الحرب الروسية الأوكرانية وأثرها على الغذاء في بلدان شمال أفريقيا: الغذاء الهش والمقاومة السيادية
الحرب الروسية الأوكرانية وأثرها على الغذاء في بلدان شمال أفريقيا
الغذاء الهش والمقاومة السيادية
فاقمت الحروب الحالية وجائحة كورونا الأزمة التي حلت بالاقتصاد العالمي منذ سنة 2008. فبعد سنتين من الركود (2020/2021) الناتج على الاحتواء التام لفيروس الكوفيد-19 ، وما تلاه من إفلاس منشآت صناعية وخدماتية وتسريحات للعمال واختلال سلاسل الإنتاج، وما أن بدأ الرهان على عودة الانتعاش للاقتصاد العالمي بعد الجائحة، تأججت التناقضات بين البلدان الرأسمالية الكبرى، من حروب تجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وحرب روسيا على أوكرانيا.
و ليست بلدان شمال افريقيا، رغم بعدها عن بؤر ظهور هذه الازمات، بمنأى عن مستتبعاتها. فتبعية بلداننا للمراكز الرأسمالية جعلها الأشد تأثّرا، فهذه التبعية متعددة الأوجه، وما يهمنا منها في هذا الملف هي التبعية الغذائية.
تعد كل من روسيا وأوكرانيا من الدول الرئيسية المصدرة للقمح في العالم، وتعتمد عليها عدة دول لإطعام شعوبها، ومنها دول شمال أفريقيا خاصة تونس ومصر.
وفي الواقع، إذا ما نجحت بلدان المنطقة في تغطية احتياجاتها الغذائية على المدى القصير، وذلك أساسا بتعبئة موارد ميزانياتها، فهي تواجه الآن صعوبات كبيرة بشأن إمداداتها الخارجية. فرغم حداثة هذه الحرب، ارتفعت أسعار كل المواد الغذائية والمدخلات الفلاحية ارتفاعا مهولا، بما يفوق 50% في بعض المواد الغذائية. كما شملت مخلفات هذه الحرب أسعار المدخلات الفلاحية التي زادت بنسبة 100% في ما يتعلق بالأسمدة في بعض بلدان منطقتنا.
كما أبانت هذه الحرب هشاشة نُظُمِنا الغذائية، وفشلَ السياسات النيوليبرالية التي يجري تطبيقها في منطقتنا منذ عقود. فبدرجات متفاوتة، تبنت دول شمال إفريقيا سياسات “التحديث” مبنية على تهميش المعرفة المحلية من خلال الميكنة وتوجيه الزراعة المعيشية الى زراعة تجارية وتصديرية، ما أدى إلى تكثيف محاصيل التصدير، ولا سيما في تونس والمغرب ومصر، بما يتماشى مع نهج الحقبة الاستعمارية.
وتعزّز هذا النموذج بعد تحول بلدان شمال إفريقيا صوب نحو الليبرالية الجديدة مطلعَ سنوات الثمانينيات، تحت ضغط المؤسسات المالية الدولية. منذ ذلك الحين، أعطيت الأولوية لخفض الدين العام والإنفاق الاجتماعي، والسماح بزيادة هيمنة السوق، بواسطة كل من الخصخصة المستمرة للشركات العامة والتآكل التدريجي للخدمات العامة. ومن ثم، أدى انسحاب الدولة التدريجي من القطاعات الزراعية التقليدية إلى الحصول على الغذاء باستعمال آليات السوق، سواء أسواق السلع العالمية أو الإنتاج المحلي أو حتى المساعدات الغذائية، على حساب سيادة بلدان شمال إفريقيا الغذائية. وبتمكين الشركات المتعددة الجنسية وإبرام اتفاقيات التبادل الحر بين دول شمال إفريقيا و الدول الرأسمالية الكبرى بلغت هذه السياسات ذروتها في إهمال النظم الزراعية والبيئية المحلية.
فتكشَف حرب روسيا على اوكرانيا بالملموس معنى فقدان البلدان سيادتَها الغذائية وارتهانها بتوريد حاجاتها الغذائية، واعتماد فلاحة رأسمالية تجارية تصديرية موجهة للسوق الخارجية دائمة التقلب. كما كشف الغزو الروسي لأوكرانيا تبعية بلداننا وحقيقة إمكانية أن نجوع في حال توسعت الحرب أو تطورت بفعل جنون الغزاة إلى حرب نووية.
لقد أصبح واضحا أن رهن غذاء شعوبنا بالخارج هو استعمار جديد بآليات متجددة: ديون واتفاقيات واستثمار الشركات المتعددة الجنسية، والاستحواذ على الأراضي وثرواتها والقضاء على الزراعات الأسرية/ المعيشية وتسليع البذور الأصيلة، وغيرها من أوجه الحرب الرأسمالية على صغار منتجي الغذاء.
لقد دُق ناقوس الخطر المحدق بنا، لم نصل بعد مرحلة تفشي المجاعات في منطقتنا، ولكن يمكن القول إن ارتفاع أسعار مواد الغذاء ومدخلات إنتاجه وتدني القدرة الشرائية قد يجر قسما من شعوب المنطقة إلى سوء التغذية وتبعاته الصحية والاجتماعية.
يتطلب هذا الوضع تنظيم صفوف الضحايا من أجل مقاومة اجتماعية سيادية تناضل لتجسيد مشروع السيادة الغذائية اعتمادا على ممارسات زراعة ايكولوجية، بما يجعلها بمنأى عن الأزمات الغذائية المتواترة الناتجة عن التبعية للواردات والهشاشة إزاء تغيرات المناخ وتقلبات الأسعار.
يلقي الملف الذي بين أيدينا الضوء على تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا على الغذاء في بلدان شمال أفريقيا؛ ونظرًا لما للحرب من تأثيرات مختلفة على بلدان شمال إفريقيا، سيتناول هذا الملف تأثير الحرب على أربعة بلدان من المنطقة وهي: الجزائر وتونس ومصر والمغرب.
هذه محاولة منا بالتنسيق مع مجموعة من الباحثين والباحثات وعاملات وعمال الزراعة ، لتقديم منظور شامل حول أوضاع بلداننا الغذائية في ظل الحرب المذكورة، مع محاولة اقتراح مشاريع بدائل قد تكون مدخلا لنقاش شعبي موحد نبني عليه مشروعنا التحرري، أي السيادة الشعبية على إنتاج الغذاء واستهلاكه في شمال أفريقيا.