي مع العرض الجهادي ( L’offre Jihadiste p 107 ) ، الذي حول الواقع المعقد لمأساة المهاجرين واللاجئين في أوروبا Daech a converti la réalité complexe de la tragèdie des migrants ( p 111 ) لتقدم في دعايتها ما أسمته “مسار الهجرة الآخر” أو ” عكس تدفق الهجرة ” إلى أرض الإسلام. مثلما بثت في ذلك مقطع فيديو بعنوان “بين الهجرتين ماذا تختار؟” ، تخاطب فيه على وجه الخصوص أولئك الحراقة ، ناسجة لهم أثواباً من أحلامهم الميتة، أثوابا مزينة بكل أنواع “التفوق الأخلاقي” و”الفخر القومي” لتكون قادرة على إخفاء جروحهم وحقيقة مشاعرهم وراءها بشكل جيد.
تبدو حالة أنيس العمري ( الإرهابي الذي قام بعملية برلين في 19 ديسمبر 2016 ) تمثيلا حادًا ومتطرفًا ، كتدليل على نقطة الإلتقاء والتحول ، فأنيس العمري مهاجر ( حارق ) مر بأجهزة مراقبة الحدود وتعرض لسوء المعاملة منذ وصوله، حيث تم “احتجازه ” في مركز للقصر بصقلية ، هناك يشارك في احتجاجات جماعية من أجل الخروج، تنتهي بسجنه لمدة خمسة أشهر.
ثم تتكرر الاحتجاجات بعد خروجه ونقله إلى مركز آخر ، لكن هذه المرة يتم الحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات بعد وشاية ومكيدة تعرض لها أثناء خصومة مع أحد الحراقة العالقين هناك ، وعدم تمكينه من تعيين محام للدفاع عنه.
لن يكفيه شعوره بالظلم هذا ، بل سيتلقى من داخل سجنه خبر الحُكم عليه بالسجن غيابيًا في تونس لمدة خمس سنوات ( بسبب قيادته لشاحنة مسروقة )
قبل هذه الأحداث الدرامية المتتالية ، لم يكن أنيس العمري يمارس شعائره الدينية ( كما أشار أفراد عائلته ) ، لكنه سرعان ما سيصبح إمامًا يقوم بالدعوى الإسلامية ، حتى أنه نفذ إضرابات عن الطعام احتجاجًا على منع السجناء المسلمين من الصلاة والإفطار معًا خلال شهر رمضان.
في النهاية خرج أنيس بعدما قضى عقوبته ، لكن لن ينعم بالحرية مجددا ، لأنه وفقًا للقانون الإيطالي ، كان لا بد من طرده في غضون ثلاثين يومًا. وبالتالي فإن السجن ينتظره مرة أخرى في تونس ، وهنا يتقاطع الانهيار النفسي مع العرض الجهادي ( L’effondrement psychique et le croisement de l’offre jihadiste p 107 ) بعد أن سقط المثال الغربي وتولدت الرغبة في الانتقام منه ( 152 p ) La chute de l’idèal occidental et dèsire de vengense
البحث الميداني كآلية لمعاينة الأضرار ( Vers une psychanalyse de terrain )
وشعرت بالنشوة وبالحسرة التي تصاحب الإحساس بأنك جزء من هذه الحركة سواء في الأمل الذي يحدوها أم في الشقاق الداخلي الذي يعصف بها ( جوديث بتلر – من كتاب قلق الجندر )
وائل القرناوي الذي ينتمي لحي شعبي وخالط أبناء الأحياء الشعبية الأخرى ، أمكنه ذلك من الدخول إلى عالمهم ليس بصفته ” باحثا ” إنما بصفته ” ولد حومة ” . منتهجا ما يسمى بالإثنوغرافيا متعددة المواقع ، التي تضمن له متابعة موضوعات بحثه في سياقات مختلفة ، فنراه على إمتداد الكتاب يجلس معهم في البارات الشعبية والأسواق الأسبوعية ( بعيدا عن المسالك الرسمية ) كي يجري معهم حواراته، ثم ينتقل بنا إلى الضفة الأخرى، مع الحراقة الذين يعيشون في الغيتوهات ويبيعون المخدرات في الحدائق العامة.
ورغم كون الكتاب هو أطروحة أكاديمية كما أشرنا منذ البداية ، إلا أن هذا العمل يتجاوز حدود الجدران الأكاديمية، ليرتبط أكثر بالهابيتوس الإجتماعي ، ” أنا تهمني الحرقة، لأن منزلنا على مقربة من المطار ومن الحركة البحرية، في السابق كنت أحلم دائما بالسفر والذهاب إلى بعيد ، ثم صدمت كيف أن الناس تموت جراء هذا الحلم … سياسات الحدود والهجرة هي مواصلة لسياسات استعمارية ، في القديم كان يقتلك ويفتك لك أراضيك ، اليوم أصبح يغلق عليك الحدود ، حتى تبيع أنت أرضك لكي تدفع ثمن ” الحرقة ” فتموت في البحر وتفقد ثروتك وتفقد حياتك. ” ( وائل القرناوي في حديثه ضمن اللقاء الحواري الذي نظمته مؤسسة روزا لوكسمبورغ – مكتب شمال إفريقيا بتاريخ 15 أفريل 2023.
رابط اللقاء