تأثير التحولات المناخية على الواحات التونسية
ملخص لدراسة
تأثير التحولات المناخية على الواحات التونسية
حسين الرحيلي
-
مقدمة:
الواحات التونسية ليست مجرد فضاءات معزولة في الصحراء، تنتج مرة في السنة التمور وخاصة ” دقلة النور”. بل هي منظومة انتاج متكاملة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، اضافة الى كونها منظومة بيئية من صنع الانسان على مصادر عيون الماء في المواقع الصحراوية.
ولعل التطور الكبير الذي شهدته الواحات التونسية خلال الستين سنة الاخيرة، يعبر بشكل جيد على اهمية هذه المنظومات الانتاجية وقدرتها على توطين السكان في فضاءات مناخية وجغرافية قاسية.
بلغة الارقام، تمسح الواحات في تونس وبالخصوص في الولايات الواحية الأربعة: قبلي وتوزر وقابس وقفصة 55049 الف هكتار، وبعدد نخيل يساوي حوالي 7.5 مليون نخلة منها 4,5 مليون نخلة دقلة.
ينخرط في منظومة انتاج التمور بالواحات التونسية حوالي 60 أ فلاح بأحجام ومقاسم متعدد ومتنوعة. مما مكن من انتاج سنوي يعادل 290 ألف طن، منها 60 % دقلة نور. هذا الانتاج مكن القطاع الواحات من المساهمة في القيمة الجملية للإنتاج الفلاحي بحوالي 6.6 %، وبحوالي 20 % من قيمة الصادرات الفلاحية، إذ تحتل التمور المرتبة الثانية من حيث التصدير بعد زيت الزيتون. اما على مستوى الايرادات المالية، فان تصدير التمور مكن من تعبئة 542 مليون دينار سنة 2017-2018 بتصدير حوالي 105 آلاف طن.
امام التطور الكمي والنوعي للواحات في تونس، قد مكن البلاد من تصبح ثاني منتج لدقلة النور في العالم (23 % من الانتاج العالمي)، بعد الجزائر واول مصدر لهذا المنتوج لحولي 80 دولة.
الا ان هذه النجاحات والارقام القياسية والمراتب العالمية المتقدمة لقطاع التمور، وبالتالي للمنظومة الواحية التونسية، لا يجب ان يخفي عنا هول الضريبة لكل هذه النجاحات. ذلك ان تضاعف مساحة الواحات التونسية خلال الخمسين سنة الاخيرة من 16 ألف هكتار الى حوالي 55049 ألف هكتار، كان على حساب الموارد المائية الجوفية التي تمثل أصل الواحات ومصدر وجادها وحياتها. إذ استنزفت الواحات التونسية خلال مراحل توسعها الموائد المائية الجوفية ضعيفة التجدد خاصة بمنطقتي قبلي وتوزر، حيث تستعمل الواحات كميات مياه بحولي 640 مليون م3 في السنة، من امكانات مائية جوفية لا تتجاوز 560 مليون م3 سنويا (اي نسبة استغلال تتجاوز 117 % من طاقة الموائد الجوفية العميقة بمنطقة الواحات). اي ان منظومة الواحات في تونس قد دخلت مرحلة التخريب الذاتي الممنهج باعتبارها تستنزف مصدر وجودها وديمومتها.
وتعتبر منطقة قبلي أكثر المناطق الواحية استنزافا للموارد المائية من خلال حفر أكثر من 8 آلاف بئر عشوائي ما زاد في تعميق المشاكل المائية الجوفية بالجهة.
واذ كان مشكل الاستغلال المجحف للموارد المائية الجوفية بالمنظومة الواحية التونسية، يمثل أشكالها الهيكلي، فان هذه المنظومة تتعرض للإشكالية أكثر صعوبة وتعقيدا الا وهي التحولات المناخية التي بدأت تضرب بنتائجها السلبية في كل مكان وتحولت من تكهنات علماء الى واقع يعيشه الانسان والنبات والحيوان في جل اصقاع الارض خاصة بداية من سنتي 2015 و2016.
فمشكل الموارد المائية يمكن ان يتحول من مشكل هيكلي، الى مشكل تقني واجرائي، ان توفرت الارادة السياسية والادارية لمنع حفر الآبار العشوائية، والقيام ببرامج لترشيد استعمال الماء بالواحات التونسية وتغيير منظومة الانتاج والري بها.
الا ان الاشكالات المرتبطة بالتحولات المناخية، فهي معقدة ومرتبطة بالسياسات العامة للدولة، والمتعلقة بالتأقلم مع هذه التحولات، خاصة وان المنظومات الواحية بتونس وبكل أرجاء العالم تعد منظومات بيئية هشة وحساسة ولا تتحمل التغيرات الهيكلية للمناخ وللظروف الجغرافية الاساسية. ذلك انها ليست من صنع الطبيعة، بل من صنع الانسان، وبالتالي فهي منظومات اصطناعية على الطبيعة وجب حمايتها بشكل أكثر جدية، واعدادها للتأقلم مع التغيرات المناخية للحد من تأثرها الذي يمكن ان يكون كبيرا.
امام هذه الخصوصيات الهيكلية للمنظومات الواحية التونسية، ووعيا منها بأهمية هذه المنظومات بيئيا واجتماعيا واقتصاديا من ناحية، وبهشاشتها وحساسيتها الكبيرة للتحولات المناخية من ناحية اخرى، ومساهمة منها في تدشين مرحلة الدراسات القطاعية للتأقلم من التحولات المناخية وابراز آثارها على المدى المتوسط والبعيد. تنجز منظمة ” روزا لكسمبورغ ” هذه الدراسة بعنوان “ تأثير التحولات المناخية على الواحات التونسية” بولايات قبلي وتوزر وقابس وقفصة.
-
مفهوم الواحة
الواحة بالمعنى الواسع للكلمة، هي كل منظومة ايكولوجية اصطناعية تنشا حول مصدر للماء بالصحراء. أصل كلمة واحة يوناني، ويعني منطقة نباتات معزولة بالصحراء.
اما بالمفهوم الأنثروبولوجي، فالواحة هي ” منطقة ترابية “ من صنع الانسان تصان وتتعهد عبر نظام تصرف تقني واجتماعي للموارد المائية. وهو ما يعني ان الواحة فضاء للغراسة السقوية (من خلال السواقي). وبالتالي، وانطلاقا من هذا المفهوم الانثروبولوجي للواحة، يمكن القول انها المنظومة ايكولوجية الوحيدة من صنع الانسان وبامتياز. طوّعها وادمجها في الطبيعة وفق خصائص ونظام انتاج وتصرف خصوصي جدا.
من خلال المفهومين اللذين تم التعرض لهما سابقا، يمكننا ان نلاحظ ان الواحة تتمحور حول مجموعة من الكلمات الاساسية هي:
- منظومة ايكولوجية من صنع الانسان
- دور محوري للماء في نشأتها وضمان ديمومتها
- الفضاء الصحراوي او شبه الصحراوي هو الحاضن الطبيعي للواحة
- النخلة الشجرة الاسطورة للواحة ومصدر ثمارها الابدي
لذلك ارتبطت الواحة بالنخلة، وارتبط الحديث عن النخلة بالواحة الصحراوية. بل يمكن القول ان النخلة هي التي حولت الواحة من مجرد فضاء اصطناعي من ابداع الانسان، الى نظام اقتصادي واجتماعي كان سببا لتجمعات سكانية كبيرة على الارض، مما يجعلنا نقول ان الواحة تعبير حقيقي على تطور الانسان من ناحية، وعلى نشأة حضارات بها وحولها من ناحية أخرى.
-
الواحات في تونس: من منظومة ايكولوجية الى نظام انتاج اجتماعي واقتصادي
3-1- تقديم عام للواحات التونسية
تقع الواحات التونسية بأربعة ولايات بالجنوب وبالجنوب الغربي للبلاد التونسية، وهي قبلي وتوزر وقابس وقفصة. وتبلغ مساحة هذه الولايات حوالي 43019 كم2، أي 26 % من المساحة الجملية للبلاد
لتحديد مساحة الواحات في تونس، تجمع جل الدراسات والتقارير الرسمية على ان مساحة هذه الواحات لا تتجاوز 40500 هكتار الى حدود 2012. الا ان المعطيات الميدانية من ناحية والارقام الموثقة من طرف العديد من جمعيات المجتمع المدني المعنية بالموضوع، وتقارير ديوان تنمية الجنوب تقر بان هذه المساحات تتجاوز الرقم المعلن عنه رسميا والذي يعود الى ما قبل سنة 2009.
بعد تدقيق كل المعطيات حول الموضوع، يمكننا القول ان مساحة الواحات التونسية بالأربعة ولايات التي سبق الاشارة اليها تقدر بحوالي 56034 هكتار موزعة بين واحات عمومية قديمة وواحات خاصة جديدة. وتحتكر ولاية قبلي لوحدها حوالي 67% من المساحة الجملية للواحات بحوالي 36791 هكتار. في حين تتوزع مساحة بقية الواحات على ولاية توزر بحوالي 8725 هكتار، وقابس بحوالي 7262 هكتار وقفصة بحوالي 3256 هكتار منها 2736 هك واحات تقليدية
اما عدد النخيل المزروع بالواحات السالفة الذكرى، فان الارقام الرسمية تؤكد على وجود حوالي 5.4 مليون نخلة وفق احصائيات 2009. الا ان التطور الكبير والتوسع التي شهدته الواحات خلال العشرة سنوات الاخيرة وخاصة بمنطقة قبلي، تجعلنا نقر بعدم تعبير هذا العدد الرسمي المتعلق بعدد نخيل تونس. اذ تؤكد تقارير حديثة ودراسات مستقلة على ان عدد النخيل تجاوز 6.5 مليون نخلة بواحات تونس، خاصة من خلال التوسع الهام الذي شهدته واحات قبلي، حيث قفزت فيها مساحات الواحات بالمنطقة من 23 ألف هكتار سنة 2009 الى 36791 هكتار سنة 2020. اذ تشتمل واحات قبلي على حوالي 4.3 مليون نخلة، وواحات توزر على 1.6 مليون نخلة، والبقية موزعة بين واحات قابس (400 ألف نخلة) وقفصة (200 ألف نخلة).
كما تختلف كثافة النخيل خاصة بين واحات نفزاوة بقبلي وواحات الجري بتوزر، إذ تتميز واحات الجريد بكثافة النخيل التي تصل الى حدود 195 نخلة بالهكتار، في حين تكون هذه الكثافة في حدود 130 نخلة في الهكتار بواحات قبلي وخاصة الواحات العمومية القديمة. ويرجع هذا الاختلاف في الكثافة الى الاختلاف في المسافة الفاصلة بين النخلتين. اذ تكون المسافة بين نخلتين بقبلي ما بين 8 الى 10 أمتار. في حين في الجريد تكون هذه المسافة الفاصلة ما بين 8 و6 أمتار.
كما تتميز الواحات التونسية بتنوع انتاجها من التمور، رغم غلبة صنف “دقلة النور” التي تمثل حوالي80 % من انتاج واحتي قبلي وتوزر والواحات الجديدة بقفصة. ووفق المعطيات الرسمية تشتمل التمور التونسية على 260 صنفا. نذكر بعضا منها الاكثر تداولا مثل: العليق والفطيمي والقندة والبصر والعماري والبلح والكنتيشي والانقو والحمراية والطنجة والقصبي والهيسة وتوزرزايت والباجو، وهي انواع تنتج خاصة بقبلي وتوزر. رغم كونها تنتج وتنضج خلال شهر اوت اي قبل انتاج الدقلة، الا انها لا تسوق خارج مناطق الواحات لسيطرة التسويق التجاري لدقلة النور.
تنتج الواحات التونسية سنويا كمية من التمور تتراوح ما بين 300 الى 340 ألف طنا، وفق طبيعة الموسم ومردودية الواحات. يمثل انتاج دقة النور حوالي 80% اي حوالي 240 ألف طن. يقع تصدير حوالي 90 الى 105 آلاف طن سنويا الى حوالي 80 دولة. ويساهم تصدير التمور من نوع دقلة النور خاصة بعائدات مالية سنوية تقدر بحوالي 500 مليون دينار.
3-2- الماء والواحات: قصة أصل الولادة
الماء والواحة قصة أصل وولادة. ودون مصدر للماء، لم يكن الانسان قادر على ايجاد جنة في الصحراء. لذلك ارتبطت الواحات في كل الدول التي تحتضنها بعيون الماء والينابيع.
العيون والينابيع المائية، ومن خلال سيلانها الدائم تتحول الى جداول فأودية دائمة السيلان. وعلى ضفاف هذه الاودية التي تأخذ مصدرها من العيون، انتشرت الواحات وتحولت عبر الزمن الى انظمة ايكولوجية خصوصية والى نظام انتاجي ذات بعد اجتماعي وعمق اقتصادي.
بالتالي، فان اي تغيير او تراجع في موارد المياه، فان منظومة الواحات ستكون مهددة بالاندثار. لان مصدر حياتها واصلها الوجودي هو الماء.
فدجلة والفرات في العراق، والنيل في مصر وعيون الماء بالسعودية والامارات وإيران، اضافة الى العيون الطبيعية للماء التي كانت تنتشر بتونس، وبالتحديد بمناطق قابس ونفزاوة والجريد وقفصة. كلها كانت سببا لإيجاد الواحات وانتشارها شرقا وبشمال افريقيا.
كل هذه العناصر المناخية، جعلت من تونس تاريخيا بلدا ذي موارد مائية متوسطة إلى ضعيفة، ولكنها متنوعة المصادر وموزعة بشكل متناغم مع التضاريس والطبيعة الجيولوجية للبلاد.
ولنا في تونس مصدرين اساسين للمياه التقليدية، المياه السطحية والمياه الجوفية. اذ تشتمل المياه الجوفية على العديد من الموائد المائية السطحية والمتوسطة والعميقة، وتمثل الموائد العميقة وخاصة بالجنوب والجنوب الغربي المصادر الأساسية للماء المستعمل في الفلاحة والمياه الصالحة للشراب والمياه الموجهة للاستعمال الصناعي، مثل مائدة “جفارة” العميقة التي تغطي مساحات كبيرة من الجنوب الشرقي للبلاد، إضافة إلى مائدة القاري الوسيط المصنفة مائدة أحفوريه غير قابلة للتجديد، وهي تعد من الموائد الاحتياطية للعديد من دول المغرب الكبير والساحل الصحراوي الإفريقية، لأنها تغطي أكثر من 6 دول بكاملها.
نظرا لصعوبة الحصول على ارقام دقيقة للموارد المائية المستعملة في ري الواحات التونسية خلال سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات. فإننا سنقتصر على المعلومات المتوفرة خاصة بالنسبة لسنة 2007 وسنة 2020. وهي ارقام تبين مدى التطور الكبير لكمية المياه التي تم استغلها، وبشكل مجحف في هذا التوجه الواحي الجديد.
فمن خلال معطيات سنة 2007، قدرت الموارد المائية المتاحة بمناطق الواحات التونسية بحوالي 551.7 مليون م3 سنويا. اما المياه التي تم استغلالها سنويا فتقدر بحوالي 645.88 مليون م3 سنويا. مما يعني ان نسبة المياه المستغلة تساوي 117% من الامكانات المائية المتاحة. كما مثلت نسبة المياه المستغلة من مائدة المركب النهائي (CT) حوالي 129 %.
-
الإشكاليات المرتبطة بمنظومة الواحات التونسية
تختلف الإشكاليات التي تعاني منها الواحات التونسية باختلاف الجهات المرتبطة بها.
4-1- ولاية قبلي:
- الاشكاليات العقارية: والتي تتمثل في تفتت الملكيات بسبب الارث مع مر الزمن. مما جعل أكثر من 50 % من المقاسم الواحية (الغابات أو السواني) لا تتجاوز مساحتها 0.15 هك اي اقل كمن 1500م2. هذه المساحات حتما لا يمكنها ان تمثل مشروعا فلاحيا قادر على توفير مردودية اقتصادية واجتماعية للعائلات. ولهذا السبب، اهملت الواحات القديمة خاصة، وتركت انتاجيتها ومردوديتها للظروف المناخية. وتحولت العائلة الفلاحية الى انشطة جديدة، او هجرت المنطقة للمدن القريبة للانخراط في انشطة اقتصادية جديدة. اما بقية العائلات التي كانت مالكة فقد فوتت فيما تملك لمن كان يعمل معها كشريك، لتتحول بدورها الى “عاملة” عند من كان سابقا يعمل عندها. ومثلت هذه التحولات الهيكلية الاجتماعية في علاقات الانتاج تحولا في طبيعة العالقات الاجتماعية الجهوية والمحلية. ووضعت الواحات القديمة خاصة في طريق الاندثار التدريجي لصالح الواحات الجديدة التي تتميز بكونها غراسات للنخيل فقط، وليست منظومات واحية
- اشكالية استنزاف الموارد المائية: وهي اشكالية جد مهمة وخطيرة في نفس الوقت. اذ الواحة أصلها الماء. وبندرة الماء أو شحه تصبح مهددة بالاندثار. فوصول نسب استغلال الموارد المائية المتاحة بجهة قبلي الى حوالي 220 %، وخاصة الموائد الجوفية العميقة التي تمثل الاحتياطي الاستراتيجي للماء بالجهة، يمثل خطرا على استدامة النشاط الواحي على المدى القريب. كما يمثل تهديدا لحياة السكان بولاية قبلي باعتبار ان الموائد الجوفية العميقة تؤمن مياه الري ومياه الشرب والمياه المعدة لكل الانشطة البشرية الاخرى.
- اشكاليات مرتبطة بتوسع الواحات الجديدة على حساب الواحات القديمة: تعتبر ولاية قبلي الولاية الاكثر مساحة للواحات. لكن مساحة الواحات الجديدة، والتي ليست لها علاقة بمنظومة الواحة وفق التعريف العلمي تمثل حاليا حوالي 32536 هك، مقابل حوالي 4255 هك للواحات القديمة. وهو ما يعني بداية اندثار للمنظومة الواحية التقليدية التي تقوم بعدة وظائف ايكولوجية واجتماعية واقتصادية وثقافية – تاريخية وابداعية. كل ذلك لصالح مزارع جديدة للنخيل ليست لها اي علاقة لا بالمنظومة الواحية، ولا يمكنها القيام بوظائفها الطبيعية. بل مجرد غراسات مستهلكة للموارد المائية، ومنتجة لسلعة قابلة للتسويق والتصدير. وان لم يوقف هذا النزيف. فان الواحات التقليدية ستندثر في العشرة سنوات القادمة امام صمت في شكل موافقة من الهياكل الرسمية المسؤولة عن النشاط الفلاحي.
- اشكالية مرتبطة بالتحولات المناخية: وهي الاشكاليات التي بدا الفلاحين بالجهة يتحسسون تأثيراتها من خلال انتشار موسمي للحشرات بعدما كان غير متواتر. وظهور حشرات وامراض جديدة مرتبطة بارتفاع كبير لدرجات الحرارة في اوقات غير مناسبة للنخيل وللتنوع البيولوجي للواحة. كما بدأت الصابة من التمور تتأثر كل سنة بعنصر جديد دخيل على المنظومة الواحية، وذلك بسبب التحولات المناخية. كما ان اهمال الواحة التقليدية والتخلي عن نظام انتاج الطوابق الثلاث قد أفقد المنظومة الواحية اسلحتها الذاتية للمقاومة، وبالتالي التأقلم مع التحولات المناخية.
4-2- ولاية قابس:
- الاشكاليات العقارية: وهي مرتبطة اساسا بتفتت الملكية العقارية للواحات بسبب الارث. اذ بدأت مساحة الغابات بجل واحات قابس، والتي كانت لا تقل عن هكتار. تحولت بعد عدة اجيال الى مساحات صغيرة، وبعدد نخيل واشجار مثمرة لا يفي بالحاجة الاجتماعية والاقتصادية للعائلات المالكة لهذه المساحات الصغيرة. وان تواصل هذا النزيف العقاري، فان الواحات ستبدأ بالاندثار، او التحول الى انشطة اخرى، او الاهمال مثلما هو في العديد من الواحات مثل وذرف وشنني وغنوش وخاصة واحة شط السلام التي يبدو انها دخلت مرحلة الاندثار الفعلي، اذ انها الواحة الاقرب للمجمع الكيميائي التونسي.
- الاشكاليات المرتبطة بالماء: وهي الاشكالية الام. اذ ان الماء هو أصل الواحات ومحدد ولادتها وديمومتها. فلان لم تتوسع الواحات بقابس مثلما هو الشأن بقبلي أو توزر. بل بالعكس هنالك تراجع على مستوى المساحات المستغلة. ورغم ذلك فان الماء المخصص لهذه الواحات بدا يتراجع على مستوى الكمية والنوعية من خلال تملح العديد من الآبار مما أثر على مردودية النشاط الفلاحي بالواحات.
تراجع كمية الماء بقابس جراء استنزاف الموارد المائية الجوفية العميقة ليس بسبب ارتفاع استهلاك الواحات من الماء، بل بالعكس بسبب سياسة التصنيع التي أطلقت منذ 1972 دخول المجمع الكيميائي التونسي حيز النشاط، وما يتطلبه نشاطه من موارد مائية كبيرة. فتم تحويل كميات هامة من الماء من مائدة جفارة لتحويل الفسفاط. كما تم انجاز مصنع الاسمنت سنة 1977 والذي زاد في طلبات بالجهة، اضافة الى انتصاب عدد هام من الوحدات الصناعية المرتبطة بنشاط المجمع الكيميائي التونس على غرار ” تيماب ” و”الكيمياء” وغيرها من الوحدات التي تستهلك كميات كبيرة من الماء.
بذلك فان واحات قابس، تصارع من اجل البقاء في ظل سياسات تنموية ركزت ولازالت على الصناعة، وبالتالي تحويل الماء للصناعة واهمال النشاط الفلاحي وراسه النشاط الواحي.
- لاشكاليات المرتبطة بالتلوث: تحولت الواحات في قابس الى ضحية التصنيع بامتياز. فالتصنيع نافسها في الماء، كما ان التلوث الناجم عن تحويل الفسفاط ومشتقاته قد تسبب في اضرار جسيمة للواحات من خلال انتشار الامراض التي تصيب دوريا النخيل والاشجار المثمرة والخضروات وجل الغراسات الواحية. خاصة وان واحات قابس لازالت واحات تقليدية ملتزمة بالطوابق الثلاث. فمثلا بدأت العديد من الغرسات في الانقراض بواحات شط السلام وغنوش والمطوية ووذرف، كما تراجعت مردودية العديد من النبتات مثل الحنة والملوخية والاعلاف بواحات غنوش وشط السلام.
- الاشكاليات المرتبطة بالتوسع العمراني: وهي اشكاليات خصوصية بواحات قابس. اذ التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على الجهة خلال الثلاثين سنة الاخيرة حولت قابس الى قطب صناعي وبالتالي الى مركز جذب سكاني من المناطق القريبة منها. وهو ما يستدعي توفير اراض للبناءات، وهو ما حصل على حساب الواحات مثل واحات شنني وقابس المدينة وقابس الشمالية.
- الاشكاليات المرتبطة بالتحولات المناخية: وهي الاشكاليات التي بدا الفلاحين بالجهة يتحسسون تأثيراتها من خلال انتشار موسمي للحشرات بعدما كان غير متواتر. وظهور حشرات وامراض جديدة مرتبطة بارتفاع كبير لدرجات الحرارة في اوقات غير مناسبة للنخيل وللتنوع البيولوجي للواحة. كما بدأت الصابة من التمور تتأثر كل جديد بأمراض وانواع من الحشرات الدخيلة على المنظومة الواحية، وذلك بسبب التحولات المناخية (سيقع التعمق فيها في المرحلة الثانية من هذه الدراسة).
4-3- ولاية قفصة:
- الاشكاليات العقارية: وهي مرتبطة اساسا بتفتت الملكية العقارية للواحات بسبب الارث. خاصة وان متوسط مساحة الغابة بواحات قفصة لا يتجاوز 0.5 هك. وهو ما جعل هذه المساحات الصغير اصلا تحتل مجرد اشرطة ترابية، وعدد ضئيل من النخيل والاشجار، لا تفي بالحاجة الاجتماعية والاقتصادية للعائلات المالكة لهذه المساحات الصغيرة. وان تواصل هذا النزيف العقاري، فان الواحات ستبدأ بالاندثار، او التحول الى انشطة اخرى، او الاهمال او التفويت فيها للزحف العمراني على غرار واحة قفصة التاريخية.
- الاشكاليات المرتبطة بالماء: وهي الاشكالية الام. اذ ان الماء هو أصل الواحة ومحدد ولادتها وديمومتها. ورغم صغر المساحات التي شكلتها الواحات الجديدة بجهة قفصة. فان الماء المخصص لهذه الواحات بدا يتراجع على مستوى الكمية والنوعية. بسبب ارتفاع الطلب من طرف شركة فسفاط قفصة، اضافة الى اتزايد الطلب على مياه الشرب.
وامام غياب الاولوية لمن هم في السلطة، فان الخيارات المبنية على استخراج الفسفاط ومعالجته بالمياه الصادرة عن نفس الموائد المخصصة للشرب وللواحات والفلاحة بالجهة، فان مستقبل واحات قفصة سيبقى غامضا ان لم نقل مقلقا للغاية. خاصة وان السلطة لازالت تعتبر الواحات مجرد مناطق سقوية لا أكثر والا اقل
- الاشكاليات المرتبطة بالتوسع العمراني: وهي اشكاليات تتعرض لها مجمل الواحات القريبة من المدن الكبرى مثل قفصة وقابس. اذ ان تراجع احتياطي الاراضي الصالحة للبناء، مع الاهمال المتواصل والمتعمد للواحات، قد ساهم في الزحف العمراني عليها، واكتساح مساحات كبيرة من حرمتها.
- الاشكاليات المرتبطة بالتحولات المناخية: وهي الاشكاليات التي بدا الفلاحين بالجهة يتحسسون تأثيراتها من خلال انتشار موسمي للحشرات بعدما كان غير متواتر. وظهور حشرات وامراض جديدة مرتبطة بارتفاع كبير لدرجات الحرارة في اوقات غير مناسبة للنخيل وللتنوع البيولوجي للواحة. كما بدأت الصابة من التمور تتأثر كل سنة بعنصر جديد دخيل على المنظومة الواحية، وذلك بسبب التحولات المناخية. كما ساهمت هذه التحولات في تراجع التساقطات، مما قلص من كميات المياه المتجددة بالموائد السطحية والعميقة.
4-4- ولاية توزر:
- الاشكاليات العقارية: والتي ليست مرتبطة بتفتت الملكية فقط، مثل باقي الواحات التونسية، بل بملكية الاراضي المنتصبة بها هذه الواحات. اذ 96% من الاراضي بولاية توزر هي اراضي تابعة للدولة. وجل الواحات هي في إطار الحوز الذي لا يسمح بالملكية. وبالتالي لا يمكن لأي صاحب غابة في هذا الإطار التمتع بقرض او بمساعدات او بامتيازات نظرا لغياب شرط الملكية. وتعتبر هذه الاشكالية مربط الفرص في اشكاليات الواحات بجهة توزر بشكل عام. فحتى الواحات الجديدة تعاني من هذه الاشكالية
- اشكالية الماء: وهي الاشكالية العامة لكل واحات تونس. ولكن بالنسبة لتوزر، لا تطرح من خلال الاستنزاف المفرط للموائد المائية مثلما هو الشان بقابس وقبلي. بل من خلال تواصل توسيع المساحات الواحية لمزارع النخيل، وما تتطلبه من موارد مائية كبيرة تتجاوز الامكانات المتاحة، والذي من شانه ان يضع كل الواحات على المدى المتوسط في خطر على غرار ما حصل لواحة ميداس
- الاشكاليات المرتبطة بنقص اليد العاملة: وهذه الاشكالية تعد خصوصية في الجريد، بذ بدا الشباب يهاجر مدنه ويتخلى عن الواحات. فتسبب هذا النزيف البشري في تقلص عدد اليد العاملة بالواحات. مما جعلها مهملة وتنتشر بها فضلات النشاط الواحي والجريد اليابس والاوساخ، مما أثر على المنظومة الواحية كمنظومة انتاج ونظام ايكولوجي هش وخصوصي. كما بدأت اليد العاملة المتخصصة في مجال الري وتذكير النخيل وتغليف العراجين في تناقص تهدد باندثار مهن اساسية وحياتية للغابة.
- الاشكاليات المرتبطة بالتوسع العمراني: وهي اشكاليات تخص وتهدد الواحات التقليدية المتاخمة للمدن الواحية. وامام تراجع مردودية الواحات التقليدية وتقلص مساحاتها بعامل الارث، بدا عدد من اصحاب الغابات في التفويت فيها لصالح مشاريع سياحية وترفيهية وسكنية. مما يمكن على المدى المتوسط القضاء على اجزاء كبيرة من المنظومة الواحية التقليدية
- الاشكاليات المرتبطة بالتحولات المناخية: هي الاشكاليات الكثر خطورة خاصة وان الواحات منظومات هشة وحساسة وغير قادرة على التأقلم سريعا مع ما ستسببه هذه التحولات المناخية. فانتشرت في الفترة الاخيرة العديد من الامراض بالواحات، مع ظهور انواع جديدة من الذباب والحشرات التي بدأت تؤثر سلبا على كمية وانواع الانتاج الواحي وخاصة التمور.
- تأثيرات التحولات المناخية على الواحات التونسية
التحولات المناخية لم تعد مجرد توقعات لعلماء المناخ مثلما كان يسوق منذ 50 عاما. بل اصبحت حاليا واقعا معاشا، ونتحمل آثره المباشرة وغير المباشرة على نطاق عالمي واقليمي ومحلي. ولقد ساهمت الدول الغنية ولوبيات راس المال العالمي في مزيد انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة في الانحباس الحراري المسؤول عن التحولات المناخية التي نعيشها حاليا، والتي ستتعمق مستقبلا اذا واصل العالم الاستهتار بهذا الشكل.
اذ تسبب التسريع في التحولات المناخية على كوكب الارض خلال الخمسين سنة الاخيرة، في العديد من التأثيرات. منها تأثيرات كبرى تشمل الكوكب برمته، وتأثيرات اقليمية او محلية تشمل مناطق مناخية او دول بعينها وفق درجة الهشاشة التي تتميز بها. كما شملت التأثيرات المناخية جل المنظومات الايكولوجية الهشة والحساسة، مثل الجزر والمناطق الرطبة والواحات والسباخ والبحيرات المغلقة. كما كان لهذه التأثيرات المباشرة على مكونات البيئة والمحيط العالميين تأثيرات غير مباشرة لحقت الصحة الانسانية والغطاء النباتي والاراضي الزراعية وبالتالي الانتاج العالمي من الغذاء.
وتونس كغيرها من الدول مشمولة بالتحولات المناخية وتأثيراتها. الا ان الاجابات الوطنية المتعلقة بالحد من تأثيرات التحولات المناخية، بقيت بدائية وتفتقد للاستباقية والجرأة العملية والميدانية. فالسياسات العمومية الوطنية خالية من كل تصور لتأثيرات التحولات المناخية على الموارد والقطاعات. اذ لم ننجز اي دراسة حول التأثيرات المناخية على القطاعات الانتاجية، ما عدى مذكرة عامة انجزتها وزارة الفلاحة بتمويل الماني، ولم تتجاوز مخرجاتها التوقعات العامة والنسب الاطلاقية.
كما ان اعداد الاستراتيجية الوطنية للتحولات المناخية (SNCC)، لم يكن بقناعة سياسية داخلية، بل كان إلزاميا من خلال اتفاق باريس حول المناخ لسنة 2015.
ويمكن تلخيص اهم نقاط القصور في المقاربة الوطنية حول التحولات المناخية وتأثيراتها واجراءات الحد منها والتأقلم معها في النقاط التالية:
- غياب الاهتمام بقضايا التحولات المناخية في الخطاب السياسي الرسمي، مما انعكس سلبا على كل السياسات العمومية التنموية ما قبل وما بعد 14 جانفي 2011، اذ كانت القضايا البيئية ما قبل 14 جانفي ذات طابع فلكلوري، واما بعج 14جانفي فحتى هذا الطابع الفلكلوري قد غاب وحل محله اللامبالاة، وتهميش كل القضايا المرتبطة بالتحولات المناخية والبيئة والتنمية المستدامة بشكل عام
- مركزة القرارات وتغييب الاستشارات القطاعية حول قضايا التحولات المناخية وتأثيراتها
- غياب شامل للدراسات الافقية المرتبطة بالموارد والدراسات العمودية المرتبطة بالقطاعات. كل ذلك أفرغ ما سمي بالاستراتيجية الوطنية للتحولات المناخية (SNCC) من مضمونها وتحولها الى مجرد شعارات ترفع في المؤتمرات وقمم الارض والمناخ، التي يتسابق المسؤولين للحضور للتسول، وطلب المساعدات المالية لمشاريع غير موجودة او مبنية على افكار عامة
- غياب تام للإطار القانوني للقضايا المناخية
- غياب الإطار المؤسساتي المعني بالتحولات المناخية،
- هيمنة الحلول الآنية عن التخطيط الاستراتيجي الاستباقي، مما عمق تأثيرات التحولات المناخية على جل القطاعات وخاصة المنتجة، ما عدى قطاع الطاقة الذي يشتمل على تصورات متناسقة للتأقلم والحد من تأثيرات التحولات المناخية. وذلك راجع بالأساس لتواجد المؤسسات العالمية الاجنبية في القطاع
- غياب الوعي السياسي البيئي لدى كل الطبقة السياسية في الحكم والمعارضة على حد السواء
- غياب التنسيق بين القطاعات في مجال التحولات المناخية، مما صعب رسم تصورات عامة ومستقبلية لمواجهة التحديات المناخية
امام هذا القصور والغياب الشبه كلي لاستراتيجية التأقلم والحد من تأثيرات التحولات المناخية، بقيت القطاعات الانتاجية، والمنظومات الايكولوجية الهشة عرضة لهذه التحولات دون اي تخطيط حمائي او برامج لتأقلمها وعلى راسها المنظومات الواحية.
هذه المنظومات التي تعاني اصلا حاليا من العديد من الاشكاليات الهيكلية المرتبطة بالموارد المائية، والاشكالات العقارية، وتراجع حاد في الانتاج، اضافة اتلى هيمنة السماسرة على قطاع انتاج التمور بدعم مباشر من الدولة. ونظرا لهشاشة المنظومات الواحية من خلال كونها منظومة ايكولوجية للتنوع البيولوجي من ناحية، ونظام انتاج اقتصادي واجتماعي من ناحية اخرى. فان الواحات التونسية ستكون الاكثر تأثرا بالتحولات المناخية افق 2030 من خلال:
- تراجع حاد للموارد المائية بنسبة 30 %
- ارتفاع كبير لدرجات الحرارة وتراجع نسب الرطوبة وما يمكن ان ينجر عنهما من انتشار للحشرات والذباب والدود المضر بالنشاط الواحي وانتاجه
- انطلاقا من كون الماء هو مصدر الواحة وصمام امان نظام انتاجها الثلاثي الطوابق، فان تقلص الموارد المائية الجوفية سيكن محددا في الاندثار التدريجي لنظام الانتاج الواحي التونسي، وما سينجر عنه من اندثار للواحة التقليدية التاريخية
تراجع للمردودية الانتاجية، وبالتالي للمردودية الاقتصادية للواحات. مما سيتسبب في هجرة عدد كبير من الفلاحين الصغار للواحات، بحثا عن مصادر عمل أكثر مردودية توفر لهم العيش الكريم لهم ولعائلاتهم.
-
اجراءات وتدابير تأقلم المنظومة الواحية مع التحولات المناخية
وامام ارتفاع نسق التحولات المناخية من ناحية، وتسارع وتيرة تأثيراتها وتمظهراتها وطنيا واقليميا ودوليا من ناحية اخرى. بالإضافة الى غياب كامل لوثيقة رسمية تحدد الخطة الوطنية او الاستراتيجية الوطنية لمواجهة التأثيرات المناخية والتأقلم معها. ومع غياب تام للوعي السياسي بمخاطر التحولات المناخية، فان المسؤولية المدنية والايكولوجية تفرض علينا ان نساهم ولو بقسط صغير في صياغة خطة عمل تشتمل على جملة من الاجراءات والتدابير، التي تضمن للمنظومة الواحية التونسية الصمود والتأقلم مع التحولات المناخية.
ونظرا لكون المنظومة الواحية التونسية هي منظومة ذات طابع مزدوج-اي نظام ايكولوجي وانتاج اقتصادي واجتماعي في نفس الوقت- فان صياغة خطة عمل تضمن التأقلم والصمود امام التحولات المناخية يفترض اتباع مقاربة تشاركية تساهم فيها كل الاطراف المدنية الفاعلة في الفضاء الواحي من جمعيات مدنية مهتمة بالمنظومة وفلاحيين واحيين ومواطنين معنيين بإرثهم الواحي. هذا البعد التشاركي سيمكننا من الاستفادة من تجارب الاطراف السالفة الذكر، ويجعلنا قادرين على رسم مقاربة نظرية تساهم في وضع خطة عمل تشتمل على الجانب التطبيقي الميداني والاطر النظرية.
لذلك سنحاول خلال هذا القسم من العمل، استعراض نتائج كل الحوارات والنقاشات التي دارت بيننا وبين الأطراف الواحية الفاعلة، وتقديم اقتراحاتهم والتدابير التي قدموها ونتائج التجارب الميدانية التي انجزوها، لنخلص في النهاية لرسم التصور النظري الشامل للإجراءات والتدابير الضرورية لجعل المنظومة الواحية أكثر قدرة على التأقلم مع التحولات المناخية.
-
المقاربة التشاركية: اهل الفضاء الواحي يقترحون
المقاربة التشاركية والعمل والتحاور مع أهل الفضاءات الواحية، منهجية تم اعتمادها واحترامها منذ انطلاق في اعداد هذا العمل. اذ تم خلال مرحلة تشخيص واقع الواحات التونسية، الاجتماع والتحاور والنقاش مع جل الجمعيات الواحية الناشطة والمهتمة بالفضاء الواحي. مما مكننا من رسم صورة واقعية ومعمقة على واقع الواحات والاشكالات الحقيقية التي تعاني منها.
كما كانت هذه المقاربة التشاركية فعالة في تحديد اهم التأثيرات الممكنة على المنظومات الواحية التونسية للتحولات المناخية. وبالتالي فان تحديد الاجراءات والتدابير اللازمة لضمان التأقلم والصمود للفضاء الواحي امام تأثيرات التحولات المناخية، لا يمكن الا ان يكون في إطار تشاركي حواري مع كل الذين واللاتي قابلناهم وناقشنا معهن ومعهم واقع الفضاء الواحي واشكالاته.
خلال هذه المقاربة التشاركية، اجتمعنا وتحاورنا مع ست جمعيات مدنية ناشطة في مجال حماية واستدامة المنظومات الواحية، كما شرفونا بالحضور خلال هذه اللقاءات، عدد مهم من الفلاحين الواحيين الذين يمارسون ميدانيا النشاط الواحي، ويعرفون جيدا مشاكل نشاطهم، ويتحسسون بشكل ميداني تأثيرات التحولات للمناخية على مستوى جودة المنتوج وتقلص الموارد المائية وكمية الانتاج، اضافة الى معرفتهم الجيدة بالإجراءات والتدابير الواجب القيام بها لتأقلم الواحات مع التحولات المناخية.
سنحاول فيما يلي تلخيص اهم ما تم اقتراحه من افكار تهم الواحات بشكل عام، والاقتراحات الخصوصية التي تخص كل جهة واحية. على ان يتضمن الملحق في آخر الكتاب كل تفاصيل اللقاءات التي تمت في إطار إعداد هذا العمل.
- بالنسبة للاقتراحات المتعلقة بالواحات بشكل عام، اجمعت كل الجمعيات التي تم الالتقاء والتحاور معها على النقاط التالية: اعادة النظر في منظومة الري بشكل يضمن استدامة الموارد المائية للمنظومات الواحية المرتبطة أصلا بالماء
- تصنيف الواحات كمنظومات ايكولوجية للتنوع البيولوجي وليست مجرد مناطق سقوية
- اعادة الاعتبار للواحات التقليدية على مستوى الانتاج الثلاثي الطوابق ومحاصرة توسع مزارع النخيل
- تثمين المنتوج الواحي للرفع من القيمة المضافة الاقتصادية والاجتماعية للواحات
- افراد الواحات بمجلة قانونية خاصة لضمان حمايتها واستدامتها امام تأثيرات التحولات المناخية
بالنسبة للاقتراحات الخصوصية بكل جهة واحية، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
– بالنسبة لولاية قابس:
- اقترحت جمعية حماية واحة شنيني مقاومة الاستغلال المجحف للنخيل لاستخراج ” اللاقمي، إذ تستنزف هذه الممارسات أكثر من 2000 نخلة سنويا من واحة قابس، إضافة إلى دعم شبكة RADDO التي تم تأسيسها منذ سنة 2002، وتشمل جمعيات مدنية من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا ودول منطقة الساحل الصحراوي
- كما اقترحت جمعية ” الارض الانسان تونس ” تركيز مركز للتكوين المهني للحرف والمهن الواحية
- إعادة بناء الثقافة الواحية من خلال عمل ميداني مدني في شكل حملات توعية وتحسيس بأهمية الفضاء الواحي وخصوصياته، واهميته الايكولوجية والاقتصادية والاجتماعية
- ارجاع البذور المحلية للمنظومات الواحية، وخاصة المرتبطة بالأعلاف وزراعة الشعير، وكل الزراعات التي تتحمل نقص الماء وارتفاع ملوحته
– بالنسبة لولاية قبلي:
- اقترحت جمعية ” نخلة” مقاومة التوسع الجنوني لمزارع النخيل التي تكتسح منطقة نفزاوة، إضافة إلى إعادة النظر في التصرف في مياه الري من خلال الحد من الاستغلال المجحف للموائد الجوفية العميقة التي وصلت الى حدود 220 %، ومنع استعمال المبيدات الكيمياوية في مقاومة حشرات الواحة
– بالنسبة لولاية توزر:
- إعادة المياه للأودية والسواقي الواحية لتلطيف الجو والترفيع في نسبة الرطوبة بالفضاء الواحي
- الترفيع في نسق التشجير الواحي وخاصة بالنسبة للأشجار المقاومة لنقص المياه وارتفاع الحرارة مثل أشجار البطوم وغراسة الشعير المحلي
- العمل على حماية الواحات الجبلية التي اصبحت القلعة الاخيرة للواحات التقليدية
- تهيئة المصبات والأحواض للمياه السطحية خاصة بالواحات الجبلية لمقاومة ندرة المياه وتقلص التساقطات بالجهة
-
بالنسبة لولاية قفصة:
- تعميم استعمال السماد العضوي الطبيعي المحلي في النشاط الواحي
- إعادة الاعتبار للغراسات المتعددة الاستعمال مثل القطانية والفول والحمص والشعير، باعتبار أن هذه الغراسات تقدم منتوج قابل للاستعمال من طرف المستهلك والحيوان وتساهم في نفس الوقت في تسميد التربة الواحية
- العمل على حماية وضمان استدامة الواحات التقليدية التي لازالت تمثل العمود الفقري للواحات بجهة قفصة
- القطع مع عقلية توظيف الواحة لمنطق السوق، والتعويل على الانتاج الثلاثي الطوابق الذي يضمن توازن ايكولوجي ومردود اقتصادي ومالي يثبت السكان بواحاتهم،
- اعادة الواحة لطبيعتها كاقتصاد دائري ليس له مخلفات وكل منتوج له مردوديته
- اخراج الواحات من تصنيف المناطق السقوية، وأفرادها بمجلة قانونية خصوصية لحمايها ومساعدة المنظومات الغابية على التأقلم مع التحولات المناخية
بعد هذا العرض لاهم الاقتراحات المنبثقة عن مجمل اللقاءات والنقاشات، في اطار المقاربة التشاركية مع الاطراف الميدانية الفاعلة في الفضاء الواحي بكل الولايات الواحية، يمكننا القول أن الاقتراحات والتدابير والتجارب النموذجية التي انجزتها هذه الجمعيات بالتعاون والشراكة المباشرة مع الفلاحين الواحيين (انظر الملحق)، تؤكد وعي كبير لدى كل هذه الاطراف بمخاطر التحولات المناخية من ناحية، وغياب التصور الشمولي والبرامج الواقعية المرتبطة بالخصوصيات الواحية من قبل الدولة من ناحية اخرى. بل يكننا الجزم بغياب كامل للدولة من المنظومة الواحية أصلا، واقتصار الموقف الرسمي للسلطة على اعتبار الواحات مجرد مناطق سقوية توفر مادة الدقلة للتصدير من اجل جلب العملة الصعبة فقط.
-
المقاربة النظرية والتصور الشامل
مثلما تم التأكيد عليه سابقا حول غياب للرؤى والبرامج والتدابير العملية من الاستراتيجية الوطنية للتحولات المناخية، واقتصار هذه الاستراتيجية على المبادئ العامة والشعارات الرنانة والالتزامات الهلامية. فإننا وفي ختام هذا العمل، سنحاول ان نقدم مقاربة نظرية شاملة لتأقلم الواحات التونسية مع التحولات المناخية على المدى المتوسط والبعيد، من خلال الاستفادة والتفاعل الايجابي مع ما تم نقاشه واقتراحه من طرف الفاعلين الميدانيين الواحيين بالولايات الواحية. كما نأمل ان تكون هذه المقاربة فاتحة حوار ونقاش حقيقي ومعمق حول المنظومات الواحية، والطرق الكفيلة بجعلها مستقبلا أكثر صمودا وتأقلما واستدامة.
تشتمل المقاربة النظرية الشاملة لتأقلم الواحات التونسية مع التحولات المناخية، على اربعة جوانب اساسية.
3-1- الجانب القانوني والتصنيفي
امام غياب الواحات من جل الترسانة القانونية بالبلاد واطارها التشريعي، عدى من بعض القرارات الترتيبية الخاصة بالنخيل، او لاعتبارات ايكولوجية مرتبطة ببعض الاتفاقيات الدولية التي تمضي عليها التونسية. ونظرا لان اي مقاربة تهدف الى حماية هذه المنظومات الواحية من تأثيرات التحولات، باعتبارها اولا منظومات ايكولوجية للتنوع البيولوجي، وثانيا باعتبارها نظام انتاج اقتصادي واجتماعي، تتطلب اطارا قانونيا وتشريعا خصوصي يأخذ بعين الاعتبار اهمية الواحات وهشاشة منظوماتها الايكولوجية امام تغيرات المناخ وندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة.
لذلك نقترح في هذا الإطار اصدار مجلة قانونية خاصة بالواحات التونسية، تتضمن على الاقل الاجراءات والتدابير التالية:
- التنصيص على خصوصية المنظومات الواحية، واعتبارها منظومات ايكولوجية للتنوع البيولوجي تقوم بدور اقتصادي واجتماعي وثقافي. كما وجب تحديد مفهوم الواحة علميا وتاريخيا وثقافيا. مما يسهل اخراج مزارع النخيل من اعتبارها واحات
- اخراجها من التصنيف التقليدي بكونها مجرد مناطق سقوية واعتبارها منظومات خاصة تتطلب مقاربة خاصة
- تجريم قلع النخيل او استغلالها بشكل مجحف لأغراض لا تتطابق وطبيعة الواحة
- تفريد الواحات التقليدية بإجراءات وتراتيب خاصة في مجال الري والماء وطرق التصرف فيه، باعتبار ان الماء هو الحياة والاستدامة بالنسبة للواحات
- عدم ادراج مزارع النخيل في التصنيف الواحي باعتبارها بنية استثمارية وليست واحية، وإخراجها كليا من حق التمتع بالماء الواحي
- التنصيص على جملة من الهياكل التي تكلف بحماية الواحات التقليدية، والتصرف المستدام في مياه الري، وحماية الفلاح الواحي من الاستغلال وسماسرة التصدير
3-2- الجانب المؤسساتي
الاقتصار على اعتبار الواحات التونسية مجرد مناطق سقوية، ترجع بالنظر إلى الادارة العامة للإنتاج النباتي، لم يمكن سابقا من حماية المنظومات الواحية، وصيانتها وضمان استدامتها. ولن يمكنها مستقبلا من الصمود امام تأثيرات التحولات المناخية.
كما انه تم التعامل مع الواحات باعتبارها مزارع للنخيل، بل يمكن القول ان السياسة العمومية منذ 1956 قد واصلت في نفس التصور الاستعماري، وعمقت جراح الواحات بالتشجيع على زحف مزارع النخيل من خلال منطق الاستثمار الفلاحي، على حساب الواحات التقليدية التي اصبحت حاليا تمثل الاستثناء على مستوى المساحة والانتاج.
لذلك، وحتى نعيد الاعتبار للمنظومات الواحية من ناحية، وحتى تستطيع هذه المنظومات من الصمود والتأقلم مستقبلا مع التحولات المناخية من ناحية اخرى، فانه بات من الضروري:
- افرادها بإدارة عامة تكون تحت اشراف الوزارة المكلفة بالفلاحة، ولها مقر بإحدى الولايات الواحية، لجعلها أقرب لأهالي الواحات وإشكالاتهم.
- احداث ” ديوان وطني للتمور” يكون مؤسسة عمومية ذات صبغة تجارية، يقوم بتسلم المحاصيل من الفلاحين الواحيين بأسعار مدروسة ومحددة من طرفه، بعد دراسة معمقة للكلفة الحقيقية للمنتوج. كما يقوم بمساعدة الفلاحين الواحيين على تسويق منتوجاتهم محليا وخارجيا عند الاقتضاء. اضافة إلى حماية المنتجات الواحية وأصحابها من الاستغلال والسمسرة. اضافة الى الدور التعديلي الذي يقوم به في مجال اسعار التمور، وجعلها في متناول المستهلك المحلي وخاصة بالنسبة لنوع الدقلة. كما يقوم الديوان بالتشجيع على غراسة وتسويق الانواع الاخرى من التمور المحلية، لتنويع مصادر رزق الفلاحين الواحيين، اضافة الى تشجيعه على اتباع نظام الانتاج الثلاثي الطوابق بالواحات التقليدية التي ستكون مجال عمله واهتمامه.
- احداث وحدات محلية للإرشاد الفلاحي، ترجع بالنظر للإدارة العامة للواحات، تكون مهامها التوعية والتحسيس اليومي والمساعدة الفنية للفلاحين الواحيين في مجال تكوينهم وارشادهم حول الممارسات الجيدة والحسنة في نشاطهم الواحي القادرة على جعل المنظومة الواحية أكثر استدامة وتأقلم مع التحولات المناخية.
- احداث مراكز فنية جهوية للتكوين في المهن الواحية بالولايات الأربعة. وذلك لتكوين الاجيال القادمة في المهن المرتبطة بالواحات كالتقليم والتذكير وغراسات النخيل والأشجار المثمرة الواحية، وغيرها من الزراعات والنباتات المميزة للواحات.
- احداث متحف للواحات يكون الذاكرة الجمعية للواحات وسكانها وعاداتهم وتقاليد النشاط الواحي. كما يلعب دور حماية ونشر الثقافة الواحية لجعل الأجيال القادمة متشبعة بهذه الثقافة الواحية. والتي هي وحدها الكفيلة بحماية الواحات ونشاطها لدى الاجيال القادمة.
3-3- الجانب التقني والمهني:
رغم اهمية الجانب التشريعي والمؤسساتي في مجال حماية الواحات، وجعلها قادرة على الصمود والاستدامة في وجه التحولات المناخية، فان الجانب التقني والمهني يمثل المجال الحيوي والتطبيقي لكل الاجراءات والتدابير الميدانية التي من خلالها يمكن للواحات التونسية التأقلم مع التحولات المناخية. ويشتمل الجانب التقني والمهني على الابعاد التالية:
-
المياه:
انطلاقا من كون المياه هي الحياة واصل الوجود بالنسبة للواحة، ونظرا لما تم التوصل اليه خلال تشخيص واقع الواحات التونسية، من ارتفاع مستوى استغلال المياه بالمناطق الواحية إلى درجة الاستنزاف بمناطق نفزاوة بقبلي، والجريد بكل من توزر ونفطة ودقاش وحامة الجريد، وكذلك بالواحات الساحلية بقابس فان اعادة النظر في منظومة الري وطرق استعمال الماء بالمناطق الواحية يمثل حجرة الزاوية لاستدامة الواحات اولا، وقدرتها على التأقلم مع التحولات المناخية ثانيا.
لذلك وجب اعادة النظر في استعمال الموارد المائية التي تعتبر كلها موارد مائية جوفية بالمناطق الواحية من خلال:
- إعادة الحياة للأودية الواحية، من خلال تصريف مياه الآبار بها واعادة استعمال طرق الري التقليدية بالواحات القديمة
- اعادة احياء السواقي الترابية بالمقاسم الواحية لضمان عودة التنوع البيولوجي بالواحات
- منع مزارع النخيل من استعمال المياه الجوفية المخصصة للواحات التقليدية
- منع المستثمرون الفلاحيون من رخص حفر الآبار بالمناطق الواحية
- مقاومة الحفر العشوائي للآبار بالمناطق المحجرة المرتبطة بارتفاع نسبة استغلال مواردها المائية لضمان عودة تجددها واستدامة موارده المائية
- تركيز منظومة تقنية لمراقبة استغلال الآبار الموضوعة على ذمة المجامع المائية بالواحات، ومراقبة نسب تجددها في علاقة بتراجع التساقطات المطرية المرتبطة بالتحولات المناخية
- العمل على استعمال البصمة المائية في الانتاج الواحي بشكل في إطار حماية الماء من الهدر
- تعهد وصيانة قنوات تصريف المياه النشعية لضمان التطهير الذاتي للتربة بالمقاسم الواحية
- إعادة استعمال المياه النشعية في مجال زراعات واحية تتحمل الملوحة مثل الاعلاف والشعير المحلي وبعض الاشجار الصحراوية
- القيام بدورات تكوينية وتدريبية سنوية للفلاحين الواحيين حول استعمال طرق الري المقتصدة للماء عوض الطرق الحالية المبنية على الفرش المائي، الناجم عن منظومة الدورات المائية التي تساهم في ضياع الماء بالواحات
إن اعادة الحياة المائية للأودية الواحية، وإعادة استعمال السواقي الترابية بالمقاسم الواحية مثلما كان سابقا. سيرفع من نسب الرطوبة بالفضاءات الواحية، مما سيساهم في تلطيف الأجواء الواحية ويخفض من تأثيرات ارتفاع الحرارة. وهو ما سيعيد النمو الطبيعي للتنوع البيولوجي وخاصة النخيل والاشجار المثمرة، في إطار عودة الانتاج الثلاثي الطوابق الذي ظل يميز الواحات التقليدية طيلة تاريخها الطويل.
-
التنوع البيولوجي
لا يمكن للواحات التونسية التأقلم او الصمود امام تأثيرات التحولات المناخية دون اعادة الاعتبار لتنوعها البيولوجي التقليدي. اذ ان التنوع البيولوجي هو القادر على حماية المنظومة الايكولوجية للواحات من الاندثار الناجم عن ارتفاع الحرارة والنقض في المياه. ذلك ان التخريب الممنهج للمنظومات الواحية، كان تحت يافطات التشجيع على انتاج الدقلة الموجهة للتصدير لجلب العملة الصعبة. فأهدرنا الماء وخربنا الواحات التقليدية، من خلال التخلي التدريجي على الانتاج ذات الطوابق الثلاث، والتعويل فقط على زراعة النخيل المنتجة لنوع واحد من التمور ” الدقلة”. فتحولت بذلك اغلب واحاتنا وبعد 50 عاما الى مجرد مساحات سقوية للنخيل فاقدة للروح الواحية وثقافاتها ونمط إنتاجها المميز. بهذا الشكل الهجين للواحات، وبدا تأثير التحولات المناخية يظهر بشكل جلي من خلال عدم قدرة النخيل على الصمود امام ارتفاع الحرارة، وضعف نسبة الرطوبة. فتراجعت المردودية والانتاج نوعيا وكميا خلال العشر سنوات الاخيرة. كما اصبحت الواحات التقليدية مهجورة من فلاحيها الذين لم يصمدوا امام تزجه الدولة نحو مزارع النخيل وتركهم لمصيرهم ومصير مقاسمهم الواحية الصغيرة أمام نقص فادح للمياه وتدمير للتنوع البيولوجي للواحات التقليدية.
لذلك، فانه بات من الحتمي مستقبلا ولضمان استدامة المنظومة الواحدية من ناحية، وتنمية قدراتها على التأقلم مع التحولات المناخية القيام بما يلي:
- اعادة الانتاج الثلاثي الطوابق، من خلال رد الاعتبار للأشجار المثمرة والخضروات والاعلاف، وكل النباتات الواحدية التقليدية. كل ذلك من خلال الاستفادة من اعادة الاعتبار لطرق الري التقليدية المشار اليها اعلاه
- زراعة النباتات المتأقلمة تقليديا مع نقص المياه وتحمل الملوحة والحرارة، مثل أشجار الخروع والبطوم (التي تنتج القضوم) والحرمل والنباتات الشوكية والفول والقطانية، إضافة إلى الشعير التقليدي والفصة، كأحد اهم نواع العلف المتحمل لملوحة التربة والماء
- اعادة توزيع الأشجار بالمقاسم الواحية بشكل يجعلها قادرة على النمو والانتاج من خلال الاستفادة من كميات الماء الممنوحة للنخيل.
- تكثيف الغطاء النباتي بالواحات لجعلها أكثر قدرة على امتصاص الغازات الدفيئة وبالتالي تلطيف الأجواء الواحية والحد من ارتفاع الحرارة
- التخلي عن استعمال الاسمدة الكيمياوية والمبيدات في مقاومة الحشرات الواحية، والعودة إلى الممارسات الواحية الجيدة المستعملة سابقا مثل “صابون الغابة” وغيرها من وسائل مقاومة الحشرات المضرة. كما وجب العودة لجني كل منتجات النخيل والاشجار المثمرة حتى الفاسدة منها، وعدم تركها بالأشجار والنخيل لان ذلك يسبب خلق مناخات مناسبة لانتشار حشرات جديدة ومتجددة مضر بالثمار وبالأشجار والنخيل
- اعادة الاعتبار لأنواع التمور الاخرى على مستوى الانتاج والتوزيع والاستهلاك. في إطار مقاومة سياسة السلطة المتمحورة حول انتاج نوع اوحد وهو الدقلة التي تستأثر بالتصدير تواصلا مع الفكرة الاستعمارية التي تأسست منذ 1903.
3-4- الجانب المتعلق بالآليات المالية والجبائية:
الجوانب الثلاث السالفة الذكر، والتي تؤسس لبرنامج شامل ومتكامل لجعل المنظومات الواحية التونسية قادرة على الصمود والتأقلم مع التحولات المالية، لا يمكنها ان تكون ناجعة وفعالة الا بآلية مالية وجبائية توفر الامكانات والوسائل الكفيلة بتنفيذ الاجراءات والتدابير العملية للجوانب السالفة الذكر. وفي هذا الصدد نقترح:
- احداث صندوق خاص بالخزينة موجه لتمويل الاجراءات والوسائل اللازمة لتحسين قدرة الواحات التونسية على التأقلم والاستدامة، في ظل التحولات المناخية وتأثيراتها المستقبلية أفق 2050. ويمكن تسميته “الصندوق الوطني لحماية الواحات من التحولات المناخية“
- يمول الصندوق من آداءات توظف على المصدرين للمنتجات الواحية وخاصة للدقلة، وعلى اصحاب وحدات خزن ومعالجة التمور
- يتعهد “ديوان التمور” بالتصرف وتسيير هذا الصندوق وفق امر ترتيبي خاص به
- يخضع هذا الصندوق للإجراءات والتراتيب المعمول بها بالنسبة للصناديق الخاصة بالخزينة
- يتمتع بتمويل الصندوق الفلاحيين الواحيين المالكين لمقاسم واحية تقليدية، وتستثنى من خدماته مزارع النخيل او ما يسمى بالواحات الجديدة.
- يمول الصندوق مشاريع وتجهيزات الري والسواقي الواحية والغراسات المقتصدة للماء والمقاومة للملوحة وارتفاع الحرارة
- يمول الصندوق البحوث والتقنيات الواحية القادرة على مساعدة الفلاحين على ضمان استدامة واحاته وحمايتها من التحولات المناخية
- يساهم الصندوق في توفير منح للمتكونين بمراكز التكوين للمهن الواحية طيلة مدة تكوينهم
- يساهم الصندوق في تمويل مشاريع تثمين المنتجات الواحية ومشاريع التسميد للمواد العضوية الواحية، بهدف التخلي نهائيا عن استعمال المواد الكيمياوية سواء في مجال التسميد او مقاومة الحشرات
- اعفاء الفلاحين الواحيين من كل الاداءات المحلية وخاصة الأداء على القيمة المضافة بالنسبة لمشاريع حماية الواحات وتأقلمها مع التحولات المناخية. اضافة الى الاعفاءات الديوانية بالنسبة للتقنيات والتجهيزات الموردة لنفس الغرض من الخارج
في البداية … والنهاية: الواحات أمانة في عهدة اهلها
الواحات هي في المحصلة التاريخية لنشأتها وتطورها: هدية الانسان للطبيعة، من خلال الماء الذي مثل ولازال مصدر الحياة لها ولديمومتها. كما انها منظومة ايكولوجية للتنوع البيولوجي، سرعان ما تحولت الى نظام اقتصادي واجتماعي دائري، مكن الملايين حول العالم من الاستقرار بها والتوسع والتمكين.
لكن هذه المنظومات الواحية بقدر ما تميزت بالتنوع والثراء الايكولوجي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الا انها بقيت منظومات حساسة وهشة لأي تغيير في مكونات المناخ الاساسية وخاصة المتعلقة بالماء والحرارة.
لكل هذه الاسباب والمميزات المرتبطة بالواحات التونسية، غامرنا باختيار هذه المنظومات لتكون مجال تشخيص ودراسة معمقة، لنساهم ولو بالقليل من اجل استدامة هذه المنظومة الواحية، وجعلها قادرة حاليا ومستقبلا على التأقلم مع التحولات المناخية، التي لم تعد مجرد توقعات وتكهنات لعلماء المناخ. بل تحولت الى حقائق علمية نعايشها ومطالبون بالتعايش معها.
فالواحات التونسية، ورغم عمقها التاريخي وثرائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، اضافة الى كونها استطاعت على مر الزمان ان تصمد، وتوفر حاليا لأكثر من 1.2 مليون تونسي الاستقرار والعيش، الا انها اصبحت تعاني من العديد من الاشكالات المرتبطة:
- بالإهمال من طرف السلطات الرسمية لمميزاتها وخصوصياتها، واعتبارها مجرد مناطق سقوية لإنتاج دقلة النور المعدة للتصدير
- بالإشكالات العقارية والتفتت العقاري مما أفقدها بعدها الاقتصادي والاجتماعي، وحول العديد منها الى مجرد صور للواحات
- التخلي الرسمي عن الواحات التونسية التقليدية والاهتمام بمزارع النخيل التي تمثل مصدر مادة صالحة للتصدير. مما فقر الواحات القديمة وفلاحيها واجبرهم بعامل الزمن على التخلي عن مهنهم الواحية والهجرة إلى مناطق اخرى للارتزاق
- استغلال مجحف للموارد المائية جراء الخيارات والسياسات العمومية الخاطئة تجاه الواحات. مما جعل العديد منها وخاصة بمناطق قبلي مهددة بالاندثار لتقلص الموارد المائية الجوفية بشكل عام
- بالتوازي مع كل هذه الاشكالات دخلت التحولات المناخية على الخط لتعميق جراح الواحات التقليدية التونسية، وتزيد من آلامها وخاصة المتعلقة بتراجع حاد في الموارد المائية الجوفية وارتفاع درجات الحرارة، التي ستكون مهددة للمنتجات الواحية ولديمومة واستدامة النشاط الواحي بشكل عام
- غياب الاستراتيجية الوطنية للتحولات المناخية من اي برنامج او خطط عملية مرتبطة بخصوصية المنظومات الواحية التونسية، إضافة إلى غياب الوعي السياسي الرسمي بمخاطر التحولات المناخية على المنظومات الهشة خصوصا
الا اننا، ومن خلال المقاربة التشاركية التي اتبعناها في اعداد هذا العمل، قد اكتشفنا ان الأطراف المعنية بالفضاءات الواحية من فلاحين واحيين وجمعيات مدنية مناضلة في المجال الواحي ونشطاء مدنيين ومجامع مائية تمتلك من الوعي والإيمان بخصوصية منظوماتها الواحية وتميزها، ما جعلها تفهم بشكل جيد ان التحولات المناخية وتأثيراتها المستقبلية يمكن ان تشكل مخاطر جمة على الواحات وتهدد وجودها واستدامتها. فانخرطت منذ سنوات في مسار عملي ميداني مناضل، في شكل شبكات مدنية محلية وجهوية ووطنية واقليمية، من اجل توحيد الجهود وتبادل المعارف والتجارب لحماية المنظومات الواحية من ناحية، وجعلها أقدر على الصمود في وجه التحولات المناخية من ناحية اخرى.
ولعل ما تم تقديمه من اقتراحات واجراءات وتجارب ميدانية لكل هذه الأطراف الواحية، يؤكد ما ذكرناه سابقا. لذلك فان الاعتماد على ما افرزته المقاربة التشاركية خلال هذا العمل، هو الذي مكننا من تقديم المقاربة النظرية الشمولية التي ارتكزت على اربعة ابعاد: البعد التشريعي والقانوني، والبعد المؤسساتي، والبعد التقني والمهني، وبعد الآليات المالية والجبائية.
ان العمل على جعل هذه المقاربة التشاركية والمقاربة النظرية الشاملة، نقاط بداية لحوار معمق وشامل، في إطار رسم التصور الاقدر على حماية واحاتنا وجعلها قادرة على مواكبة التحولات المناخية، هو الهدف الاساس لهذه المحاولة التي انطلقت من فكرة اساسية متمحورة حول أهمية المنظومة الواحية في حيلاتنا وثقافتنا واطارنا الاقتصادي والاجتماعي.
كما انها كانت مغامرة من خلال قلة الدراسات والبحوث المشابهة، التي يمكن البناء عليها وتطويرها. لكن اكتشفنا ان لكل شيء بداية، وان للواحات اهل مصممون على حمايتها وتقوية مقدرات صمودها تجاه تجاهل السلطة وجور التحولات المناخية